«المتحف الفلسطيني» يواجه الاعتراضات ويمضي قدمًا

عمر القطان: افتتحناه الآن لنواجه الإحباط ونبث الأمل في قلوب الشباب

أحد العروض الفنية التي قدمت في المتحف يوم الافتتاح.. وفي الإطار عمر القطان
أحد العروض الفنية التي قدمت في المتحف يوم الافتتاح.. وفي الإطار عمر القطان
TT

«المتحف الفلسطيني» يواجه الاعتراضات ويمضي قدمًا

أحد العروض الفنية التي قدمت في المتحف يوم الافتتاح.. وفي الإطار عمر القطان
أحد العروض الفنية التي قدمت في المتحف يوم الافتتاح.. وفي الإطار عمر القطان

بالانتقادات والاعتراضات تمت مواجهة «المتحف الفلسطيني» في بعض الصحف الغربية. وإن كان هذا طبيعيًا حين يتعلق الأمر بذاكرة شعب يتمنى له البعض لو يختفي أثره من الوجود، فإن المستغرب هو أن تشارك أصوات فلسطينية في حملة غير مبررة، لا حجة لها سوى الاعتراض على افتتاح المتحف قبل أن يصبح زاخرًا بالمقتنيات أو يتمكن من تنظيم معرض ما.
يستغرب رئيس فريق عمل المتحف عمر القطان من «حملة مغرضة وظالمة، لا تقدر الجهود التي بذلت، لإقامة هذا المتحف، وسط ظروف صعبة واستثنائية. فمجرد بناء متحف لفلسطين هو إنجاز، فما بالك حين يكون قطعة فنية في هندسته، على أرض، تعيش تحديات خاصة جدًا منذ أكثر من ستة عقود». لم يأت الافتتاح مصادفة ولا ضرب عشواء «قررنا أن نفتتحه في الوقت الحالي، لأن الظروف صعبة. ثمة إحباط ويأس، خصوصًا عند الشباب. هناك عدم ثقة بالأفق السياسي، مع انقسام عميق وحروب أهلية وتشرذم وتدمير ذاتي. ارتأينا، أن وجود مشروع جميل أمر يبعث على الأمل والتفاؤل». ويضيف القطان: «تفاجأنا بالهجوم وشراسته. نيويورك تايمز، مثلاً، رأت أننا، من خلال المتحف، نعكس الفشل العام الموجود في السلطة. هذا أمر غريب. إنه مشروع خاص لا علاقة للسلطة فيه. وقد تأخرنا في العمل بسبب عدم وجود مختصين، ولأن الشخص المسؤول لم يكن يقدم ما طلب منه، وما يرضي تطلعاتنا، وليس عيبًا أن نقول إننا أخطأنا في خيارنا، وعلينا أن نصحح الخطأ، وقمنا بتعيين مسؤول جديد هو محمود هواري، والعمل تتم متابعته، والمعارض ستأتي في الشهور المقبلة».
في الثامن عشر من مايو (أيار) الماضي، صار لفلسطين متحفها على أرضها، بالقرب من جامعة بيرزيت، على تلة مرتفعة مشرفة، تحيط به حدائق لا تقل أهمية في مهمتها التوثيقية للنباتات عن الغاية التي من أجلها أنشئ المتحف نفسه.
فكرة المتحف قديمة، تعود إلى عام 1997، يوم كان أعضاء مؤسسة «التعاون» يتشاورون حول الطريقة التي يمكن من خلالها إحياء ذكرى النكسة الـ98، وطرح إبراهيم أبو اللغد اقتراحًا بإنشاء نصب تذكاري، مما طرح نقاشات طويلة، وارتأى البعض يومها، أن يتم العمل على فكرة لا تعود إلى الماضي وتتوقف عند البكاء على الأطلال، وإنما تعيش الحاضر، وتضيء على المستقبل. وحين تبلورت فكرة المتحف، دبت الحيرة، حول المكان الأفضل لإقامته، هل في القدس؟ حيث يستحيل على أهل الضفة والشتات أن يزوروه؟ خصوصًا أن إسرائيل من المحال أن تسمح بإقامته على أراضي 48، كما أن دخول فلسطينيي 67 إلى تلك المناطق أصبح معقدًا جدًا إن لم يكن مستحيلاً بعد أوسلو، وتكاثف عدد الحواجز التي قطعت أوصال فلسطين. العمل فعليًا لم يبدأ إلا من ثلاث سنوات ونصف السنة، حيث تم استئجار أرض بالقرب من جامعة بيرزيت لمدة 99 سنة، وأطلقت مسابقة دولية لاختيار التصميم، فاز بها مكتب آيرلندي هو «هينفان بينغ».
«التكنولوجيا ساعدتنا، وانطلقنا من فكرة لها علاقة بالخيال العلمي» يقول عمر القطان، الذي يتحدث عن المتحف بحماسة من يرى فيه حلمًا تحقق، «قررنا في النهاية أن نقيم سفينة ترسو في مكان معين ولها أقمار وشراكات وفروع حول العالم. ففي سنتياغو مثلاً يوجد 400 ألف فلسطيني، هؤلاء يجب أن نصل إليهم، وأن نلم الشتات عبر فكرة المتحف الذي يخص كل فلسطيني في العالم». ويكمل القطان شرحه بالقول إن «المتحف الذي افتتح على بعد 25 كيلومترًا من القدس هو السفينة الأم، والأقمار الاصطناعية هي المعارض التي سنقيمها عبر شركائنا حول العالم، باسم المتحف، كان أولها هو الذي يقام حاليًا في بيروت للتطريز الفلسطيني، مع دار نمر». المتحف على شفا إتمام اتفاق مع مؤسسة «طراز» التي تملك أكثر من 20 في المائة من مجموعة الأثواب التراثية العربية لسوريا ولبنان وفلسطين والعراق. و«وداد قعوار كانت لديها الرغبة في إعطائنا المجموعة، لكن نقل أي معروضات إلى الأراضي الفلسطينية، أمر يجب أن ندرسه في كل مرة بعناية. نحن نريد أن نحافظ على مقتنياتنا، ونجد لها المكان الأكثر أمنًا». على أي حال، نقل أي مجموعات من الخارج هو أمر صعب، ودونه تعقيدات. في فلسطين مجموعات شبه جاهزة للمتحف، منها صور إميل حبيبي التي حصل عليها، ومجموعة ملصقات من السبعينات إلى يومنا هذا. ويتم العمل على جمع أرشيف، في مواضيع كثيرة. فقد تم البدء بجمع ألبومات العائلات للصور الفوتوغرافية، بحيث يطلب من الناس، أن يزودوا المتحف بما لديهم بدل أن يرموها. هناك أيضًا فكرة جمع لفيديوهات الأعراس التي هي مهمة جدًا للتاريخ والتوثيق وبعض الدراسات، وأرشفة التسجيلات الصوتية، هذا عدا الوثائق المطبوعة وتلك التي بخط اليد، وهناك الصحف التي لا يهتم أحد بها.
يحدثك عمر القطان عن مشاريع تدرك أنها تحتاج عملاً تراكميًا لسنوات كثيرة مقبلة، ومساحة جغرافية تتجاوز 3500 متر التي تشكل سعة المتحف الحالي. ولذلك فالاتفاق مع جامعة بيرزيت يسمح بإقامة مبنى ثانٍ يلحق بالمتحف بمجرد أن تستدعي الحاجة وتسنح الفرصة. الرؤيا المرسومة، ليست رهن زمن محدد وقصير، التطلع هو لإقامة قاعدة معرفية توثيقية، عليها تبني أجيال مقبلة. هناك مشروع أطلق عليه اسم المسرد الزمني، سيتم إنجازه مع «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» يقوم على بناء رحلات فلسطينية عبر الزمن، للتعرف على المحطات المهمة، بطريقة «الفيزيو ليرنينغ»، وذلك منذ عام 1936 إلى اليوم، بشكل سلس ومتعمق. بحيث يتمكن الزائر إذا ما أراد التمعن في محطة ما أن يتوقف عندها ويسافر في أحداثها، وعندما ينتهي يعود إلى الخط الزمني ليكمل رحلته. لا يراد لهذا المتحف أن يكون مجرد مكان لعرض بعض المحتويات ورفع العتب، إنه نقطة مركزية لحركة نشطة تسعى لفهم وقراءة فلسطين حاضرًا وماضيًا، وكيف يمكنها أن تكون مستقبلاً. عمر القطان بالجهد الذي يبذله، وهو يسافر من مكان إلى آخر، مؤمن بأن «البلاد المكسورة تستطيع أن تقاوم بأنماط جديدة شديدة الحداثة، بعيدًا عن المبارزة المتواصلة والعقيمة مع خطاب صهيوني، لا تؤدي إلى شيء سوى المراوحة في الدائرة نفسها». «محطات تاريخية كثيرة لا تزال ضبابية مثل الفتح الإسلامي لفلسطين» يقول القطان، «نحن بحاجة لعمل كثير كي نجلي الغموض عن أحداث طويلة مرت بها المنطقة العربية».
يعمل المتحف وفق سياسة أفقية، أي التمدد جغرافيًا إلى كل أرض فيها فلسطيني. يصف عمر القطان هذه الاستراتيجية بأنها «تحدٍ للحدود السياسية المفروضة على الناس داخل فلسطين وخارجها، يكون المركز هو المتحف، لكنه يجد اكتماله في المعارض والنشاطات المرتبطة به التي ستقام في دول كثيرة أخرى».
الحدائق مهمة، بل تكاد توازي المتحف في أهميتها، فقد صممت لتقدم رواية للتاريخ النباتي في فلسطين، صممتها لارا زريقات، بحيث يبدأ الزائر زيارته من أسفل التلة صعودًا إلى المتحف، ليبدأ بالنباتات الأصيلة التي وجدت في فلسطين تاريخيًا، يقرأ حكايتها، ويتدرج في التعرف إليها ليصل إلى تلك التي تم استيرادها بمرور الوقت، وأصبحت جزءًا من المزروعات الفلسطينية.
المتحف افتتح، الاعتراضات لن تقف في وجه العاملين عليه، المهمة بالكاد بدأت والعمل لا يزال طويلاً ومضنيًا، ويحتاج مثابرة وكدًا.



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).