المخرج جورج ميلر يواجه المهام الصعبة كرئيس لجنة تحكيم «كان»

حكايات من الغرف المغلقة

أعضاء لجنة تحكيم «كان» هذه السنة في لقطة تذكارية
أعضاء لجنة تحكيم «كان» هذه السنة في لقطة تذكارية
TT

المخرج جورج ميلر يواجه المهام الصعبة كرئيس لجنة تحكيم «كان»

أعضاء لجنة تحكيم «كان» هذه السنة في لقطة تذكارية
أعضاء لجنة تحكيم «كان» هذه السنة في لقطة تذكارية

في السابع من يناير (كانون الثاني) من هذا العام تلقى المخرج الأسترالي جورج ميلر رسالة هاتفية من المدير التنفيذي لمهرجان «كان» السينمائي تييري فريمو يقول له فيها: «هل هذا الرقم ما زال رقمك؟ هناك شيء أريد مناقشته معك. كل عام وأنت بخير».
في تلك الآونة كان مخرج «ماد ماكس: طريق الغضب» موجود في هوليوود وفي ذروة انشغاله بموسم الجوائز. الفيلم الذي يدور حول حياة ما بعد اندثار المدنية عن الأرض كان يلتقط الجوائز من هنا وهناك، والأمل كان معلقًا على الأوسكار التي أخذت تتراءى في نهاية المطاف.
كانت الترشيحات قد أعلنت وورد فيها عنوان هذا الفيلم عشر مرّات في عشر خانات مختلفة من بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج (انتهى للفوز بستة أوسكارات تعتبر تقنية) لكن انشغال ميلر لم يمنعه من الاتصال بفريمو ليسأله عن سبب اتصاله. في هذه المكالمة أخبره مدير مهرجان «كان» إذا ما كان يوافق على رئاسة لجنة تحكيم المهرجان لهذه السنة.
طلب ميلر مهلة قصيرة للتفكير، ثم رد برسالة إلكترونية معلنًا قبوله. الآن هو هنا يرأس فريقًا من السينمائيين من بينهم المخرج الفرنسي أرنولد دسبلاشان والممثلة الأميركية كرستن دنست والممثل الدنماركي ماس ميكلسون والممثل الأميركي (كندي الأصل) دونالد سذرلاند كما المنتجة الإيرانية كاتايون شاهابي التي كانت حققت فيلما انتقاديًا صورته في طهران وسرّبته إلى مهرجان فنيسيا السابق وعنوانه «حكايات».

جدال

مهمّة رئاسة لجان التحكيم مهمة عسيرة في أي من المهرجانات. لكن عسرها يتراوح في الصعوبة من مهرجان لآخر. في بعضها قد تجد عضو لجنة تحكيم نائمًا، أو قد يأتي أحدهم متأخرًا بضع دقائق على العرض. ذات مرّة شاهد هذا الناقد عضو لجنة تحكيم يترك الفيلم بعد عشر دقائق، بل يعلن عن عدم إعجابه به (أكبر خطيئتين). لكن في المهرجانات التي تأخذ كل تفصيلة من أعمالها على محمل جد لا هزل فيه، تزداد الصعوبة الممتزجة بمتعة مزاولة مسؤولية كبيرة كالتحكيم على أفلام المسابقة واختيار بعضها للفوز وطمر الباقي منها.
لجان تحكيم مهرجان «كان» هم الأكثر تلقيًا للأضواء من أي لجنة تحكيم في أي مهرجان آخر. وذلك يعود إلى عوامل عدّة من بينها أن «السعفة الذهبية» التي عادة ما تؤول إلى فيلم واحد (أو تنقسم بالتساوي بين فيلمين أحيانا) لها مكانة عالمية والفيلم الفائز بها قد يقفز حواجز لم يكن يستطيع قفزها لولا فوزه، فيضمن توزيعًا أوسع وتغطية إعلامية أوفر ثم قد يدخل سباق الأوسكار وقد يفوز به.
المتابعون لمهرجان «كان» شهدوا خلال الأعوام الكثيرة الماضية نتائج تعكس وجهات نظر متعددة. فالفيلم الفائز بالسعفة قد لا يرضى عنه النقاد في غالبيتهم وإذا رضوا فإن الجمهور هو من يتذمر. أو قد يرضى عنه الجمهور وحده أو الوسط النقدي وحده.
في عام 1984، على سبيل المثال، ترأس الممثل البريطاني الراحل ديرك بوغارد لجنة التحكيم التي انبثق عنها فوز فيلم فيم فندرز «باريس، تكساس». البعض يقول إن تلاسنًا وقع بين عضوي لجنة التحكيم، المخرج الأميركي ستانلي دونن، الذي عارض منح الفيلم الجائزة وبين المنتج الإيطالي فرانكو كريستالدي الذي كان من بين المتحمّسين له.
بعد اثنتي عشرة سنة، تسلّم المخرج الأميركي فرنسيس فورد كوبولا رئاسة لجنة التحكيم محاطًا بعدد من المتخصصين بينهم مدير التصوير الألماني مايكل بولهاوس والممثلة الإيطالية غريتا سكاكي والمخرج الكندي أتوم إيغويان.
مباشرة حاول إيغويان في الجلسة الختامية التي يتم فيها انتقاء الأفلام الفائزة دفع فيلم مواطنه ديفيد كروننبيرغ «صدام» (Crash) للفوز بالسعفة الذهبية. لكن كوبولا عارض ذلك بشدّة. وفي نهاية النقاش الهادر تم منح ذلك الفيلم جائزة لجنة التحكيم بغالبية الأصوات، الأمر الذي دفع كوبولا للإعلان على المنصّة أن «صدام» لم يفز بإجماع الأصوات.

مشاهدة الفيلم مرتين

والانقسام كان حادًا أيضًا عندما قام فيم فندرز، سنة 1989 برئاسة لجنة التحكيم وصوّت لصالح فيلم أميركي لمخرج غير معروف اسمه ستيفن سودربيرغ الذي لاحقًا ما كوّن لنفسه اسمًا مشهورًا في حقله. إعلان فوز فيلم سودربيرغ، وهو «جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو» تسبب في انقسام بين النقاد الذين اعتبروا أن أفلاما أخرى عرضت في مسابقة تلك الدورة كانت أكثر استحقاقا ومن بينها الفيلمين الأميركيين الآخرين المعروضين وهما «قطار الغموض» لجيم جارموش و«أفعل الشيء الصحيح» لسبايك لي.
حينما يختار مهرجان «كان» محلّفيه، يترك لرئيسهم حرية إدارتهم. بعض رؤساء لجان التحكيم في بعض دورات «كان» السابق، كانوا من فارضي النظم الدقيقة، ومنهم مثلاً الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير والمخرج الفرنسي ستيفن سبيلبرغ.
بعض الرؤساء يصر على نقاش يومي، والآخر كل يومين أو ثلاثة. في حين ترك فورد كوبولا نقاش الأفلام جميعًا إلى الجلسة النهائية مما أتاح لأعضاء لجنة التحكيم التمتع بوقت من الراحة بعيدًا عن ضغط العمل.
على أن واحدًا من أغرب حكايات مهرجان كان مع لجان تحكيمه تعود إلى الخمسينات عندما تسلم المخرج الفرنسي جان كوكتو رئاسة لجنة التحكيم سنة 1953 (وكان من التقليد المتبع آنذاك تشكيل أعضاء اللجنة من سينمائيين فرنسيين فقط). كوكتو وجد أن مشاهدة الفيلم المتسابق مرّة واحدة لا تكفي فأمر بمشاهدة كل فيلم مرّتين، مرّة للتعرف عليه ومرّة ثانية للحكم له أو عليه.
ومما لا نقاش فيه، وبطلب مباشر من رئاسة المهرجان، أن يمتنع كل فرد من أعضاء اللجنة عن الإدلاء بأي تصريح صحافي ولو كان من كلمة واحدة. أو مناقشة الأفلام خارج الغرفة المغلقة. لكن العكس هو ما حدث أكثر من مرّة في أكثر من مهرجان عربي فتسربت النتائج قبل الموعد المحدد، مما دعا بعض المخرجين لعدم حضور الحفل النهائي، أو لتسبيق موعد السفر احتجاجًا.
وفي هذه المهرجانات درجت كذلك عادة أن يكسب رئيس لجنة التحكيم صداقة المخرج أو المنتج صاحب الفيلم الفائز وعداوة أي منهما إذا لم يفز الفيلم.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.