«بيت الحكمة» العباسي.. نتاج تعريب الديوان

التنافس البيروقراطي كان محركًا لترجمة تراث الأقدمين عند المسلمين

غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»
غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»
TT

«بيت الحكمة» العباسي.. نتاج تعريب الديوان

غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»
غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»

يحكي لنا ابن النديم في كتابه «الفهرست»، وهو أشمل وثيقة أحصت لنا الأعمال الفكرية إلى آخر القرن الرابع الهجري، قصة عن الخليفة العباسي المأمون (813 – 833م)، بأنه رأى في منامه «رجلا أبيض اللون، مشربا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالسا على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت. من أنت؟ قال. أنا أرسطوطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسالك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم؟».
تروى هذه الرؤيا عادة من أجل فهم لماذا قام المسلمون بترجمة العلوم المسماة «عقلية»، أو كما كانت تسمى أيضا «علوم الأقدمين»، أو «الأوائل»، أو «العلوم الدخيلة». وكما نلاحظ أنها قصة خرافية لا يمكن التعويل عليها لتفسير حركة هائلة من الترجمة، لنقل تراث الشعوب الأخرى إلى العربية، وبوعي شديد مخطط له، ومدعم من طرف الخلفاء، وبمؤسسة كاملة الأركان، لهذا الشأن سميت «بيت الحكمة». فما الأسباب العميقة لهذا الارتماء في حضن الثقافة العقلية العالمية آنذاك؟ لماذا كثرت الفلسفة والعلوم القديمة في التربة الإسلامية؟ ولم لجأ المسلمون إلى ترجمة العلوم من الأجانب؟ وما الحاجة إلى ذلك؟
لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل، منارات فكرية كثيرة كانت عبارة عن مراكز علمية قائمة الأركان، مثل «أكاديمية أفلاطون» التي تأسست سنة 387 ق.م، وليسيوم أرسطو الذي ظهر سنة 335 ق.م، ومدرسة الإسكندرية بمصر التي حافظت على تقاليد اليونان، وأنجبت كثيرا من العلماء ذائعي الصيت، مثل غالينوس في الطب، وإقليدس في الرياضيات.. بل إن التراث الإغريقي سينتقل أيضا نحو سوريا، خصوصا في مركز «نصيبين» و«الرها»، التي كانت من أشهر المدارس الطبية في أواخر القرن الخامس الميلادي.. ليرحل بعد ذلك بعض السوريين، خصوصا النساطرة منهم، نحو الدولة الساسانية هربا من اضطهاد أباطرة بيزنطة وأساقفتها للمذهب النسطوري (نسبة إلى البطريرك نسطور)، المخالف عقديا لتعاليم الكنيسة حول طبيعة المسيح. لتتشكل مدرسة كبرى في جنديسابور، لتصبح في أواخر القرن السادس الميلادي، أعظم مركز ثقافي، بل واسطة للتلاقح الحضاري بين النسطوريين بلغتهم السريانية (أي النسخة المعدلة عن الآرامية التي كانت لغة المسيح عليه السلام)، والثقافة الفارسية بلغتها الفهلوية.
وإذا علمنا أن مدينة جنديسابور قد فتحها المسلمون، فسيجعلنا هذا، نفهم كيف سينتقل التراث الإغريقي ممزوجا بالسورية والفارسية إلى الثقافة الإسلامية العربية.
في حقيقة الأمر، نجد أن الفاعلية العلمية لم تتوقف مطلقا.. فهي ظلت مستمرة وتبحث عن أرض يسودها الدعم والترحاب كي تنتعش، وهي ترتحل دورانا مع الحرية، وتضيق مع التشدد والاضطهاد.. فبؤر المدارس العلمية تسافر ولا يهمها اللغة أو الدين أو النموذج السياسي المتبع، بل العلم يبحث فقط عن مجال للتنافسية بحرية، والاشتغال دون خوف أو اضطهاد. فالرياضيات أو الطب أو الفلك.. وغيرها، تكلمت يوما باليونانية، ثم بعد ذلك بالسريانية، فالفارسية، ثم بالعربية، وبعدها باللاتينية. والإشكاليات هي هي. كما أن هذه العلوم، يمكن أن توجد بأرض مسيحية أو إسلامية.. بوذية أو مجوسية، فالانتماء الديني واللغوي لا يؤثر مطلقا على العلم.
لقد آن الأوان للحسم مع بعض المنطلقات الخاصة بالعلم، وعلى رأسها أنه يجب التفرقة بوضوح بين الأسباب المحركة للعلم والعوامل المساعدة في تحرك العلم، فالعلم سبب حركته في ذاته، فالإشكالات العلمية كما هي.. منطقها خاص، سواء أكانت عند ناطق باليونانية أو السوريانية أو الهندية أو الفارسية أو العربية أو اللاتينية، فما طرحه فيثاغورس وإقليدس بالإغريقية، من قضايا في الرياضيات، بقي كما هو عند الرياضيين العرب، وما أنجزه بطليموس الإغريقي في الفلك، بقي كما هو عند الفلكيين العرب، وما طرحه أبقراط أو غالينوس في الطب، لن يتأثر بنقله إلى العربية. والشيء نفسه يقال عن الانتماء العقدي، فالعلم لا يبالي بذلك، فالعلماء يتواصلون فيما بينهم، مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية.. وهو ما يجعلنا نفهم لماذا مثلا، كان يلقب بطليموس من طرف الفلكيين العرب بـ«الفاضل» على الدوام، على الرغم من الاختلاف الجذري معه لغة وعقيدة.
أما أن للعلم عوامل مساعدة، فهذا يعني أن المؤثرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إما أنها تدفع بالعلم أو تكبحه، فهي تلعب دور المسرع أو المبطئ. فكلما تم تخصيص هوامش للعمل العلمي، وتشجيع العلماء على العطاء، وتوفير جو العمل بتنافس لا يهدد الحياة، فإن هذا يؤدي إلى استقطاب الباحثين من كل أنحاء المعمورة، للانخراط في المشكلات العلمية التي لا انتماء لها، فهي عقلية، والعقل أعدل قسمة بين البشر، كما يقول ديكارت.
هذا بالضبط ما حدث في «بيت الحكمة» العباسي، فهو كان عاملا مدعما للانخراط في أكبر ورشة علمية عرفتها القرون الوسطى.. فكيف ذلك؟
اتصل العرب بعد الإسلام بالحضارات القديمة، وحرصوا على جمع مخطوطاتها، وشرائها، خصوصا الإغريقية منها، والتنقيب عن بعضها المهمل في الأقبية والسراديب، بل المثير هو التنازل للبيزنطيين عن تعويضات الحرب، مقابل تقديم المخطوطات العلمية، خاصة في العهد العباسي، وبالضبط في زمن المأمون. وبهذا يكون العرب وبحماسة منقطعة النظير قد قاموا بأكبر عملية إنقاذ للتراث الإنساني، خصوصا اليوناني منه، الذي كان عرضة للفساد والتلف جراء الإهمال.
وقد جند الخلفاء العباسيون، وبرعاية واعية ومستنيرة، جماعة علمية هائلة، معظمها من السريان، للقيام بمهمة تعريب العلم. ولعل أشهر المترجمين المشهود لهم بالدقة والنقل المنقح، هو حنين بن إسحاق الذي كان يقال إنه يأخذ وزن الكتاب المترجم ذهبا. ولم يكن «بيت الحكمة» يضم المترجمين فقط، بل النساخين والخازنين والمناولين، الذين هم حلقة الوصل بين «بيت الحكمة» ورواده. فبحق، كان «بيت الحكمة» ملتقى الحضارات آنذاك، وجمع في جوفه تراث البشرية. لكن يبقى لافتا للنظر أن الكتب المنقولة عن اليونانية، كانت محصورا في فنون العلم والفلسفة من دون أن تتعداها إلى الأدب والشعر أو الروحانيات، فلم يترجم العرب مثلا هوميروس أو سوفوكل، فهم كان لديهم ما يكفي من الفصاحة والبيان، ولديهم الإسلام.
ويؤكد جورج صليبا، في كتابه «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية»، الذي ترجمه د. محمود حداد (ط.1، عن دار أبوظبي للثقافة والتراث/ كلمة، 2011)، على أن عملية الترجمة وإرادة استملاك المسلمين للعلوم القديمة، تمت مباشرة مع عملية إصلاح الديوان وتعريبه، من طرف عبد الملك بن مروان الأموي، فمن المعروف أن هذا الخليفة هو من سك الدينار العربي متخليا عن النقود البيزنطية، بالإضافة إلى أنه هو من أمر بتعريب الدواوين الذي كان يشتغل به الأجانب بالخصوص. وكما هو معلوم، فإن موظف الديوان يحتاج إلى عمليات حسابية معقدة لحساب الخراج، مما يجعل ترجمة الرياضيات أمرا ملحا، ناهيك بأن وقت دفع الضرائب مرتبط بالتقويم، مما يفرض المعرفة الفلكية. وهو ما يؤكد أن ترجمة الكتب الفلكية قد بدأ في وقت مبكر عن العصر العباسي. ولتأكيد هذا الأمر، يضرب جورج صليبا مثالا واضحا، وهو ترجمة الحجاج بن مطر لكتاب «المجسطي» لبطليموس، سنة 829م، فهو نعم تم في عهد المأمون، لكن الاطلاع على الترجمة يثير الدهشة، فقد تمت بلغة عربية سليمة ونقية، ومصطلحات تقنية ناضجة وممتازة، مع تصحيح للأخطاء، وسهولة في القراءة، مما يعني أنه لو كانت الترجمة قد تمت في عهد المأمون حقا، فلا محالة كانت ستكون رديئة كأي محاولة أولى في أي ترجمة جديدة، فأكيد أن الحجاج بن مطر كانت بين يديه ترجمات سابقة مكنته من أن يقدم ترجمته الأكثر دقة.
يرى صليبا أن تعريب الديوان كان محركا نحو مزيد من الترجمة، ويفسر ذلك كالتالي: فما دام أن الأجانب هم من كانوا يسيطرون على الدواوين، فإن التعريب أصبح يهدد عملهم، لأن العربي سيتمكن من احتلال مكانهم بسهولة، وهو ما سيجعلهم في بطالة، ويضطرهم إلى رفع الإيقاع والذهاب إلى معلومات أكثر دقة، وإلى مزيد من الاجتهاد لخلق حاجات جديدة، حفاظا على مواقعهم وضمانا لبقائهم، مما يستدعي الاتجاه صوب المصادر لاسترجاع مكانتهم. باختصار، يريد صليبا أن يؤكد على أن الترجمة كانت جراء تنافس كبير بين البيروقراطيين، فإصلاحات عبد الملك بن مروان الخاصة بالدواوين، أجبرت الموظفين، الأجانب بالخصوص، وتأمينا لرزقهم، على اللجوء إلى المعرفة الأكثر تخصصا، مما زاد من حمى الترجمة.
إن أطروحة جورج صليبا، توضح أن الترجمة لم تكن حركة من أجل تقليد ثقافة أرقى، بل الأمر انطلق وتم لدواع إدارية صرفة.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.