في 12 فبراير (شباط) 1947، أصبح كريستيان ديور، أشهر مصمم أزياء في العالم.. فبين ليلة وضحاها حقق ما لم يحققه غيره، حيث أعاد باريس إلى الخريطة عاصمةً للموضة العالمية دون منازع، وأعاد للمرأة الأنوثة التي افتقدتها طوال سنوات الحرب، وما تطلبته من تقشف واستعمال أقمشة خشنة وتصاميم عملية. في المقابل، قدم لها تصاميم رومانسية طبعها بالورود المتفتحة، فيما أصبح يطبع أسلوبه ويدخل في جينات الدار التي أسسها.
ما يعرف عنه، تفاؤله إلى حد الهوس بالورود والأزهار، التي كانت تلهمه وتغذي خياله، وفي الوقت ذاته تذكره بطفولته في بيت العائلة «لي رامب»، وتلك الساعات السعيدة التي كان يقضيها مع والدته يزرع الورود أو يقطفها. هذه الذكريات كانت وراء عدد من الإبداعات في مجال الموضة والعطور، التي لا تزال تلقى شعبية كبيرة حتى الآن، وليس أدل على هذا من عطره «ميس ديور» و«ديوريسيمو».
في عام 1957، توفي السيد كريستيان ديور فجأة، وبعملية حسابية بسيطة، كان من الممكن أن يختفي اسمه تماما ولا يتذكره سوى قلة من الناس؛ إذ إن سنوات عطائه لم تتعد عشر سنوات، حيث قدم أول تشكيلة له في عام 1947. لكن العكس حصل، فهو من أهم المؤسسات الثقافية الفرنسية، وفي كل مرة نكتشف وجها جديدا له، وتنسج الدار قصة مثيرة من خيط بسيط تلتقطه عن حياته. هذه المرة كان الخيط هو بيت «لو شاتو لا كول نوار» LE CHATEAU LA COLLE NOIRE، المطل على سهل Montauroux. منزل بني في عام 1858، على بعد 40 كيلومترا من مدينة «كان» بجنوب فرنسا، و18 كيلومترا من عاصمة العطور الفرنسية غراس. وقع في حبه من النظرة الأولى رغم أنه كان مهملا، وبعد أن اشتراه حاول ترميمه وتجديده ليكون البيت الذي يقضي فيه بقية أيامه، حسب ما كتبه في سيرته: «أفكر فيه كبيتي الحقيقي، البيت الذي سأنسى فيه يوما ما كريستيان ديور المصمم، وأصبح مجرد إنسان مغمور وعادي مرة أخرى». لكن الموت باغته ولم يعطه فرصة لتحقيق هذا الحلم. المهمة التي أخذتها دار العطور المتخصصة على عاتقها أن تحيي هذا الحلم، فالكل فيه يعرف أن المصمم كان خجولا، لا يميل إلى الأضواء ولا يبحث عنها، بل كان حساسا إلى درجة أنه كان يعاني من حالات قلق وتوتر وأرق، قبل أي عرض أزياء. يعرفون أيضا أن أسعد أوقاته كانت تلك التي يهرب فيها إلى جنوب فرنسا، بعيدا عن أفينو مونتين مقر الدار الرئيسي، لينام بين أحضان الطبيعة. كان دائما يتوق لبيت في الريف يلخص فلسفته وحياته، ويستعيد فيه ذكريات الطفولة، قبل أن تنقلب حياته رأسا على عقب بسبب الحرب وويلاتها. في عام 1951 عثر على بغيته متجسدة في «لو شاتو لا كول نوار» LE CHATEAU LA COLLE NOIRE، وهذا العام تفخر «دار كريستيان ديور للعطور المتخصصة» بافتتاحه. فقد اشترته عام 2013، واستغرق ترميمه ثلاث سنوات، لهذا فإن 2016، بالنسبة للدار، عام تاريخي.
وتؤكد الصور أن المنزل ليس مجرد معلم تاريخي، كان مؤسسه السيد كريستيان ديور يحلم أن يقضي فيه سنواته الأخيرة، بقدر ما هو لوحة فنية تدغدغ كل الحواس بمناظره وطبيعته الخلابة وهدوئه، وطبعا روائحه الزكية، وهو ما تعقد عليه دار العطور المتخصصة كثيرا من الآمال لبناء إمبراطورية في عقر عاصمة العطور.
أهميته العاطفية والعملية، تكمن في أنه لا يبعد عن بيت العائلة «لي رامب» بغرانفيل، حيث عاش طفولة سعيدة، يزرع فيها الورود ويستنشق فيها الأزهار والأخشاب العطرية مع والدته، مما حفزه عندما اشترى هذا المنزل، على أن يعيد كتابة كثير من العناصر القديمة فيه، حيث أشرف بنفسه على زرع آلاف الأشجار والأزهار العطرية، فيما أسند مهمة الديكور الداخلي للمهندس المعماري آندريه سفتشين. أول ما قام به المهندس أنه تخلص من الغرف الصغيرة وحولها إلى صالونات مفتوحة وأجنحة شاسعة تتيح دخول الضوء الطبيعي، وتجعل الداخل امتدادا للخارج. كان السيد ديور يذكره دائما بأنه يصمم له البيت الذي سيقضى فيه سنوات طويلة وسعيدة من حياته، قبل أن يباغته الموت ويجهض حلمه.
ولا تزال الكلمات التي كتبها في سيرته الذاتية عام 1956 يتردد صداها، مؤكدة على هذه الأهمية: «أكتب السطور الأخيرة هذه وأنا في مدينة مونتورو، حيث ساقني القدر إلى هذا المكان الهادئ في ريف الجنوب ليشهد آخر أعمالي. الليل ينحسر حاملا معه سلاما لا نهاية له». النهاية التي كان يقصدها هنا كانت وضع النقطة الأخيرة في سيرته الذاتية، ولم يكن يقصد بها خذلان قلبه له، وأنه قد يفسر بالنهاية.
شغفه بالمكان ظهر أيضا في كتاب نشرته ماري فرنس بوشنا، في عام 1993، بعنوان «كريستيان ديور.. الرجل الذي جعل العالم يبدو بلون جديد»؛ حيث كتبت أنه قال: «أريد أن يكون هذا المنزل بمثابة بيت عائلي، تشعر فيه بأن أجيالا عديدة توالت عليه وتوارثته. لا أريد أي شيء يبدو فيه جديدا، ويجب أن تكتسي كل جزئية فيه بمظهر معتق يعطي الانطباع بأن له تاريخا، وبأنه غني بذكرياته ومثقل بتجارب الزمن».
في عام 1968 بيع المكان وتعرض للإهمال، ثم بيع مرة أخرى في عام 1976 لمالك استخدمه لاستضافة السائحين وإقامة الحفلات الفخمة، خصوصا أن اسمه - أو بالأحرى اسم صاحبه السابق - كريستيان ديور، كان يثير كثيرا من الاهتمام ويزيد من الإقبال عليه. جماله شجع أيضا مجموعة Oasis في عام 1999 على تسجيل ألبومها الرابع «Standing on the Shoulder of Giants» فيه.
وبما أن بيوت الأزياء الكبيرة تتبع حاليا تقليدا مهما، يتمثل في العودة إلى جذورها ومحاولتها البناء على هذه الجذور، في زمن أصبح فيه الذواقة يريدون منتجات وأسماء لها أصل وتاريخ، كانت المسألة مسألة وقت لتستعيده الدار وتعيد له مجده القديم. وفي الوقت ذاته، تحقق حلم كريستيان ديور في أن يحمل اسمه ويتحول إلى معلم في عاصمة العطور غراس، التي تبعد عنه بنحو 18 كيلومترا فقط.
وكانت «دار كريستيان ديور للعطور المتخصصة» قد اشترته في عام 2013 بصفته جزءا من تراثها، وافتتحته هذا العام. ويقول المسؤولون إن العملية كانت طبيعية، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن السيد ديور استلهم عطره الشهير «ديوريسيمو» في المنطقة، وهو عطر تغلب عليه رائحة زنبقة الوادي وأزهار عطرية أخرى ولا يزال يحقق للدار كثيرا من النجاح. العامل الآخر الذي شجعها على استعادته، قربه الجغرافي من مدينة غراس، مسقط رأس عطارها فرنسوا ديماشيه، الذي سيبدأ من الآن فصاعدا ابتكار وصنع عطور «ديور» هنا، على أن يكون باكورتها عطر ستطلقه الدار في الأسواق في شهر مايو (أيار) المقبل، يحمل اسم «كول نوار» Colle Noire على اسم المنزل.
وهكذا عادت الحياة مرة أخرى للمكان، فيما أنيطت مسؤولية تصميم الديكور إلى المهندس إيف دي مارسي Yves de Marseille، الذي قام بعملية ترميم شملت الأرضيات وغرف الضيوف والاستقبال، فضلا عن بهو المدخل ومكتب السيد ديور، الذي كتب فيه سيرته الذاتية، ورسم فيه تصوره للأنوثة والرومانسية.
وحتى لا ينسى الناس علاقة المصمم بفنانين من عصره، ومدى دعمه لهم، أنشأ المهندس أجنحة تحمل أسماء فنانين، مثل: شاغال، وبيكاسو، ودالي.. وغيرهم.
ولم يقتصر التجديد على الداخل، بل امتد أيضا إلى الحديقة المترامية على مساحة 50 هكتارا تقريبا. أشرف على تصميم هذا الفضاء وتشذيبه، مهندس تنسيق المواقع المتخصص في هندسة المناظر الطبيعية، فيليب ديليو. في لقاء خاص، قال إنه حرص على أن يكون الخارج امتدادا للداخل، لهذا وضع أحواض زينة مستلهمة من طراز القرن الثامن عشر، وأحاطها بصناديق الأشجار، كما زرع شجيرات الورد وأزهار السوسن والبنفسج والياسمين، وما شابه من أمور يعرف أن كريستيان ديور كان يهتم ويحلم بها. أما بالنسبة للأشجار الوارفة، من أشجار الزيتون إلى شجر السرو، الذي يبلغ طوله الآن أكثر من 15 مترا، فقال: «كانت موجودة أساسا، وكل ما قمت به أني حاولت إعادة تنسيق المنظر الطبيعي للحديقة، بتقليمها حتى يتكشف جمالها أكثر، وزراعة عشرات الآلاف من شجيرات زهرة «مايو»، وأشجار العنب، وأشجار اللوز، والمزيد من أشجار الزيتون».
* مدينة غراس وعطور «ديور».. بالأرقام
- لإنتاج كيلوغرام واحد من أزهار الياسمين، يحتاج العطار إلى ما بين 8 آلاف و10 آلاف زهرة.
- لإنتاج لتر واحد من الزيت العطري الخام، يحتاج إلى 700 كيلوغرام من أزهار الياسمين.
- كمية الأزهار التي يقطفها عامل واحد في اليوم، تقدر بما بين 10 كيلوغرامات و20 كيلوغراما.
- طريقة القطف مهمة جدا؛ إذ يجب التأكد من قطف الزهرة من أسفل الكأس.
- تبلغ مساحة المعمل الذي أنشأته مؤسسة «إلفي آم آش» لدار «ديور» في مدينة غراس، 320م2.
- تحتوي عطور «ديور» على 50 - 100 زيت عطري خام.
- 30 عاما، هو متوسط العمر المتوقع لزهرة الياسمين.
- 15 عاما، هو متوسط العمر المتوقع لشجيرة الورد.
- 30 ألفا، هو عدد الأزهار المطلوبة لإنتاج كيلوغرام من الزيت العطري الخام.
- هناك مشروع تنوي خلاله «دار كريستيان ديور للعطور» زراعة 20 ألف شجيرة من زهرة «مايو»، رغم أنها زهرة ضعيفة للغاية، وإذا لم يتم قطفها في اليوم الذي تزهر فيه، تصبح غير صالحة للاستخدام.
- تخضع عملية زراعة الأزهار لمعايير صارمة، بداية من الدورة المحصولية للأزهار، وتبوير الأرض لمدة عامين، وحتى قطف المحصول يدويا.
> تشتهر مدينة غراس بأزهار مثل زهرة «مايو»، والياسمين، والميموزا، ومسك الروم، والنارنج. والفضل يعود إلى أن أرضها تنعم لأكثر من 300 عام بالماء والشمس، وتربة جيرية طينية. لهذا، وعلى الرغم من التطور الذي شهدته صناعة دباغة الجلود في المدينة خلال القرن الرابع عشر، فإن الروائح التي كانت تنبعث من هذه الأزهار والأعشاب شجعت على زراعة النباتات العطرية في القرن السابع عشر، الأمر الذي تحول إلى تقليد وثقافة يعتز بها السكان، ويتوارثون أسرارها أبًا عن جد.