* فكرة أن يعود شخص بعد غياب سنوات كثيرة إلى موطنه أو إلى بلدته وعائلته من بين أكثر الأفكار الدرامية تداولاً ومن بينها أكثرها أيضًا نضوحًا بالأبعاد الإنسانية، خصوصًا لو أن الاعتقاد شاع بأنه مات ليفاجأ المقرّبون منه بأنه ما زال حيًا يرزق.
في السينما الأميركية استخدمت الفكرة في أفلام اجتماعية تناولت أحداثها اختفاء أبطالها خلال الحرب العالمية الثانية. وفي السينما المصرية تبدّت كمعالجة ميلودرامية تتمحور حول قرار الزوجة بالزواج من جديد، بعدما أيقنت أنه مات فقط ليصل العائد حيًا إلى البيت قبل لحظات من إتمام مراسم الزواج.
بالنسبة للسينما اللبنانية فإن الأفلام التي شاعت حول هذا الموضوع جادّة حتى ولو كان بعضها حمل مسحة كوميدية. والفيلم الجديد «من السماء» هو عمل آخر يصب في الحديث عن عائد من الموت إلى الحياة الاجتماعية مع قليل من المرح المشروط بالمأساة الخفية المتداخلة في الموضوع.
«من السماء» لوسام شرف. مخرج شاب ولد خلال الحرب الأهلية وأمضى سنواته فيها وتشرّب منها أوجاعها ومعاناتها كما فعلنا جميعًا. هذا قبل أن ينجز هذا الفيلم الذي شاء له أن يتعامل مع الحبكة التي ميّزت الكثير من إنتاجات السينما اللبنانية قبله إنما عبر حكاية مختلفة إلى حد بعيد.
إنه عن شقيقين أحدهما (رائد ياسين) يعمل «بَودي غارد» لمغنية تريد الانخراط في السياسة. يعيش مع والده الغائب عن الحاضر. يردد كلما أراد عبارة «هجموا علينا الإنجليز قطعناهم شقف شقف». والعبارة ذاتها يطلقها على الفرنسيين والعثمانيين وكل من تصيبهم المناسبة.
ذات يوم يستقبل الابن شقيقًا عائدًا بعد عشرين سنة من الغياب (رودريغ سليمان). تصيبه الدهشة. يكرر له أن الجميع يعتقده مات، لكن الشقيق العائد ما زال حيًا. يبدأ الفيلم به وهو يسير فوق جبل من الثلج ثم يسقط. يلتقطه أربعة رجال من عمّال النظافة ثم ينتهي الفيلم به وقد حمله أربعة آخرون هذه المرّة بلا عودة.
ما بين البداية والنهاية يمر الفيلم على خانات الحياة غير المستقرة. شخصيات الفيلم كاريكاتيرية في مكانها. الأب والجار والشقيق البدين الذي يندفع لحماية المغنية من الاغتيال فيصاب هو ثم يفقد النطق لبعض الوقت.. وذلك الأخ الذي لا يزال يجد نفسه خارجًا من زمن وداخلاً إلى آخر. لم يجد نفسه في الأول وقطعًا لن يجد نفسه في الثاني.
* الحرب ومكنوناتها
هذا الوضع يتردد في أكثر من عمل. شخصيات الأفلام اللبنانية التي تداولته تعود من الموت إلى الحياة.. لكن الحياة التي يلجونها ليست طبيعية. في أفضل الحالات، كما في فيلم «روحي» لجيهان شعيب العودة ليس من الغياب الداكن، بل هي مجرد عودة إلى البيت القروي الذي كان المرتع الأول لبطلة الفيلم، إذ تجد نفسها في بيت مهجور، فإن البيت هو الزمن الميّت وهي التي ستحاول أن تبث فيه الحياة من جديد رغم أنها مليئة بالذكريات القلقة وأسئلة المستقبل الأكثر قلقًا.
هذا النوع من العودة يشبه، في منطلقاته على الأقل، تلك التي أقدمت عليها المخرجة رين متري في «لي قبور في هذه الأرض» إنما على الجانب التسجيلي من السينما، حيث تتولى المخرجة الحديث عن ذكرياتها حول البيت الذي ولدت وترعرعت فيه في بعض أنحاء الجنوب اللبناني، وكيف تم تهجير العائلات المسيحية من القرى وعودتها اليوم بعد غياب طويل لتواجه الماضي والحاضر معًا.
وكان فيليب عرقتنجي اشتغل على الموضوع نفسه في فيلمه التسجيلي «ميراث» ليجد نفسه في المعضلة ذاتها: الحرب ومكنوناتها من جهة وما بعد الحرب وهويات الفترة المشتتة من ناحية أخرى.
أول من تناول ثيمة العودة من الغياب البعيد إلى الوطن المنكوب كان المخرج جان كلود قدسي في فيلمه الممتاز «آن الأوان» (1992)، ولو أن الفيلم أيضًا عن الخطف والبحث عن الابن المفقود. بالنسبة لبطل الفيلم (سيمون أبكاريان) هي طلة متلهفة لكنها غير محلولة العقد. بالنسبة للبطلة التي تبحث عن ابنها (دارين الجندي) فإن البحث يجرها حيث لا مجال للتفكير كثيرًا بالأمس. بذلك هي أكثر تعاملاً مع الواقع الجديد ومعرفة به.
«أشباح بيروت» (1998) للمخرج غسان سلهب هو بمثابة الفيلم الحقيقي عن غياب الموتى العائدين إلى الحياة فجأة. دراما حول رجل يظهر فجأة بعدما اعتقد أنه قتل في الحرب. انبعاثه يطرح إشكالات جديدة على محيطه وما يتعامل الفيلم معه بتأمل هو أنه لا العائد يرغب في الحاضر ولا المحيطون به يكترثون للماضي. صدام الغايات ينطلق من هنا.
السينما اللبنانية تحتفي بالعائدين من الموت إلى الحياة غير الطبيعية
السينما اللبنانية تحتفي بالعائدين من الموت إلى الحياة غير الطبيعية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة