هناك تعبير إنجليزي يقول: «اليوم التالي لليلة الماضية»، لوصف حالة ما بعد تعرض بلد لزلزال أو أي حدث كارثي. إذ أجمعت الأكثرية الساحقة من مراقبين، إعلاميين وسياسيين، على وصف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بـ«الزلزال». وأريد في التشبيه هنا التعامل مع تداعيات الكارثة بعقلانية وواقعية وهدوء، لأنه لا يوجد خيار آخر سوى البدء في تنفيذ آلية الخروج. وبدأت كل الأطراف المعنية، البريطانية والأوروبية وحتى العالمية الأخرى، في محاولة الخروج من المأزق بسرعة وبأقل التكاليف. بريطانيا، أمس السبت، بعد يوم من التصويت في الاستفتاء التاريخي، الذي أخرجها من اتحاد صوتت في استفتاء على الدخول فيه قبل 40 عاما، بدأت تعد خسائرها أو ربما أرباحها (حسب المعسكر الذي تنتمي إليه). لكنها تبدو أكثر انقساما أكثر من أي وقت مضى.
وكشفت نتائج التصويت في المملكة المتحدة الانقسامات في هذا البلد، خصوصا في إنجلترا. فقد صوتت لندن التي تتسم بالتنوع مع البقاء في الاتحاد، بينما اختار الخروج الشمال الصناعي وجنوب شرقي البلاد، حيث تغلب الخطاب المعادي للهجرة.
واستيقظ سائحون بريطانيون يزورون نيويورك بعد 24 ساعة على أنباء مفاجأة النتيجة. اضطروا أيضا إلى محاولة التغلب على التكلفة التي ارتفعت على الفور لكل شيء مع هبوط قيمة الجنية الإسترليني.
ووصف غريج رولاند، 49 عاما، وهو من سكان جنوب لندن نتيجة الاستفتاء بأنها مثل «نهاية العالم»، وهو يحاول المرور في صخب ميدان تايمز سكوير.
ومن بين أكبر التأثيرات على المسافرين البريطانيين هو الهبوط الحاد الذي شهدته العملة البريطانية. وفي لحظة ما هبط الجنية الإسترليني بأكثر من 11 في المائة لأدنى مستوى له في أكثر من 30 عاما إلى 3228.1 دولار. وقال رولاند الذي صوتت منطقته بنسبة مرتفعة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي لوكالة «رويترز»: «من الجيد أنني دفعت تكلفة إقامتي في الفندق صباح الأمس». وقالت إيلينا فالينتينا، 25 عاما، وهي أيضا من جنوب لندن إنها تشعر بصدمة شديدة نتيجة زيادة التكاليف. وأضافت فالينتينا، وهي بريطانية من أصل روسي: «هذا أمر غريب وصادم.. كيف ستكون الحياة صعبة على الناس في المملكة المتحدة». وقالت فريا جيل، 34 عاما، وهي من شمال إنجلترا التي صوتت بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي إنها تشعر بالصدمة. وأضافت: «لم يؤثر ذلك علينا بشكل مباشر ونحن نقضي العطلة، لكننا نخشى على قيمة الإسترليني». بعد قرار الخروج أصبح وجود مفوض بريطاني في مفوضية الاتحاد في بروكسل لا داعي له. ومن هنا جاء قرار استقالته أمس. إذ أعلن ممثل بريطانيا مفوض الخدمات المالية، جوناثان هيل، أمس، أنه سيستقيل من منصبه. وقال هيل في بيان: «لا أعتقد أن من الصحيح أن أستمر في منصبي مفوضا بريطانيا. من ثم أبلغت رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أنني سأستقيل». وتابع في البيان أن هذا سيحدث خلال الأسابيع المقبلة، لأن عملية التسليم والتسلم يجب أن تجري بشكل منظم. ويشغل هيل المنصب منذ عام 2014. ويأتي إعلان هيل، 55 عاما، وهو زعيم سابق لحزب المحافظين في المجلس الأعلى للبرلمان وحليف وثيق لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون.
وطالب أعضاء في البرلمان الأوروبي بالفعل باستقالة هيل من منصبه الحساس الذي يكتسب أهمية في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بين بروكسل ولندن. ولعب هيل دورا محوريا في صياغة القواعد التي تتيح للقطاع المصرفي الضخم في بريطانيا دخول أسواق منطقة اليورو. وقال في بيانه إنه وصل إلى بروكسل «مشككا في أوروبا»، غير أنه بات مقتنعا بأنه «على الرغم من الإحباطات، فإن انتماءنا (إلى الاتحاد الأوروبي) جيد لمكانتنا في العالم ولاقتصادنا». وردا على استقالة هيل، أعلن يونكر استعداده للنظر في تعيين مفوض بريطاني جديد، مشيرا في بيان إلى أن المفوض الأوروبي للعملة الموحدة، فالديس دومبروفسكيكس، سيتولى في الوقت الحاضر مهام هيل.
وجاء في البيان الصادر عن المفوضية أن «الرئيس يونكر يبقى على استعداد للبحث سريعا مع رئيس الوزراء البريطاني أسماء محتملة لمفوض من جنسية بريطانية، فضلا عن مسألة تخصيص حقيبة محتملة».
زاد إعلان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الاستقالة من الغموض العام. ويبدو رئيس البلدية السابق بوريس جونسون، زعيم حملة الخروج، خيارا منطقيا ليصبح خليفته. لكنه وبعد أن كان يحظى بشعبية كبيرة عندما كان رئيسا لبلدية لندن، بات جونسون محط غضب قسم من سكان بريطانيا. لكنه ما زال يحظى بشعبية في داخل الجناح اليميني في حزب المحافظين الحاكم.
إلا أن عملية انتخاب زعيم جديد، ليصبح رئيسا للوزراء لن تكون بالأمر السهل، لأنه ستكون هناك منافسة شديدة على المنصب في المعسكرين المتناحرين في حزب المحافظين. كما أن رئيس الوزراء الجديد هو من سيقود المفاوضات مع أوروبا لخروج بريطانيا من الاتحاد. ولهذا فقد علق أحد أعضاء حزب المحافظين أمس خلال مناظرة لـ«بي بي سي»، قائلا: «قد يقرر الحزب الالتجاء للشعب مرة أخرى، وينظم انتخابات عامة في الخريف المقبل»، أي قبل أكثر من ثلاث سنوات من موعدها المحدد.
تعرض بوريس جونسون لهتافات معادية عند خروجه من منزله أول من أمس (الجمعة)، طالب بعض الأشخاص بغضب ودون قناعة فعلية باستقلال العاصمة التي أيدت بغالبيتها البقاء في الكتلة الأوروبية.
كما أن الوزيرة الأولى في اسكوتلندا نيكولا ستيرجن أعلنت أن الحكومة الاسكوتلندية سوف تبدأ على الفور مباحثات مع الاتحاد الأوروبي، في خطوة إعلامية ذكية تحاول من خلالها تهيئة الظروف لاتخاذ خطوات دستورية لتنظيم استفتاء آخر قد يمنحها الانفصال عن المملكة المتحدة، ومن ثم انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. اسكوتلندا في استفتاء الخميس صوتت بقوة وبأكثرية ساحقة لصالح البقاء في أوروبا.
60 في المائة صوتوا في اسكوتلندا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، مما استدعى البرلمان المحلي في أدنبره إلى عقد اجتماع طارئ السبت، للتباحث في عواقب التصويت الذي يمكن أن يؤدي إلى استفتاء جديد حول استقلال اسكوتلندا. كما تجد بريطانيا نفسها أمام شركاء أوروبيين يريدون خروجها بأسرع وقت. وبعد أربع وعشرين ساعة على صدور نتيجة الاستفتاء، يحاول البريطانيون والأوروبيون استيعاب القرار التاريخي الذي أدى إلى تراجع كل البورصات العالمية وكشف عن انقسامات عميقة. في المقابل، تجاوزت عريضة على الإنترنت موجهة إلى البرلمان البريطاني للمطالبة بإجراء استفتاء ثان حول الاتحاد الأوروبي عتبة مليون توقيع. وتطالب العريضة بإجراء استفتاء جديد بعد الاستفتاء الذي نظم الخميس وقضى بنسبة 51.9 في المائة من الأصوات بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في قرار أثار انقساما شديدا في هذا البلد. على شبكات التواصل الاجتماعي، عبر الشبان الذين صوتوا بشكل مكثف من أجل البقاء عن غضبهم ضد الناخبين الأكبر سنا الذين يتهمونهم بتعريض مستقبلهم للخطر. وتساءل البعض: «ماذا فعلنا؟».
في المقابل، يواصل معسكر الخروج الاحتفالات التي استمرت طوال الليل بـ«يوم الاستقلال». وعرض زعيم حزب يوكيب المناهض لأوروبا الاحتفال بـ23 يونيو (حزيران) بوصفه عيدا وطنيا، بينما أشادت الصحف المشككة بأوروبا الصادرة (أمس)، وفي مقدمتها «ذي صن» و«ديلي ميل» بـ«شجاعة» الشعب البريطاني. وعكست عناوين الصحف البريطانية (أمس) الاختلافات بين آراء الناخبين. وكتبت صحيفة «ديلي ميل» الشعبية المشككة بأوروبا «إنه اليوم الذي نهض فيه شعب بريطانيا الهادئ أمام الطبقة السياسية المتغطرسة والبعيدة عن الواقع وأمام النخبة المتعالية في بروكسل». أما في معسكر مؤيدي البقاء فتساءلت صحيفة «ديلي ميرور»: «ما الذي سيحصل الآن؟». يرى خبراء أن الخيار التاريخي للبريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي يعكس «تمردا للشعوب» على نخبهم. وقال دومينيك مويزي من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في تعليقات للوكالة الفرنسية: «إنه التفسير الرئيسي لما حدث: البريطانيون قالوا لا لنخبهم. إنه تمرد الصغار على السلطة».
وقال دومينيك مويزي إن «الخصوصية المتعلقة بالاتحاد الأوروبي هي رفض المشروع الأوروبي»، أي تأنيب الحاكمين على «استسلامهم لبروكسل». وأضاف أنه «في الولايات المتحدة لا يتهم ترامب أوباما ببيع وطنه إلى منظمة تطغى على القرار الوطني». وأكد نيكول فونتين أن «القادة لم يفهموا هذا الرفض المتزايد للشعوب لأوروبا لم يعودوا يرون أنفسهم فيها. بنيت أوروبا بلا شعوب، وكل شيء يجب أن يبنى من جديد».
وقالت ميلاني سولي، المحللة السياسية البريطانية التي تقيم في النمسا، إن «ثقة الناس في النظام زالت. الاتحاد الأوروبي أصبح منتجا يصعب بيعه في المملكة المتحدة وفي أي مكان آخر في أوروبا».
وتشير سولي التي تدير معهد الأبحاث «غو غوفرنانس» في النمسا إلى ازدهار حزب الاستقلال (يوكيب) البريطاني المشكك في أوروبا «وأحزاب مثله في دول أخرى بسبب غضب ناس. يتجاهلهم الموجودون في السلطة، على المستوى الوطني والأوروبي على حد سواء». وأضافت ملخصة الوضع: «يشعرون أنهم متروكون، ولا شيء يصنع من أجلهم، خصوصا في مجالي الهجرة أو الاقتصاد». وتؤكد الرئيسة السابقة المحافظة للبرلمان الأوروبي الفرنسية نيكول فونتين أنها «لم تفاجأ بتصويت هؤلاء السكان الذين يعانون من أوضاع هشة»، وترى أن السبب «أوروبا مريضة بعجزها الديمقراطي».
ورحب كل المشككين في جدوى الوحدة الأوروبية أول من أمس (الجمعة) بالانتصار على «النخب المؤيدة لأوروبا»، ودعوا إلى استفتاءات في بلدانهم حول خروج محتمل من الاتحاد الأوروبي، مثل زعيمي اليمين المتطرف في هولندا وفرنسا غيرت فيلدرز ومارين لوبن.
وقال فيلدرز إن «البريطانيين رسموا لأوروبا الطريق إلى المستقبل والتحرير». وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزبه يأتي في الطليعة في انتخابات التشريعية الهولندية في مارس (آذار) 2017. من جهته، قال جان لوك ميلانشون، وهو من شخصيات اليسار الراديكالي في فرنسا، إن «الدرس هو أن الاتحاد الأوروبي، أن نقوم بإصلاحه أو نتركه». خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو فعليا أهم نجاح للأحزاب الشعبوية. ويبدو تقدم هذه الأحزاب واضحا في هولندا وفرنسا البلدان المؤسسان للاتحاد الأوروبي، وفي النمسا، حيث أخفق اليمين المتطرف بفارق طفيف في الوصول إلى الرئاسة في مايو (أيار)، وفي إيطاليا حيث فاز حركة النجوم الخمس ببلدية روما. وصرح رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس بأن «خطاب سياسيي أوروبا الغروري يثير الشعوب»، داعيا إلى «تغيير السياسات والعقليات لوضع سد في طريق التشكيك في أوروبا».
وقال دومينيك مويزي: «قد تحدث عدوى خطيرة». ولا يعتبر هذا الخبير «مبالغة» تشبيه البعد التاريخي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بانهيار الاتحاد السوفياتي. وقد لجأ إلى صورة سينمائية لتوضيح فكرته، قائلا: «تذكروا في حرب النجوم: هناك الجانب المضيء للقوة وهناك الجانب المظلم. الجانب المضيء هو سقوط جدار برلين والجانب المظلم هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».
في اليوم التالي لخروج بريطانيا.. حسابات ما بعد العاصفة
اسكوتلندا تكشر عن أنيابها.. وأوروبا تتكلم عن «عدوى خطيرة» * مفوض بريطانيا في الاتحاد يقدم استقالته
في اليوم التالي لخروج بريطانيا.. حسابات ما بعد العاصفة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة