متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث

كتاب مصري يتناول أخطاء «الجهاديين» في فهم ابن تيمية

متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث
TT

متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث

متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث

قلة قليلة من المتتبعين في المجال التداولي الإسلامي تعلم أن الإنتاج العلمي الضخم لابن تيمية لا يمكن قط اختزاله فيما تروج له بعض المشاريع الإسلامية الحركية، سواء كانت دعوية أو سياسية أو متشددة، ولا في موسوعة «مجموع الفتاوى» ولا في حقل معرفي مُعين دون سواه.
من هنا تأتي أهمية كتاب الباحث المصري الدكتور هاني نسيره، الذي صدر بعنوان: «متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية»، عن مركز دراسات الوحدة العربية. (بيروت، ط 1. 2015، صدر العمل ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه (115)، وجاء في 431 صفحة).
ميزة هذا العمل أنه يساهم بداية في زحزحة الاعتقاد السائد لدى القارئ العربي والغربي أيضًا (في حال ترجمة الكتاب أو ترجمة أهم مضامينه)، ولكنه يساهم أيضًا في فك الارتباط السائد منذ عقدين على الأقل بين المتن التيمي والخطاب الإسلامي الحركي في نسخته المتشددة، كما هو قائم مثلاً مع لائحة عريضة من الجماعات السائدة في الساحة، من قبيل تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروف اختصارًا بتنظيم داعش).
أصاب المؤلف كثيرًا عندما أشار إلى أن ابن تيمية يُعتبر من أكثر علماء الأمة ظلمًا وافتراءً عليه بما لم يقل، وقد اختلق عليه خصومه، بدءا من محنته عام 705هـ وفي محنته حتى حبسه الأخير سنة 726هـ، كثيرا من الفتاوى والآراء التي لم يقلها، كما اختلقت عليه رسائل وكتابات لم يكتبها، كرسالة «النصيحة الذهبية»، ووصل الأمر بخصومه أن اتهموه بموالاة التتر في مشاركته الدعوية والإصلاحية غير الجهادية في حرب التتر، في معركة شقحب سنة 702 هـ، ولعل أهم رسائل الكتاب كونه يساهم في رد الاعتبار لهذا الهرم العلمي في مجالنا التداولي الإسلامي، وهذا بإقرار كثير من الرموز الفكرية في الساحة، ونذكر منها طه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي وحمو النقاري وغيرها من الأسماء.
ثمة لائحة عريضة من المقدمات أو الدوافع التي تقف وراء اشتغال نسيرة على الكتاب، وقد لخصها في ثلاثة دوافع رئيسية: أولها ضبط مسألة ومشكلة الاشتباه في فهم ابن تيمية، عبر ضبط نسقه، وفق منهج المقولات الحاكمة؛ هناك أيضًا الرغبة في استجلاء فهم هذه الجماعات لشيخ الإسلام ابن تيمية، وتأويله عند المتشددين، وكيفيات القراءة وأدواتها؛ وأخيرًا، إضافة آثار وكتابات ابن تيمية من مسائل الجهادية والإمامة والتكفير والخروج على الحكام، بما يتفق مع نسقه الكلي ويضم شوارده لوحدة خطابه المركزية.
الاشتباه في فهم ابن تيمية
فرضية الدراسة تزكي ما أشرنا إليه سلفًا: «ثمة اشتباه في فهم ابن تيمية في بعض أجزائه»، وهو اشتباه حسب هاني نسيرة، قد يكون موجودًا عند غيره من فلاسفة ومتكلمي وعلماء الإسلام، واختبارًا لصحة هذه الفرضية، سعى الكتاب إلى تعريف وتحديد الهوية والنظام المعرفي لدى كل من طرفي الدراسة: خطاب شيخ الإسلام ابن تيمية من ناحية، وخطاب الجماعات الإسلامية المتشددة المعاصرة من جهة ثانية، مع الكشف عن المقولات الحاكمة والمنطلقات الفكرية والتأسيسية المرتبطة بهما.
توزع العمل على مقدمة وخمسة فصول، حيث جاء الفصل تحت عنوان «ابن تيمية: محطات السيرة وإشكالات الخطاب» في جزأين، تطرق المؤلف في الجزء الأول لمسألة الاشتباه في فهم ابن تيمية، تعريفًا وتمثيلاً، وتطرق في الجزء الثاني لمواضع الاشتباه في مسألة خطيرة، وهي فقه الدعوة والخوارج بين ابن تيمية والمتشددين. في حين جاء الفصل الثاني بعنوان «النظرية السياسية الإسلامية من الماوردي إلى ابن تيمية» حول الفكر السياسي لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأهميته في العمل تكمن في تناول جماعات ذات هدف سياسي ديني تعود إليه، وهي الجماعات المتشددة أو قل «الجهادية»، فكان لا بد من استجلاء نظريته وفكره السياسي أولاً.
أما الفصل الثالث، فجاء تحت عنوان «ابن تيمية وتأسيسات السلفية الجهادية» للتعريف بالأسس الفكرية «للسلفية الجهادية»، وأهم مرجعياتها المعاصرة، وأجيالها المختلفة، وهو ما كان مُهمًا نظرًا إلى غيبة الاهتمام بتأسيسات الخطاب السلفي الجهادي عمومًا، أو موقع ابن تيمية فيه، حيث تطرق المؤلف في الجزء الأول من الفصل إلى ابن تيمية ومسار الحركات الإسلامية المعاصرة، في حين تطرق الجزء الثاني لروايتين مختلفتين حول نشأة التنظيمات الجهادية، قبل التوقف عند تأثير ابن تيمية في البواكير الأولى لأفكار تنظيمات «الجهاد» عند المهندس محمد عبد السلام فرج في «الفريضة الغائبة» ثم في أدبيات وتراث الجماعة الإسلامية المصرية في مرحلة تأسيسها، قبل مرحلة مراجعاتها.
وجاء الجزء الثالث بعنوان «تبلور السلفية الجهادية ومرجعياتها» تعريفًا بأهم رموزها الفكرية وأهم كتاباتهم، وأدبياتهم التأسيسية ثم بالمفاهيم المؤسّسة لخطابهم، وهي مفاهيم أربعة: «توحيد الحاكمية» أو «كفر الحكم بالقوانين الوضعية»؛ وتقسيم الديار بين «دار الإسلام ودار كفر»؛ و«الجهاد ووجوب الخروج على الحاكم»؛ و«الولاء والبراء». ومن هنا جاء الفصل الرابع بعنوان «قراءة مغايرة: مراجعات السلفية الجهادية وابن تيمية»، ومؤسّس على التفصيل في مقتضى الأسئلة التالية: ما علاقة الفتاوى بالنظرية السياسية لشيخ الإسلام بن تيمية؟ وهل يجوز استنطاق واستتباع نظرية سياسية في الإمامة والسياسة، من فتاوى شيخ ابن تيمية تحديدًا، خصوصا أن الفتاوى تظل تاريخية متغيرة وليست مبدأ عامًا كليًا لا يتغير؟ وما القواعد الصحيحة والمعرفية الواجبة في مثل هذا النوع من القراءات؟
أما الفصل الخامس، فجاء بعنوان «مراجعة ابن تيمية من فلسفة الجهاد إلى الفتاوى السياسية»، حيث حاول فيه المؤلف إنتاج قراءة مستقلة عن خطاب الحركات الإسلامية المتشددة، وتأويلاتها لابن تيمية، وكاشفة له في آن، عبر الربط بين الفتاوى والنظر السياسي عند ابن تيمية.
سوء توظيف المتن التيمي
يعج الكتاب بكثير من الخلاصات التي نحسب أنها ستفيد كثيرًا في مشاريع «المراجعات» أو تهذيب الخطاب الإسلامي المتشدد، أو لإدراجها في مشاريع إعادة تأهيل وإدماج المعتقلين الإسلاميين المتورطين في قضايا العنف والتطرف، ونجد في مقدمة هذه الخلاصات، أن كثيرًا ما خالف المتشددون ابن تيمية في كثير من المسائل وخطّأوه، وهو ما ينفي كونه مُلهما أو مَرجعًا، ولكنه كان توظيفًا لغاية الحاكمية، حيث اعتبر المؤلف أنه رغم اللبوس والصياغات السلفية لهذا الخطاب فإنه يغرق في تأويلية جديدة تستهدف الحاكمية فقط.
ليس هذا وحسب، أورد المؤلف عدة نماذج في التسامح وإنصاف المخالف لدى ابن تيمية، منها العفو عمن آذوه من متعصبي المذاهب؛ والتمييز والإنصاف للمخالف؛ وإنصاف الأشعري والأشعرية رغم خلافه مع بعضهم؛ وحمايته البكري الصوري الذي اعتدى عليه بالضرب؛ ونقده للمرزوقية ومتعصبة الحنابلة؛ ورفض تكفير المعيَّن والتماس الأعذار، وجاءت هذه الأمثلة مفصلة في ص 81 وص 88 من الفصل الأول.
من الخلاصات المهمة والمفصلية، تلك المتعلقة بالموقف من التكفير، ففي حين يبدو شيخ الإسلام ابن تيمية رفضًا ومنكرًا لتكفير المعين، يحضر إصرار الجماعات المتشددة المعاصرة على مسائل التكفير، سواء في ذلك تكفير المعين أو التكفير استنادًا إلى أحكام الديار، بل اعترض بعضهم على آرائه فيها صراحة، وخرجوا عليها ولم يقبلوا آراءه فيها، ولم يلتزموا منهجه، مخالفين له، رغم أنهم يستندون بشكل رئيس لفتواه في ماردين التي هي جزء من تصوره للديار في الإسلام، ويشير المؤلف في مقام آخر من الكتاب، وبالتحديد في خاتمة الفصل الخامس أن هذه «الفتوى كانت نظرية»، وحسب تحقيقها النصي تميز في وصفها بالدار المُركبة، بين المغول المسيطرين فعليًا والحكم الاسمي والبروتوكولي للمسلمين؛ بمعنى آخر، ترتيب الخصومة عند الفقيه ابن تيمية تقف ضد الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى، والتحفز ضدها انطلاقًا من هاجس الخطر على العقيدة والدولة السنية، وليس ضد الدولة رغم ما اخترم كثيرًا من حكامها من شوائب الخروج والمعاصي وفي مقدمتهم الناصر بن قلاوون الذي يبجله ابن تيمية في هذه الرسالة. (ص 389).
وفيما يتعلق بالموقف من مسألة الإمامة والحكم، يتضح كذلك أن الإمامة ومسألة الحكم لم تكن مسألة أولوية أو رئيسية في خطاب ابن تيمية وجهاده، وعلى العكس من الحركات والجماعات المتشددة، أكد شيخ الإسلام في «منهاج السنة» ردًا على الشيعة أنها ليست أشرف المسائل في الدين، بل مسألة متأخرة، لأن قضيته الأولى كانت هي التوحيد وإصلاح عقائد الناس وفهمهم للدين، والخوف من الفرق والبدع أكثر من خوفه من الملل والنحل الأخرى، وهذه خلاصة تطرق إليها المؤلف بالتفصيل في مضامين الفصل الثاني من الكتاب، وتحديدًا في الجزء الثاني منه («النظرية السياسية عند ابن تيمية»)، عندما اعتبر أن شيخ الإسلام لا ينكر جوهرية مسألة الإمامة لدنيا الناس ودينهم، عقليًا ونقليًا، ولكنه يرفض وضعها في الأصول، ويرى أن أقل ما يمكن أن تصل إليه أن تكون من الفروع وفق منطق الضرورة. (ص129).
الفروق بين شيخ الإسلام والجماعات المتشددة
إهمال المتشددين للنظرية السياسية عند ابن تيمية، كانت إحدى خلاصات الكتاب، حيث أهملت الجماعات الإسلامية المتشددة والحركات التابعة لها في مرحلتها الأولى، وفي مراجعاتها، أيضًا النظرية السياسية الإسلامية السنية في الإمامة، عندما قبلت منذ البداية بالخروج الذي كان سمة للفرق غير السنية كالشيعة والخوارج، والحال أن الخروج يبدو مستبعدًا في فكر وسيرة شيخ الإسلام الذي كان يتحرك دائمًا من داخل المشروعية الحاكمة وليس خارجًا عليها.
ولعل كبرى خلاصات العمل، تكمن في تسليط المؤلف الضوء على خطأ المتشددين في قراءتهم لشيخ الإسلام ابن تيمية وللمنظومة السلفية بعموم، من خلال تنظيماتهم المختلفة، واستخدامهم مفاهيم خلطت بين الزمني والتاريخي من جهة، والعقيدي والثابت من جهة أخرى، واستخدامهم مفاهيم وحمولات ابن تيمية النظرية بالمفاهيم نفسها المعاصرة والخاصة بها، من ذلك على سبيل المثال، مفهوم الشريعة الذي يستخدمه ابن تيمية بمفهوم كل الدين اعتقادًا وشرائع، خصوصا الأولى، بينما تستخدمه هذه الجماعات بمفهوم القوانين والتشريعات الإسلامية.

* باحث مغربي



«سادن المحرقة»... حوار مع الجلاّد

باسم خندقجي
باسم خندقجي
TT

«سادن المحرقة»... حوار مع الجلاّد

باسم خندقجي
باسم خندقجي

في تحدٍ جديد لسجَّانه الإسرائيلي، يصدر الأسير باسم خندقجي، المحكوم بثلاثة مؤبدات، الجزء الثاني من روايته «قناع بلون السماء» التي حازت «جائزة الرواية العربية» في دورتها الـ17، وأُعلن عنها في أبريل (نيسان) من العام الحالي. ويحمل الجزء الجديد الصادر عن «دار الآداب» عنوان «سادن المحرقة»، وهو يرتبط بالكتاب الأول بلعبة ذكية، وشيقة، بحيث بالإمكان قراءته ربطاً بما قبله، أو منفصلاً عنه. لكن مَن يعرف الكتاب الأول لا يمكنه إلا أن يعقد مقابلات دائمة، أو يستبطن أبعاد ما يقرأ، معتمداً على الأحداث السابقة.

الظريف في الرواية الجديدة، أن اليهودي الأشكنازي، أور شابيرا، الذي كان الفلسطيني، باحث الآثار نور الشهدي (بطل الجزء الأول) قد عثر على هويته في معطف أسود مستعمل اشتراه، وتقمّص اسمه واستخدم هويته ليلتحق ببعثة أثرية؛ شابيرا هذا هو الذي سيكون محور الرواية الجديدة. وهي مفاجأة للقارئ، الذي لم يكن يعرف عن هذا الشخص شيئاً على الإطلاق، وظنناه مجرد اسم يستخدمه الشهدي وتنتهي حكايته.

شابيرا الشخصية الرئيسية

من مطلع الرواية، نعرف أن أور (37 عاماً) كان من نخبة لواء المظليين في الجيش الإسرائيلي، شارك في حرب غزة عام 2008، وحرب 2006 في لبنان؛ حيث نجا من الموت بأعجوبة في بلدة بنت جبيل، بعد أن قُتل مَن معه، وبقي أياماً بين الجثث. وهو مصاب بعد كل ما عاناه، بـ«اضطراب ما بعد الصدمة». لذا تم تسريحه من الخدمة، والترخيص له بتعاطي الماريغوانا. وها هو يتردد للعلاج عند طبيبته النفسية هداس التي تنصحه بأن يكتب كل ما يخطر له على دفتر صغير، كي تتوصل معه إلى «نقطة التعيين» أو العقدة الأساس.

بمرور الأحداث، نكتشف خلفيات شابيرا وأزماته الشخصية والعائلية المركبة؛ والده في غيبوبة، وأمه مثل جدّيه ماتوا بفيروس «كورونا»، وأخوه الأكبر جدعون قُتل في أثناء تأدية خدمته العسكرية في مخيم في رام الله، وخاله قضى محارباً في سيناء عام 1973.

بروفايل نموذجي

أور هذا، له بروفايل نموذجي لشخص إسرائيلي، ليس فقط من حيث الصلة العضوية بين عائلته والجيش أو الحياة العسكرية، ولكن أيضاً هو واحد من أحفاد الناجين من المحرقة النازية، وتربى على ذاكرة المحرقة وذيولها. وإن نشأ في عائلة علمانية لا علاقة لها بالدين، إلا أن ذاكرته مضمخة برائحة مخيمات التعذيب، التي لم تتوقف جدته عن الكلام عنها. هو نفسه زار مخيم الإبادة النازي «أوشفيتز» في بولندا، ولا تزال تلك الزيارة، على الرغم من أنها كانت وهو في المدرسة، تؤرقه.

تاريخ مليء بالعنف والتراجيديا. والده كان مُصرّاً، رغم اعتراض والدته، على أن يلتحق ابناه، جدعون وأور، بالجيش. الأب نفسه كان عسكرياً، وهو ما يجعل أور يتخيل باستمرار الفظائع التي يمكن أن يكون قد ارتكبها، ويحاول أن يفهم منه ذلك، حتى بعد أن دخل في غيبوبة.

عبء نفسي ثقيل، يرزح تحته أور، الذي نراه متعباً في منزله في جفعات شاؤول، خصوصاً حين يكتشف أن اسمها العربي هو «دير ياسين»، بكل ما يحمله اسم المكان من ذكريات دموية، وسمعة مرعبة. تزداد هلوساته، يعيش منعزلاً دون أصدقاء، بلا نوم، يحاول مكافحة أخيلة تظهر له، تثير في نفسه الرعب. «فتاة القبو» التي تطارده، أشباح المتألمين، ما يسمعه من جرائم ارتُكبت، لعل أحداً من عائلته ارتكب أفعالاً شائنة! كل شيء يدعو للأرق، حتى أحلامه، لا يعرف لماذا يراها بالعربية، منذ سنتين! ما تراه يستطيع أن يفعل؟ لجأ إلى معلمة فلسطينية، وها هو يتابع دروساً باللغة العربية لعل هذا يقربه، من فهم نفسه! وما لا يقوله، إنها قد تكون في لا وعيه، طريقة لفهم مَن حوله.

عبثاً يفعل. إضافة إلى أعراض ما بعد الصدمة، بدأت تظهر عليه علامات انفصام. انتقاله إلى منزل العائلة في تل أبيب؛ هرباً من لعنة دير ياسين، ليس كافياً ليخرجه من الجحيم.

مفاجآت السرد

ينجح باسم خندقجي، في مفاجأتنا، بقدرته الساحرة على الربط بين جزئَي روايته. فإذا كان في الجزء الأول قد نجح في رسم سيكولوجية الشخصية الفلسطينية عبر نور الشهدي، والدخول إلى دهاليزها، من خلال استقراء أزمة الهوية والوجود الملتبس، فهو هنا يفعل العكس. هذه المرة، يأخذنا في رحلة إلى أعماق شخصية أور شابيرا، بكل ما تنطوي عليه من أسئلة وضياع، واستفهامات، ومحاولة فهم للتاريخ المتصدع، وعلاقته بالواقع المنفصم. وتكاد تكون الرواية كلها، محاولة بحث عن الذات، وعقد مصالحة مع مكونات في تركيبة الشخصية، من الصعب الجمع بينها.

لكن الرواية لا تكتفي بهذا، فثمة مفاجآت عديدة تتوالى، تجعل القارئ، متعجلاً معرفة إجابات عنها، خصوصاً عندما يعرف أور بالصدفة أن هويته التي ضاعت في جيب معطف أخيه جدعون وقعت في يد شخص آخر، وأنه استخدمها بالفعل، وعمل بموجبها.

هنا يبدأ البحث الفعلي، وتتوالى اكتشافات أور، ومغامراته لمعرفة حقيقة ما حدث، ومَن هو هذا الشخص المجهول؟ وماذا فعل بعد أن تقمَّص شخصيته؟

كل ذلك سيساعده على بدء فكفكة أزماته الشخصية، حيث يظهر نور الفلسطيني في النصف الأخير من الرواية، بصورة غير متوقعة. ولا داعي لمزيد من التفصيل، كي نبقي للقارئ متعة الاكتشاف. فالكاتب يتمتع بأسلوب سردي منساب، مع حيل روائية تأخذنا إلى حبكات متوالية، تجعلنا في حالة انجذاب متواصل.

الوجه والقناع

تُسجَّل للكاتب، مهارتُه في إعادة استخدام أدوات الجزء الأول نفسها، بطريقة جديدة. فهو أديب يحب اللعب، وبمقدوره أن يسلي القارئ بهذه الحبكات القائمة على المصادفات تارة، والأخيلة تارة أخرى. فهو يعيد إحياء صاحب الهوية اليهودي الذي لم يكن له أي وجود فعلي في الجزء الأول، ويبني له شخصية وعائلة، وحياة كاملة وتاريخاً مديداً. كما أنه يجعل اللغة العربية محوراً من المحاور الرئيسية، تماماً كما كانت العبرية في الجزء الأول. وثمة في الجزأين صديقة أو حبيبة عربية، وأخرى إسرائيلية، تلعب كل منهما دوراً في الإضاءة على الشخصية الرئيسية. ونرى الكاتب في النَصَّين، يركز على استبطان الجانب النفسي، وما يدور من حوارات ذاتية، في محاولة لولوج الدواخل المركبة سواء فلسطينياً أو إسرائيلياً. هذا الصراع الدموي الكبير، يصبح في مستواه الأكثر دراماتيكية حين نعاينه فردياً، ونجد الأشخاص المفترض أنهم أعداء في حالة تواصل إنساني، يلزمهم بمراجعات مؤلمة. أما الكلمة التي لا بد أنها أساس في النَصَّين معاً فهي «الكولونيالية» التي تستغرق من الكاتب عبر شخصية نور كثيراً من الجهد لفهمها وإفهامها.

رواية على الوتر الحساس

تأتي «سادن المحرقة» بصدورها في هذا التوقيت تحديداً، رغم أنها أُنجزت على ما يبدو قبل حربَي غزة ولبنان الحاليَّتين، وكأنها تجيب عن أسئلة كثيرة، صارت تتردد على الألسن. إذ وأنت تقرأ النصَّ، كثيراً ما تلحظ أنه يحاول، من خلال استفهامات أور شابيرا، أن يجيب عن أسئلة من نوع: لماذا كل هذا العنف عند الشخصية الإسرائيلية؟ أو ما الخلفية التي تجعل مجتمعاً يفكر على نحو انتقامي؟ وفي محاولة من أور للعثور على إجابات، يتحاور مع معلمة اللغة العربية، ويصطدمان باستمرار، يكتب على دفتره وكأنما ليفهم، يحاول أن يستنطق والده تكراراً، وهو في غيبوبته، عن تلك الحادثة الشهيرة في النقب للاعتداء الجماعي على فتاة صغيرة، من قبل الجنود، وفي قلبه خشية أن يكون والده مَارَسَ نوعاً من هذه البشاعات.

الأسير والغفران لسجَّانه

يبقى أن باسم خندقجي، يكتب هذه الرواية بعد مرور 20 سنة من عمره خلف قضبان السجن، لكنه متحرر من الجدران، كما في الجزء الأول، ويسطر حكايته، مثل طليق يحب التجول في الشوارع، يصف لنا القدس وتل أبيب، يجلس في المقاهي. يبدو خندقجي مثل مَن يأنف من الكتابة عن السجن، أو يعدّ الكتابة الروائية انتقالاً إلى عالم الحرية. والسؤال الذي من المحال أن تنهي قراءة الرواية، دون أن تتساءل حوله، هو: كيف يمكن لسجين، عاش حالات اضطهاد قصوى، وعانى من سجَّانه ما عانى، يمكن له ليس فقط أن يتقمَّص عدوه، وإنما أن يسخِّر قلمه للكتابة عن معاناته، بل يُقدِّم صورته ضحيةً أكثر مما هو مستعمرٌ مغتصبٌ، ومرتكب جرائم؟

يُشار إلى أن باسم خندقجي اعتُقل في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2004 وكان لا يزال في الـ19 من عمره، أصدر ديوانين، و3 روايات: «نرجس العزلة» عام 2017، و«خسوف بدر الدين» عام 2019، و«أنفاس امرأة مخذولة» عام 2020. ونشر أكثر من 200 مقالة، وأكمل دراسته في السجن. ومع صدور روايته «قناع بلون السماء»، وعدنا أنها ستكون ثلاثية تحمل عنوان «ثلاثية المرايا»، أي أننا لا نزال بانتظار جزء آخر، وهو ما يبرر النهاية المفتوحة والمعلقة التي تنتهي بها «سادن المحرقة».