ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

بين اتساع خطر الحرب الأهلية وفرص المصالحة

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات
TT

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

تكتل القوى المسلحة الذي أخذ زمام المبادرة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في ليبيا، وتحديدا، في معقله بمدينة سرت - في شمال وسط ليبيا - قلب طاولة التوقعات من جديد في هذا البلد الذي يعاني الفوضى والتحالفات سريعة التغير. واليوم يمكن أن تقرأ مستقبل ليبيا القريب بين عدة خيارات أصبحت أكثر وضوحا عن السابق، منها خطر اتساع نطاق الحرب الأهلية، ومنها القيام بأمر سيئ آخر يكرهه الليبيون ألا وهو تقسيم البلاد إلى دولتين على الأقل، بينما يظل خيار المصالحة باقيا «طوق نجاة» يمكن اللجوء إليه في حال رجح خيار تحكيم صوت العقل.
تتداول التقارير في هذه الآونة أخبار التكتل المسلح الذي قلب طاولة التوقعات في ليبيا، خلال الفترة الأخيرة من الصراع المحتدم فيها، وهو عبارة عن مجموعة الميليشيات المحسوبة على مدينة مصراتة، الواقعة إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس، وبضع بلدات في شمال غربي ليبيا.
يخوض هؤلاء المقاتلون حربا تحت راية «المجلس الرئاسي» لـ«حكومة التوافق الوطني» بقيادة فايز السراج، رغم عدم اكتمال الإجراءات الدستورية والقانونية لعمل هذه الحكومة المقترحة. وتحمل العملية ضد «داعش سرت» اسم «البنيان المرصوص». وبالفعل، تمكن الشبان المتحمسون والضباط الطموحون من شق سحب الغبار وطرد الدواعش من على طول الطريق الواصل بين مدينتي مصراتة وسرت.
الآن يدور القتال داخل معقل التنظيم الإرهابي المتطرف في سرت، المدينة الواقعة على ساحل البحر المتوسط على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من مصراتة، وأكثر قليلا من 400 كيلومتر عن طرابلس. أما السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح فهو: ماذا سيحدث بعد أن تنتهي عملية «البنيان المرصوص» من مهمتها؟ أي بعد أن تقهر الدواعش في عقر دارهم، وتقضي على وجودهم الذي بدأ في سرت مع مطلع عام 2015.

السؤال.. ماذا بعد؟
يمكن أن يكون أخطر سؤال يطرحه أي مقاتل على نفسه هو: ماذا سنفعل بعد أن ننتصر؟ والأخطر منه ألا تكون هناك إجابة.
إن معظم القوات - إضافة إلى بعض القيادات - المنضوية تحت عملية «البنيان المرصوص»، كانت تخوض في صيف عام 2014 حربا محمومة ضد ميليشيات منافسة لها في مطار طرابلس الدولي ومحيطه. وارتبطت تلك الحرب بالصراع على النفوذ وعلى السلطة. لكن، بعد الانتصار في تلك الحرب، وحرق المطار وتدمير ما فيه من مدارج وطائرات، لم تكن هناك إجابة عما ينبغي عمله في اليوم التالي.
ومع ذلك تسببت نشوة النصر في معركة المطار في مزيد من الجرأة لميليشيات «فجر ليبيا»، التي سرعان ما دخلت في حروب عبثية في مناطق داخل طرابلس وما حولها وفي جنوب البلاد أيضا، بالإضافة إلى محاولات قامت بها للاستحواذ على منطقة الهلال الغنية بالنفط في شرق البلاد. وهذا الماضي القريب أصبح اليوم يلقي بظلاله على احتمالات ما بعد هزيمة الدواعش المنظورة في سرت.
ولأن معظم القادة وغالبية الكوادر القتالية الوسطى كانت من المحسوبين على مدينة مصراتة، فإن الخطاب غير المنضبط لبعض الزعماء أظهر في ذلك الوقت مخاوف من المسحة الجهوية - أي الإقليمية - للقوات المصراتية المقاتلة التي كانت تعمل ضمن فريق يتكون من قادة ميليشيات تابعين لكل من جماعة الإخوان المسلمين و«الجماعة الليبية المقاتلة» وغيرهما.

التكتلات العسكرية
من جهة أخرى، فإن القوات القادرة على القتال في عموم ليبيا مقسمة على الأرض بين عدة تكتلات، والتكتل الذي ينطلق عادة من مصراتة ومن طرابلس، يتكون من ميليشيات يقودها في الأغلب متشددون إسلاميون وجهويون متعصبون، وهي عبارة عن خليط من المدنيين «الثوار» وعدد أقل من العسكريين المحترفين. ولقد تمكنت ميليشيات هذا التكتل منذ انطلاق الانتفاضة المسلحة ضد معمر القذافي في 2011 من الاحتفاظ لنفسها بكميات ضخمة مما كانت تحتويه مخازن الجيش الليبي، بجانب مطارات عسكرية وطائرات ودبابات وآليات وصواريخ وغيرها.
واليوم يبدو أن هذا التكتل يحظى بنوع من «التدليل» أو الحظوة من جانب البعض في الأمم المتحدة والبعض من الدول الغربية، وبخاصة بعدما انحازت عدة ميليشيات فيه إلى «المجلس الرئاسي» وفتحت له الطريق للعمل من داخل العاصمة طرابلس. وجرى تناول انطلاق التكتل نفسه ضد «داعش» في سرت بكلمات الإطراء من زعماء دوليين، على الرغم من الخسائر الضخمة التي مُني بها؛ إذ يقدر أن يكون عدد القتلى قد وصل إلى نحو 150 وعدد الجرحى إلى نحو 500.
«الجيش الوطني» كل هذا يدور في غرب ليبيا ووسطها، فماذا عن الشرق الذي توجد فيه غرفة العمليات الرئيسية لـ«الجيش الوطني الليبي» بقيادة الفريق أول خليفة حفتر؟
يعمل «الجيش الوطني» على محاربة الإرهاب منذ عام 2014، وعزز من شرعيته التفويض الذي منحه له البرلمان الليبي المنتخب الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، بالشرق أيضا. لكن، منذ بدأت الأمم المتحدة رعاية حوار وطني قبل نحو سنتين، وما تبعها من مفاوضات انتهت بـ«اتفاق الصخيرات» (في المغرب) بين عدة أطراف ليبية و«المجلس الرئاسي» برئاسة السراج، أصبحت هناك شكوك في القدرة على حسم قضية «التكتلات العسكرية» و«شبه العسكرية».
«الجيش الوطني» بدأ الحرب على الإرهاب في مدينة بنغازي، كبرى مدن الشرق، وفي مدينة درنة وكذلك في بعض بلدات الجنوب قبل أكثر من عشرين شهرا، وحقق انتصارات لافتة على الرغم من أن جيش ليبيا (الموالي للقذافي) تعرض لضربات موجعة وقاصمة للظهر من طائرات حلف شمال الأطلسي «ناتو» طوال ثمانية أشهر من عام 2011.

مرحلة ما بعد القذافي
وبعدما قتل القذافي بدأ الحكام الجُدد عملية ترتيب الأوضاع للمستقبل، لكن الهيمنة كانت واضحة لقيادات التيار المتشدد الذي تدرب زعماؤه الليبيون على القتال في جبال أفغانستان وباكستان والشيشان وغيرها من جبهات الاشتباكات التي كان يغلب عليها طابع حروب العصابات والأصوليات. وكان يمكن ملاحظة قلة الرغبة في إعادة بناء الجيش والشرطة في هذا البلد، مع حالة ارتياح لاستمرار عمل «كتائب الثوار» التي هي عبارة عن ميليشيات مسلحة.
وكما هو معروف، ظهر في أول برلمان وفي أول سلطة تنفيذية وأمنية له، في مرحلة بعد القذافي، شخصيات لها علاقة بتنظيم «القاعدة»، وأخرى موالية لجماعة الإخوان، وثالثة تدعم جماعات متطرفة متباينة. وبدا أن هذا يتعارض مع المزاج الليبي المسالم والراغب في تحقيق أهداف الثورة من ديمقراطية وحرية وعدالة اجتماعية. ولهذا أسقط الليبيون في الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2014 الحكام المرتبطين بتلك التنظيمات، لكن الميليشيات وعددا من الطامحين الجهويين، تحصنوا في طرابلس وطردوا معارضيهم منها، وحرقوا المطار الدولي، كما شنوا أكبر عملية اغتيالات ضد ضباط الجيش والعسكريين النظاميين في القوات المسلحة والشرطة. وبالتالي، اضطر البرلمان الجديد إلى عقد جلساته في شرق ليبيا انتظارا لحسم الموقف.
في الشرق واجه «الجيش الوطني» الميليشيات التي كانت تهيمن على بنغازي وعلى مطار بنينة الدولي الواقع في ضواحيها، وكذلك على درنة، رغم الدعم الكبير الذي كانت تحصل عليه تلك الميليشيات من زعماء يعملون في الظلام في كل من مصراتة وطرابلس.
ومع أن الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة انطلق فإن «الجيش الوطني» نأى بنفسه عن هذا المسار، معتبرا أن مهمته «محددة»، وهي القضاء على الإرهابيين وعلى المسلحين الذين يرفضون الرضوخ لسلطة الدولة الشرعية ممثلة في البرلمان والحكومة المنبثقة عنه. وعلى هذه الخلفية برز تنظيم «أنصار الشريعة» المتطرف (المصنف دوليا كمنظمة إرهابية)، وبرزت معه مجاميع يطلق عليها «مجالس الثوار» تحظى بدعم من القيادات المتحصنة في العاصمة، ومن بينها أطراف كانت على علاقة بالحوار السياسي الذي يحظى برعاية أممية.
وفي خطوة تسببت في تعقيد الموقف أكثر مما كان عليه، أعلن زعماء «أنصار الشريعة» في بنغازي ودرنة مبايعة تنظيم داعش، مع استمرار بعض قادتهم في الوقت نفسه في التعاون مع مجالس الثوار، باعتبار أن الخصم واحد وهو الجيش، وذلك رغم وجود خلافات داخلية والاقتتال بين المسلحين المتطرفين في درنة وغيرها. ومع هذا لم تنقطع خطوط الإمداد بالسلاح والمقاتلين لدعم عمليات هذا الخليط من المتشددين ضد القوات المسلحة، وكذلك ضد البرلمان. وفي قفزة جديدة أدت إلى مزيد من الارتباك في التعاطي مع القضية، بدأ المتطرفون الليبيون جلب المقاتلين الأجانب من مختلف التوجهات.. إخوان.. تنظيم «القاعدة».. «داعش»، بالإضافة إلى مرتزقة يقاتلون بأجر. وبسرعة وجد «داعش» نفسه قادرا على الإعلان عن إمارة خاصة في سرت.

انتصارات وارتباكات
كان «الجيش الوطني الليبي» يقول حتى أسابيع قليلة مضت، إنه سيتوجه للقضاء على التنظيم الدموي في سرت، بمجرد انتهائه من سحق المتطرفين في بنغازي وأيضا في درنة. وبالفعل حقق في شهر مارس (آذار) الماضي انتصارات لافتة في مواقع صعبة. وأدى هذا إلى ارتباك في أوساط القادة في كل من طرابلس ومصراتة، على أساس أنه إذا تمكن «الجيش» من دخول سرت فإنه سيمضي في طريقه إليهم في طرابلس. هكذا كان يفكر بعض القادة في اجتماعات عقدت على عجل في العاصمة وفي بلدات قريبة منها. ومن ثم، بدأت خطة لطمس رايات حفتر التي بدأت تلوح في الأفق، ولا سيما أن لـ«الجيش الوطني» قواعد على مشارف طرابلس نفسها.
وفي هذه الأثناء كانت هناك اتصالات بين كل من المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر، ورئيس «المجلس الرئاسي» فايز السراج مع حفتر، في محاولة على ما يبدو لترويضه بحيث يعمل تحت سلطة السراج، وأن يجلس جنبا إلى جنب مع قادة ميليشيات تتولى حماية «المجلس الرئاسي». وبدأ هذا الموقف هزليا؛ إذ قال أحد العسكريين المقربين من حفتر: «كيف نجلس مع زعماء ميليشيات لا يعترفون بالجيش، بل يحاربونه؟!». واستاء قادة آخرون من رغبة بعض الأطراف الدولية في المساواة بين «جيش نظامي، وميليشيات تعمل خارج السلطة الشرعية ومتورطة في أعمال قتل وتخريب».
وهكذا، عقد قادة «الجيش الوطني» العزم على دخول سرت. وبدأت عدة وحدات عسكرية في التحرك لمحاصرة المدينة، قبل أن تظهر تداعيات سريعة أوقفت كل شيء؛ إذ قفز السراج إلى الأمام قفزة مفاجئة، وأعلن أنه هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما المعروف أن هذا المنصب يشغله رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح، وزاد السراج على ذلك، فأعلن أيضًا تشكيل «غرف عسكرية» لمحاربة «داعش» في سرت، وخرج اسم عملية «البنيان المرصوص» إلى النور انطلاقا من سرت.
وبدأ القتال الذي تحول سريعا إلى محرقة سقط فيها شبان ومدنيون متحمسون للقتال، لكنهم غير مدربين على مواجهة تنظيم دموي مثل «داعش». فعلى سبيل المثال قام «داعش» بعملية التفافية من خلف خطوط «البنيان المرصوص»، يوم أول من أمس، ونفذ ثلاثة تفجيرات في بوابة تفتيش بوقرين، التي تقع بين مصراتة وسرت، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص.
ومن جانبه، وأمام هذا الواقع الجديد أرجأ «الجيش الوطني» تنفيذ خطته في سرت، وركز عملياته على تطهير بنغازي ودرنة من بقايا المتطرفين. وبغض النظر عن الخسائر في الأرواح يمكن للميليشيات التي تعمل اليوم تحت راية «المجلس الرئاسي» أن تنتصر في سرت، كما انتصرت وهي تحمل اسم «فجر ليبيا» في معركة مطار طرابلس، لكن إلى أين؟

إلى أين؟
هل ستتوقف الميليشيات عن القتال وتفتح صفحة جديدة من الحوار السياسي ينتج عنها توافق بين كل من البرلمان المنتخب و«الجيش الوطني» من جانب، والمجلس الرئاسي من الجانب الآخر؟ أم أن نشوة الانتصار في سرت يمكن أن تفتح شهية الميليشيات للتقدم أكثر ناحية المدن الشرقية للدخول في مواجهة مع «الجيش»، ما يمكن أن يتسبب في اتساع خطر الحرب الأهلية وانقسام البلاد إلى غرب وشرق؟
بالمناسبة، تشير بعض التسريبات إلى حصول الأطراف المتحاربة على كميات من الأسلحة المتطورة من السوق السوداء في الخارج. ومع أن المجتمع الدولي يفرض منذ 2011 حظرا على توريد السلاح إلى ليبيا، فإن مجلس الأمن الدولي أصدر قبل بضعة أيام قرارا جديدا يجيز للدول الأعضاء تنفيذ حظر التسليح بالقوة. ويبدو أن هذه الخطوة فسرتها أطراف في البرلمان الليبي على أنها «تصب في مصلحة الجماعات الإرهابية»، كما قال فتحي المريمي، المستشار الإعلامي لرئيس البرلمان، بينما قالت لجنة «الدفاع والأمن» في البرلمان نفسه إن القرار يهدف إلى توسيع صلاحيات المجلس الرئاسي وحكومته التي لم تحظ بثقة البرلمان بعد.
وعلى خلفية انعدام التوافق وأيضًا التربص بين الأفرقاء الليبيين، كانت هناك إجراءات من شأنها أن تعمِّق الخصومة أكثر، وتغير من أرض الواقع بطريقة دراماتيكية. فحتى اليوم المصرف المركزي الليبي منقسم على نفسه إلى ما يشبه المصرفين، أحدهما طبع حاجته من العملة الليبية في روسيا، والآخر قام بطباعتها في بريطانيا. ثم هناك الشركة الوطنية للنفط التي يبدو أنها تعاني آثار الانقسامات، فبعض الدول تحبذ التعامل مع الفرع الموجود تحت هيمنة السلطات الشرعية في الشرق والبعض الآخر يتعامل مع الفرع الموجود في الغرب. وينطبق الأمر على خلافات في مسألة تعيين السفراء والمبعوثين، فثمة دول ما زالت تتعامل مع سلطات البرلمان المنتخب والحكومة المنبثقة عنه، أي حكومة عبد الله الثني في الشرق، وبعض الدول أصبحت تتعامل مع «المجلس الرئاسي» للسراج في الغرب.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».