الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

على أبواب التجربة السياسية المقبلة

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية
TT

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

الصومال 2016: صراع الأجندات المحلية والأجنبية

يُقبل الصومال على مرحلة سياسية جديدة بحلول أغسطس (آب) 2016. تختلف عن جميع مراحل العملية السياسية السابقة، التي بدأت قبل عقد ونصف، تغير اللاعبون المحليون في السياسة الداخلية كما تغير اللاعبون الإقليميون والدوليون الذين يؤثرون في سير العملية السياسية في الصومال ونتائجها خلال الأربع سنوات القادمة وربما إلى أبعد من ذلك. وحسب الجدول الانتخابي الذي اتفقت عليه الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم الفيدرالية، فإن العملية السياسية الحالية ستمتد لشهرين على الأقل، يتم خلالها إجراء الانتخابات البرلمانية بغرفتيها (مجلس الأعيان ومجلس الشعب)، واستكمال تشكيل الأقاليم الفيدرالية (6 أقاليم) وكذلك الانتخابات الرئاسية، وكلها تسير وفق ترتيبات معقدة تتداخل فيه المصالح القبلية والسياسية وتأثيرات الدول المجاورة ومنظمات إقليمية ودولية.
تجري العملية السياسية، الانتخابية والتشكيلية - التنظيمية، في الصومال بينما تتقاسم الحكومة الصومالية النفوذ على أراضيها مع مجموعة من الدول الداعمة ماديا وعسكريا، فالاتحاد الأفريقي لديه قوات يزيد عددها قليلا عن 22 ألف جندي ينتمون إلى خمس دول، وهي بالترتيب: أوغندا (6223 جنديا) وبوروندي (5432 جنديا) وإثيوبيا (4395 جنديا) وكينيا (3664 جنديا) وجيبوتي (960 جنديا) إضافة إلى 552 عنصرا من قوات الشرطة تنتمي إلى كل من نيجيريا وأوغندا وغانا وكينيا وسيراليون.
وتضم البعثة المدنية التابعة للاتحاد الأفريقي أيضا مجموعة من الدوائر المدنية، أبرزها: دائرة الشؤون السياسية ودائرة الشؤون الإنسانية، وشعبة المعلومات، ودائرة الشؤون المدنية ودائرة الأمن والسلامة، ودائرة النوع (الجندر) وشعبة الدعم الفني. وهذه القوات مقسمة علي ستة قطاعات عسكرية في وسط وجنوب الصومال، واسمها الرسمي هو قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال، وتعرف اختصارا بالـ«أميصوم»، وهي بمثابة الحاكم الفعلي للصومال منذ عام 2007.
أما الدعم المالي فيأتي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات الأمم المتحدة، ودول عربية من بينها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر، إضافة إلى تركيا التي تعتبر الدولة الأكثر انخراطا في الشأن الصومالي خلال السنوات الماضية. وكل هذا يجعل من العملية السياسية الحالية في الصومال خاضعة لأجندات محلية وإقليمية ودولية يتم اتخاذ معظم ترتيباتها وقراراتها خارج الصومال، مع إتاحة هامش ضئيل من المناورة للأطراف الصومالية.
ولقد بدأت عملية «فدرلة» الصومال منذ سنوات، وهي أقرب حاليا إلى «فيدرالية الأمر الواقع» ذات الصبغة القبلية، واعتمدت في الدستور الانتقالي الذي لم يتم طرحه للاستفتاء الشعبي بعد. واستقرت هذه الفيدرالية على ستة أقاليم، لكن حدود هذه الأقاليم لم تحدد بعد، ستنظر اللجنة الوطنية المستقلة بشأن الحدود بين الأقاليم، وهي لجنة لم يتم تفعيلها حتى الآن.
وللعلم، ينص الدستور الصومالي الانتقالي على أنه «يحق لأي اثنتين أو أكثر من المحافظات الصومالية (18 محافظة) تشكيل إقليم فيدرالي، ويصبح هذا الإقليم عضوا في الدولة الفيدرالية الصومالية». ويترك الدستور للبرلمان تحديد عدد الأقاليم الفيدرالية التي تتكون منها الجمهورية. ورغم ذلك فإن الأقاليم التي تشكلت حتى الآن تشكلت بالأمر الواقع حسب الديموغرافية القبلية، مع وجود امتدادات قبلية في هذا الإقليم أو ذاك.
ومع أن الدستور أيضا يجعل شؤون «السياسة الخارجية، والدفاع، والجنسية والهجرة، والسياسة النقدية» من اختصاصات الحكومة الاتحادية، فإن النموذج الفيدرالي الصومالي الحالي يبدو وكأنه دول مستقلة لا يصرح أطرافها بذلك، في الوقت الذي يرتبطون فيه بعلاقات ظاهرة وغير ظاهرة بالخارج بعيدا عن نفوذ الحكومة الاتحادية.
وقد وجهت انتقادات كثيرة إلى النظام الفيدرالي الصومالي بشكله الحالي بأنه نظام يناقض التركيبة السكانية المتجانسة للصومال، حيث لا توجد فيه تنوعات دينية أو عرقية أو لغوية، أو حتى عوازل جغرافية فالصوماليون يتحدثون لغة واحدة وينتمون إلى عرق واحد ويعتنقون ديانة واحدة هي الإسلام، إذ يتبع كلهم المذهب الفقهي الشافعي. ويرى المنتقدون أن حماسة القادة السياسيين للفيدرالية هدفه تقوية نفوذهم على حساب الحكومة الاتحادية أكثر منه تأسيس نظام يقود إلى تعزيز الوحدة والاستقرار.
كذلك يثير كثير من الصوماليين علامات استفهام حول التصميم الحالي للأقاليم الفيدرالية في الصومال، الذي يخالف جميع التقسيمات الإدارية المعروفة منذ الاستقلال. ويجري تداول شرطين أساسيين (غير معلنين) في الأوساط الشبيه الصومالية لتشكيل أي إقليم فيدرالي صومالي هما: أن يكون له منفذ بحري، وأن تكون له حدود مع إثيوبيا (بلد مغلق)، ما يوفر لهذا الإقليم استقلالا اقتصاديا نسبيا ويعطي لإثيوبيا نفوذا سياسيا وعسكريا عليه بحكم الجوار. بغض النظر عن صحة هذه المعلومات فإن هذين الشرطين ينطبقان على الأقاليم الستة الموجودة حاليا في الساحة.
والأقاليم التي تشكلت حتى الآن هي خمسة أقاليم فيدرالية هي: بونت لاند (شمال شرق) وجوبا لاند (جنوب) وإقليم الجنوب الغربي، وغلمدغ (وسط) وهيران شبيلي (وسط - وقيد الإنشاء). أما الإقليم السادس فهو إقليم «أرض الصومال» أو صومالي لاند (شمال) الذي أعلن الانفصال عن بقية الصومال تحت اسم «جمهورية أرض الصومال» لكنه إقليم غير معترف به إقليميا ودوليا. ولقد رفض هذا الإقليم الانضمام إلى العملية السياسية في الصومال منذ إعلانه الانفصال عام 1991.
أما الانتخابات البرلمانية لغرفتي البرلمان الأولى والثانية فتجرى على مرحلتين في شهر أغسطس المقبل، حسب الجدول المتفق عليه حتى الآن. وتتكون الغرفة الأولى (أي مجلس الأعيان) من 56 عضوا يصار إلى اختيارهم على أساس الأقاليم الفيدرالية الستة المعترف بها، حيث تكون الكلمة الأخيرة في اختيارهم لرؤساء الأقاليم الفيدرالية مع مراعاة التوازن القبلي أيضا، بينما تستمر المفاوضات بين الأطراف السياسية الصومالية حول تخصيص مقاعد إضافية للعاصمة مقديشو، التي لم يتم حسم موقعها في النظام الفيدرالي حتى الآن.
أما الغرفة الثانية من البرلمان الصومالي (أي مجلس الشعب) فتتكون من 275 عضوا يجري انتخابهم وفقا للمحاصصة القبلية التي تعرف محليا بنظام «الأربعة والنصف» الذي يصنف القبائل الصومالية إلى أربع مجموعات قبلية كبيرة، وتحالف للقبائل الصغيرة اعتبر نصف قبيلة.
ويتم اتباع نظام انتخابي جديد غير مباشر، حيث أنشئ ما يشبه دائرة انتخابية قبلية خاصة تتكون من 51 ناخبا لكل دائرة التي تنتخب نائبا واحدا في البرلمان. ويترشح الأعضاء الذين يسعون لدخول الغرفة الثانية للبرلمان (مجلس الشعب) في هذه الدوائر الانتخابية الخاصة بقبيلتهم كل على حدة، فيما يبلغ عدد الناخبين الذين سينتخبون أعضاء البرلمان المقبل 14 ألف ناخب يمثلون القبائل الصومالية المختلفة سينتخبون الأعضاء الـ275 في البرلمان.
وبشأن توزيع الدوائر الانتخابية القبلية فإنه تحقق في الأقاليم الستة لانتخاب الغرفة الثانية من البرلمان، على الترتيب التالي: إقليم أرض الصومال (47 مقعدا)، إقليم بونت لاند (40 مقعدا) إقليم غلمدغ (36 مقعدا)، إقليم جوبا لاند (39 مقعدا)، إقليم هيران شبيلي (37 مقعدا)، إقليم جنوب غربي (69)، إضافة إلى قبائل البنادريين من سكان العاصمة (7 مقاعد).
ولكن تدور حاليا معركة أخرى في الأوساط السياسية حول تحديد أعضاء الدائرة الانتخابية الخاصة بكل نائب، حيث يسعي المرشحون للبرلمان وللرئاسة إلى فرض أعضاء موالين لهم في هذه الدوائر لوضع بصماتهم على نتيجة الانتخابات بشقيها البرلماني والرئاسي.
وتبدأ عملية تحديد أعضاء الدوائر الانتخابية القبلية من زعماء العشائر المعترف بهم ويبلغ عددهم 135 زعيم عشيرة، وتشرف عليهم اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، وممثلون عن الاتحاد الأفريقي ومنظمات المجتمع الدولي، ثم يتوجه الناخبون إلى عواصم الأقاليم الفيدرالية لانتخاب النواب، حيث من المقرر أن تعقد هذه الانتخابات في وقت متزامن، وبعدها ينتقل النواب المنتخبون إلى العاصمة مقديشو لأداء اليمين الدستورية ثم انتخاب الرئيس في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل حسب الجدول الانتخابي. ولأول مرة يقوم البرلمان الصومالي بغرفتيه بانتخاب الرئيس.
وقد استبعدت الأحزاب السياسية الناشئة عن المشاركة في العملية السياسية الحالية التي حصرت بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم الفيدرالية. ورغم مصادقة البرلمان مؤخرا على قانون الأحزاب السياسية في البلاد، فإن الأحزاب الموجودة لن تشارك في الانتخابات بصفتها الحزبية بل أجّل ذلك إلى عام 2020، ولكن يحق لأعضاء الأحزاب الترشح للبرلمان عن طريق قبائلهم في الانتخابات المرتقبة.
ويشكل موقف إقليم «جمهورية أرض الصومال» (شمال البلاد) الرافض للعملية السياسية الحالية برمتها مشكلة أخرى للحكومة الاتحادية ولحكومات الأقاليم الفيدرالية الأخرى. وكما سبق فإن «أرض الصومال» تعتبر نفسها دولة مستقلة ذات سيادة، وحقًا أعلنت أنه لا علاقة لها بما يجري في الصومال، وأن لها نظامها السياسي والانتخابي الخاص بها، وفشلت المفاوضات - التي ترعاها تركيا منذ سنوات - بين «أرض الصومال» والحكومة المركزية في مقديشو، في ضم الإقليم إلى العملية السياسية الحالية في البلاد.
وفيما يبدو أنه محاولة للتغلب على مشكلة تمثيل «أرض الصومال» في البرلمان المرتقب، تقرر تخصيص 58 مقعدا من غرفتي البرلمان للقبائل الساكنة في الإقليم، كما كان الحال في الانتخابات السابقة، ومن المتوقع أن تجري عملية انتخاب هؤلاء النواب في العاصمة مقديشو في وقت لاحق من أغسطس المقبل.
وفيما يتعلق بالعاصمة مقديشو فإن الخلافات لا تزال قائمة حول وضعها المستقبلي في النظام الفيدرالي الجديد، حيث تأجل حسم وضعها إلى أجل غير مسمى.
وما يجدر ذكره أن القبائل التي تشكل الأغلبية من سكانها تطالب باعتبارها إقليما فيدراليا قائما بذاته نظرا للثقل السكاني والاقتصادي والسياسي التي تتمتع به (نحو مليوني نسمة)، في حين تطالب قبائل أخرى بتخصيص مقاعد لها في غرفتي البرلمان لكن بشرط أن يكون التمثيل القبلي لهذه المقاعد متساويا بين القبائل الصومالية، لأن مقديشو هي العاصمة القومية للبلاد. وثمة قبائل تطالب أيضًا بجعل مقديشو «منطقة محايدة» لا تمثيل لها في العملية السياسية على أن تحتفظ بمكانتها كعاصمة للبلاد، ومقر للحكومة المركزية والمؤسسات الوطنية الأخرى.
ورغم الطابع القبلي الخالص للانتخابات البرلمانية والرئاسية المرتقبة في الصومال فإن الصراع ينحصر في ثلاثة أطراف رئيسية في البلاد، هي: التيارات الإسلامية، ومجموعات رجال الأعمال على اختلاف قبائلهم، وباقي الفئات. ولقد سطع نجم الإسلاميين في السياسة الصومالية منذ قيام «حركة المحاكم الإسلامية» (2006) التي أطاح بها التدخل العسكري الإثيوبي الذي كان يحظى بدعم جهات دولية وإقليمية عدة، وتولي الرئيس السابق شريف شيخ أحمد الرئاسة (2009) مدعومًا من التيار الإسلامي، ثم مجيء الرئيس الحالي حسن شيخ محمود إلى السلطة (2012) بدعم من التيار الإسلامي أيضا.
ويعتبر الإسلاميون الصوماليون على اختلاف مشاربهم تيارات عابرة للقبائل نسبيًا، الأمر الذي قد يمكّنهم من بناء تحالفات سياسية فيما بينهم، ومع أنه سادت حالة من العداء والتنافس الشديد المشهد الإسلامي في الصومال في التسعينات، لكن تجربة المحاكم الإسلامية وما أعقبها من تطورات، خلقت جوا من التقارب بين الإسلاميين وخاصة بين التيارات المحافظة والإخوانية بأطيافها المختلفة. كذلك مع أنه قد يكون الوقت مبكرا للحكم على خريطة التحالفات السياسية والقبلية والآيديولوجية للتأثير على الانتخابات البرلمانية والرئاسية في الصومال، إلا أن تيارات الإسلام السياسي هي الأكثر تنظيما واستعدادا لهذا الحدث، ومن شبه المؤكد أن يكون لممثليها وجود ملحوظ في مجلسي البرلمان.
أما مجموعات رجال الأعمال الذين تعزز نفوذهم المالي والسياسي في السنوات الماضية بسبب ضعف الحكومات في مقديشو وفي الأقاليم، فإنهم يشعرون بتهديد مصالحهم في حالة مجيء برلمان وحكومة لا يخضعان لنفوذهم. وبناءً على ذلك فإن عشرات من رجال الأعمال وأصحاب الشركات العملاقة يترشحون الآن لغرفتي البرلمان، وفي نفس الوقت يدفعون بمرشحين مدعومين من طرفهم لدخول البرلمان، بهدف تشكيل كتلة برلمانية مؤثرة تدافع عن مصالحهم، كما أنهم يسعون إلى دخول الحكومة أيضا وكذلك دعم أحد المرشحين للرئاسة.
والحقيقة أن رجال الأعمال الصوماليون بنوا إمبراطوريات مالية بسبب غياب النظام الضريبي والتنظيم التجاري في البلاد، واستطاعوا التأثير على قرارات الحكومات والبرلمانات عند إثارة القضايا المتعلقة بالضرائب وتنظيم النشاط التجاري والاقتصادي في البلاد، والآن يسعى كثيرون منهم إلى حماية مصالحهم المالية مهما كان الثمن.
وبناء على هذه المؤشرات فإن البرلمان الصومالي القادم وكذلك الحكومة الاتحادية سيضمان وجوها من التيارات الإسلامية المختلفة، ورجال الأعمال المؤثرين أكثر من أي وقت مضي. وليس مستبعدا أن يفوز مرشح من التيارات الإسلامية أو مدعوم من قبلها بمعركة الرئاسة التي تتحكم فيها مجموعة من المؤثرات المحلية والإقليمية والدولية أيضا، تتضح معالمها كلما اقتربنا أكثر من موعد الانتخابات.
وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات المرتقبة فإن أي سلطة قادمة في الصومال ستواجه نفس التحديات التي واجهتها الحكومات السابقة بما فيها تلك المنتهية ولايتها بعد شهرين. فالوضع الأمني رغم التحسن الملحوظ لا يزال متعثرا، فبناء الجيش الوطني لم ينجز بعد، الأمر الذي يحتم على السلطة القادمة الاستمرار في الاعتماد على قوات الاتحاد الأفريقي. ثم إن «حركة الشباب» رغم خسارتها معظم المناطق الحضرية التي كانت تحكمها، فإنها لا تزال تسيطر على مساحات واسعة من وسط وجنوب البلاد، وتشكل تهديدا أمنيا واضحا في العاصمة والمدن الرئيسية في البلاد.
أضف إلى ما سبق أنه بسبب غياب مصادر دخل وطنية، فمن المتوقع أن تستمر السلطة الجديدة المقبلة في الاعتماد على المعونات الخارجية بشكل أساسي، وهي معونات غير ثابتة ترتفع وتنخفض حسب المزاج السياسي الدولي، كما أن هذا الدعم سيتأثر بحسب لون البرلمان والرئيس والحكومة التي ستفرزها الانتخابات المرتقبة، ومعنى ذلك أن الصومال سينتقل إلى مرحلة جديدة بتحديات قديمة.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».