خيبة الأمل.. لا شيء تقرأه اليوم على وجوه العراقيين وتلمسه من أحاديثهم، سوى خيبة أمل تكاثرت وكبرت وتفرعت لتصبح سلسلة من خيبات الأمل التي تؤثر في نفوسهم وتظهر جلية في تصرفاتهم. بتمعن الوجوه في الشوارع والمقاهي وحتى في المناسبات الثقافية لا ترى سوى شعب استيقظ بعد 13 عامًا بالتمام، وكأنه قد فقد أهم مفردات سعادته أو توازنه ألا وهو الأمل، أو الحلم، الذي بقي العراقيون يتشبثون به طوال سنوات الحرمان وكبت الحريات والحروب والقتل المجاني، ليأتي المخلص وينقذهم من نظام بقي جاثمًا مثل صخرة قوية فوق صدورهم. لكن الحلم الذي انتظروا تحقيقه جاء كابوسًا قاتمًا أجهض آمالهم بحياة حرة وكريمة وسعيدة وبمستقبل زاهر يستحقونه منذ سنوات طويلة.
الحلم المشوه جاء بدبابات أميركية وبقوات احتلال وبسياسيين «جعلوا الناس يترحمون على سنوات حكم صدام حسين بسبب الممارسات الطائفية التي قلبت حياة العراقيين إلى جحيم»، على حد قول إياد علاوي لـ«الشرق الأوسط»، وهو من جاء مع هذا الحلم - الكابوس وترأس أول حكومة بعد نظام صدام حسين.
الشاعر العراقي حميد قاسم، وهو ناشط مدني لم ينقطع عن مظاهرات يوم الجمعة من كل أسبوع وكان قد عاد إلى العراق مستبشرًا بأن «الحلم الذي أدمنا عليه سوف يتحقق.. بأن الحياة ستكون سعيدة بالفعل في بلد أثث تاريخه لسنوات طويلة بالحروب والدماء». في مكان قرب المسرح الوطني حيث الرصيف خرب والأبنية منسية منذ عقود وقد هدمت بعض أجزائها، وتلال الزبالة تنتشر هنا وهناك، وقف قاسم وقال: «أهذا هو الأمل الذي كنا في انتظار تحقيقه؟ بعد 13 عامًا من تغيير النظام لا نحصد سوى خيبات أمل تحيلنا إلى عالم من اليأس، لكننا نقاوم ذلك اليأس بالإبداع وبالإصرار على إيجاد حلول حقيقية للضغط على مصادر القرار في مظاهراتنا في ساحة التحرير التي لم تنقطع منذ ثمانية أشهر». بعد 13 عامًا بالتمام من تغيير نظام كان ديكتاتوريًا وشموليًا ووصف بأنه حكم الحزب الواحد، يعود العراق إلى نظام حكم الحزب الواحد. وفي هذا السياق يقول التدريسي في جامعة بغداد الدكتور صالح الخفاجي: «منذ تغيير نظام حزب البعث وحتى اليوم يحكم العراق حزب الدعوة، باستثناء الأشهر الأولى بعد تغيير النظام عندما ترأس الحكومة إياد علاوي، ولا يزال حزب الدعوة مصرًا على الاستمرار في السيطرة على الحكم»، مشيرًا إلى أن «شعارات مثل حكومة شراكة وطنية والعملية السياسية هي مجرد لافتات لا علاقة لها بمعنى الشراكة، والشراكة تعني توزيع حصص وزارية بين الأطراف التي حققت نتائج في الانتخابات التشريعية، لكن القرارات الأمنية والاقتصادية وملف العلاقات الخارجية تبقى في يد رئيس الوزراء الذي هو في العادة قيادي في حزب الدعوة منذ إبراهيم الجعفري ثم نوري المالكي ووصولاً إلى حيدر العبادي، وهذه الحكومات لم تنجز أي شيء في العراق عمومًا وبغداد خاصة سوى اعتماد أسلوب خلق الأزمات ومحاولة حلها، ومن ثم ندخل في أزمة أخرى حتى جاءت أزمات ذات الوزن الثقيل مثل احتلال تنظيم داعش ثلث العراق، ثم أزمة هبوط أسعار النفط مع انتشار الفساد وسرقة المال العام من قبل المسؤولين».
يوسف راضي، سائق سيارة أجرة في نهاية الستينات من عمره، يمتلك اليوم سيارة إيرانية الصنع (سايبة) يصفها العراقيون بأنها «أسوأ سيارة دخلت إلى العراق حتى اليوم، مع تأكيدات من دوائر شرطة المرور أنها ليست أمينة، لكنها رخيصة نسبة للسيارات الكورية واليابانية وبالكاد استطعت شراءها كي أعمل وأوفر لقمة خبز عائلتي»، حسبما يوضح راضي، مشيرًا إلى أن «أبناءه الثلاثة، وهم شباب تركوا العراق خلال موجة الهجرة الأخيرة إلى الغرب وتوزعوا في ألمانيا والسويد وهولندا بعد أن يئسوا من إيجاد فرصة عمل مع أنهم خريجو جامعات وفي اختصاصات علمية والبلد بحاجة لهم». ويضيف: «ابني الكبير (36 عامًا) مهندس ميكانيكا وخريج الجامعة التكنولوجية عمل مع شركة أهلية لسنوات قبل أن تنهي هذه الشركة أعمالها بسبب التقشف، ولم تجد محاولاته في إيجاد فرصة عمل لدى الحكومة، تصور أن آخر من قابله في وزارة النقل شاب بدرجة مدير حاصل على شهادة الإعدادية من بلد مجاور للعراق ورفض تعيينه، مع أن ابني حاصل على البكالوريوس في الهندسة وبمعدل 94 في المائة ومن جامعة عراقية حكومية، بعدها قرر ابني الهجرة وعدم العودة لبلد لا يحترم أبناءه وكفاءتهم»، مستطردًا: «اليوم صارت الوزارات إمارات، وزير أي وزارة يعين أقاربه وأقارب أقاربه والمرشحين من كتلته أو حزبه وطائفته دون الاعتماد على الكفاءة والاختصاص».
شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي هو أقدم شارع في العراق وأول شارع شق في العهد العثماني في العاصمة العراقية، كان يعتبر حتى قبل عقدين من الزمن واحدًا من أجمل شوارعها. يتطلع سائق سيارة الأجرة راضي إلى الأبنية التي كانت مضرب الأمثال بأسلوب عمارتها وأناقتها وجمالها، فتحولت اليوم إلى خرائب متداعية، يقول: «في شبابي كنت أسوق سيارة شيفروليه أميركية طبعًا، وكانت السيارات الراقية فقط يسمح لها بدخول شارع الرشيد، حيث السرعة محددة خشية على أبنية الشارع من الاهتزاز والتلوث، واليوم الشارع الأجمل في كل العراق تحول إلى خراب بسبب هجة المتريفين والتخلف والحقد على بغداد». ويتابع: «هل من المعقول أن الحكومات التي تعاقبت على قيادة العراق منذ 13 عامًا لم تستطع إصلاح الأبنية والشارع.. إصلاح وليس بناء مع أن سعر برميل النفط كان أكثر من 120 دولارًا؟ طوال هذه السنوات لم يبنوا مدرسة أو مستشفى أو جسرًا.. وكل ما هو موجود اليوم ورثناه من حكومات ما قبل 2003 منذ العهد الملكي حتى الاحتلال الأميركي».
خيبات الأمل تتحول في نفوس العراقيين إلى حالات من اليأس، اليأس ليس من الحاضر وحسب، بل من المستقبل الذي يجسده الأطفال، فشوارع بغداد تزدحم بالمئات من الأطفال، من كلا الجنسين، وهم يستجدون الدينار، ويبيعون العلكة وعلب المناديل الورقية وقناني الماء، وحتى ساعات متأخرة من الليل، بدلاً من أن يكونوا على مقاعد الدراسة وفي بيوتهم آمنين. من يتأمل هؤلاء الأطفال سيتأكد أن المستقبل في العراق لا أمل فيه، وأن الكابوس الذي عاشه العراقيون منذ سنوات نظام صدام حسين وحروبه سيصبح أكثر قتامة، وأن النفق الذي أدخلوا فيه بسبب الاحتلال من الصعب أن تعثر في نهايته على بصيص نور بوجود سياسيين كل طموحهم هو التمسك بمناصبهم وليس خدمة الشعب والبلد.
13 عامًا بعد الغزو الأميركي.. العراقيون يحصدون خيبات الأمل
بغداد تتراجع في كل شيء.. وأجمل شوارعها يتحول إلى خراب
13 عامًا بعد الغزو الأميركي.. العراقيون يحصدون خيبات الأمل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة