التلفزيون الثقافي العربي.. «الكلمة تدق ساعة»

الإنجاز الذي حققه سعد الفريح في أواخر السبعينات لا يزال علامة فارقة

التلفزيون الثقافي العربي.. «الكلمة تدق ساعة»
TT

التلفزيون الثقافي العربي.. «الكلمة تدق ساعة»

التلفزيون الثقافي العربي.. «الكلمة تدق ساعة»

احتفى المهرجان الثالث للفيلم السعودي بالدمام، أواخر الشهر الماضي، بالمخرج السعودي سعد الفريح (1940 - 2006)، الذي يعد رائدًا من رواد صناعة السينما في السعودية والجزيرة العربية إجمالاً. وجرى تكريم الفريح بوصفه شخصية المهرجان ممثلاً بابنته سلافة وابنه عبد العزيز في حفل الافتتاح، وعُرض فيلم وثائقي حول المخرج السعودي الراحل تضمن مشاهد من حياته وبعض أعماله، وتحدث فيه عدد من الذين عرفوه عن قرب، مشيرين إلى بعض مناقبه الشخصية وتنشئته ودوره الريادي في تطور الإخراج التلفزيوني والسينمائي في المملكة.
أمر واحد ظل غائبًا عن الفيلم الوثائقي، وعما ذكر حول منجزات الفريح بصفة عامة. وهو ما أثار دهشتي، ولم أعزه إلا إلى نسيان معدي الفيلم والمتحدثين عن الفريح أو اعتقادهم أنه لا علاقة له بالسينما. كنت أنتظر إشارة إلى عمل يُعد في طليعة منجزات سعد الفريح على المستويين الثقافي والتلفزيوني، ويُعدّ، في تقديري، من أبرز ما أنجزه الفريح ويتذكره الناس بسببه. إنه البرنامج الشهير الذي أخرجه الفريح وأعده وقدمه الكاتب والمثقف السعودي المعروف محمد رضا نصر الله. أقصد برنامج «الكلمة تدق ساعة»، الذي عُرِض في أواخر السبعينات من القرن الماضي واستمر إعداده وعرضه لعدة سنوات على التلفزيون السعودي، وهو البرنامج الذي يُعدّ علامة فارقة في تاريخ التلفزيون السعودي، لا، بل العربي، ولم يستطع التلفزيون تجاوزه ببرامج مماثلة لما حفل به من لقاءات بعدد كبير من أعلام الثقافة العربية رحل الكثير منهم وبقي البرنامج توثيقًا مهمًا لأفكارهم وإبداعهم ومؤشرًا حيًا على نمط من الإنجاز الثقافي للتلفزيون حين يمارس دوره التوعوي والتنويري الجاد.
ذلك النمط من الإنجاز لم يعد شائعًا بكل أسف. فعلى الرغم من إنشاء قنوات ثقافية في بعض التلفزيونات العربية، ومنها التلفزيون السعودي، فإن مستوى الإنجاز لم يرقَ بعد في الغالب إلى مستوى ومساحة المتاح حاليًا من إمكانيات مادية وفنية. إن إنشاء قنوات ثقافية كان خطوة مبهجة دون شك، لكنه ليس بحد ذاته كافيًا. كما لا يكفي أن تجعل القناة تعمل على مدار 24 ساعة أو أن تكثر من موظفيها وفنييها. دون توفر عامل آخر لا يمكن لأي إنجاز ثقافي إعلامي أن يرى النور: مساحة كافية من حرية التحرك والتعبير، وتشجيع لذوي المواهب بالانغمار في العمل بمغريات كافية من الدعم. ومع ذلك، فالأمر في النهاية يعتمد على عنصر يصعب توفيره بكل ما ذكر من عوامل: إنها الموهبة والإصرار على الإنجاز بالتغلب على جميع العوائق، فليس أسهل من الاستسلام ولوم الظروف.
سعد الفريح كان نمطًا من تلك المواهب النادرة، ولكنه احتاج إلى رافد ثقافي وفره زميله في العمل محمد رضا نصر الله، فمن خلال ذلك الفريق، وبالدعم الذي وفرته وزارة الإعلام في تلك المرحلة، أمكن إنجاز أشهر برنامج تلفزيوني ثقافي في تاريخ التلفزيون السعودي. المؤسف هو أن التلفزيون السعودي لم يُعِد عرض ذلك البرنامج في قناته الأولى ولا الثقافية، بل ليس من الواضح إن كان البرنامج لحق به تلف أو طرأت أسباب أخرى تحول دون عرضه. لقد كان سجلاً مختلفًا للثقافة العربية على مدى عقد من الزمن، فهو حوار حي وبأسماء كبيرة قد لا يتوفر لبعضها سجلات حية مماثلة. بل إن البرنامج ليس متوفرًا مع الأسف على «يوتيوب»، هذه الوسيلة التي تكاد تحفظ كل شيء، من النتاج التلفزيوني والسينمائي.
في الوقت الحاضر يتنازع التلفزيونات العربية إجمالاً تياران: تيار الأخبار ذات الطابع الرسمي أو المسيس غالبًا، وتيار الترفيه المسطح غالبًا أيضًا. ما بين هذين تتأرجح الثقافة والفنون الرفيعة بلا دعم مؤسسي غير ربحي، وبالطبع بلا جمهور عريض، ولا معلنين يتبعون ذلك الجمهور. الثقافة في التلفزيون، مثلما هي في الحياة اليومية، ستظل الابن المعاق الذي نعلن عن حبنا له، ثم نتراجع عند طلبه المساعدة. إنه القطاع الذي يحتاج إلى دعم خاص ومستنير، دعمًا يدرك أهمية الثقافة الجادة والممتعة للوعي ولتطوير الذائقة ويدرك أنها سلاح ليس ضد الجهل فحسب، وإنما ضد التطرف والعنف أيضًا. نعم، هي لا تحول دون شيء مباشرة، ولكنها تسهم في بناء ما يحول دون الهدم الاجتماعي والسياسي. يتضح ذلك من مشاهدة بعض ما صنعه مخرج كبير مثل سعد الفريح، وما يصنعه الآن جملة من صانعي الأفلام القصيرة بشكل خاص في الوطن العربي ومنهم المملكة العربية السعودية. من شاهد تلك الأفلام يدرك أننا إزاء رؤى جادة وطموحة لخلق أعمال فنية تمتع، وتثري بقدر ما تصادم القضايا الجوهرية في الحياة على مختلف مستوياتها: السياسي والاجتماعي والثقافي. قضايا العنف والإرهاب، وقضايا الفقر ومعاناة الإنسان البسيط، ما تواجهه المرأة من معيقات وما يواجهه الطفل من عنف، وما يواجهه المجتمع ككل من إحباط في مواجهة التزمت. كل ذلك مطروح في الفيلم السعودي القصير وباقتدار فني لافت.
التوجه الذي أعلنته الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في ختام مهرجان الأفلام السعودي الثالث على لسان رئيسها سلطان البازعي نحو إقامة مهرجانات للأفلام السعودية في مناطق مختلفة من المملكة بناء على توجيه وزير الثقافة والإعلام د. عادل الطريفي يعد بما يثري ويبهج، وهو المؤمل من الوزارة ووزيرها الشاب، سواء على صعيد دعم صناعة الفيلم أو على صعيد دعم فنون أو صناعات ثقافية أخرى (فهي صناعات أيضًا): صناعة الكتاب، وصناعة المسرح، وصناعة الفنون التشكيلية والموسيقى وغيرها، مما يشمل صناعة البرامج الثقافية التلفزيونية لا سيما النوع الذي عمل عليه بدأب وإبداع سعد الفريح. وأخيرًا فإن من المؤكد أن الكلمة ليست وحدها ما يدق ساعة، وإنما تدق الساعة أيضًا الصورة والمشهد واللوحة والنغمة. الفنون تتكامل ومن تكاملها تنهض جوقة تدق ساعة الثقافة الجادة والممتعة.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.