بدأ الأمر برمته برسالة - مجهولة بالطبع - تحمل النص التالي: «مرحبا. أنا جون دو. هل أنت مهتم بالبيانات؟»
أما متلقي الرسالة فكان باستيان أوبرماير، مراسل إحدى الصحف الألمانية، الذي سارع بالرد بالإيجاب. وما تلا ذلك أمر لا يصدقه عقل، حيث شرع المدعو دو في إرسال ملفات اتضح أنها تضم 11.5 مليون وثيقة، وهي سجلات رقمية تغطي فترة تمتد لأربعة عقود اخص شركة محاماة في بنما متخصصة بمجال إنشاء شركات أوفشور لعملاء أثرياء.
وبناءً على هذه البيانات التي حصل عليها أوبرماير وزميله فريديك أوبرمير عام 2014 لتنظيم مشروع تعاوني فريد من نوعه بين صحافيين من مختلف العام. يقول المراسل باستيان أوبرماير الذي يعمل لدى صحيفة «زود دويتشه زايتونغ» الألمانية أن ذلك المصدر المجهول تواصل معه عبر دردشة مشفرة على الإنترنت، حيث كان يعرض نوع من البيانات تهدف إلى النشر العام وفضح مثل تلك الجرائم. ولكن المصدر حذره أن «حياته أو حياتها في خطر»، وهو ليس على استعداد للحديث إلا عبر الدردشة المشفرة فقط، ورفض تماما المقابلة الشخصية في أي مكان. ولقد سأل السيد أوبرماير المصدر المجهول قائلا: «ما هو مقدار البيانات التي نتكلم بشأنها؟»، فأجابه المصدر «أكبر مما يمكنك رؤيته في حياتك»، وفقا لإفادة مراسل الصحيفة الألمانية. من جانبهما، حرص الصحافيان الألمانيان على حماية هوية «جو دو» وسلامته، لذا يتكتمان بخصوص أي معلومات تتعلق به. وعبر رسالة بريد إلكتروني، قال أوبرماير: «لا يمكننا الكشف عن أي أرقام أو مرات للاتصال، بطبيعة الحال، أو ما إذا كنا ما نزال على اتصاله به، لكن ما يمكنني قوله إننا تواصلنا كثيرًا عبر سبل مختلفة، جميعها مشفرة. وفي بعض الأيام، تحدثت إلى المصدر أكثر مما تحدثت إلى زوجتي. في الواقع، لقد تحدثنا كثيرًا». وكان العالم قد فوجئ الأسبوع الماضي، بتسريب ملايين الوثائق السرية من شركة «موساك فونسيكا» للخدمات القانونية التي تتخذ من بنما مقرا لها، كاشفة عن فضيحة كبرى لرؤساء حاليين وسابقين وشخصيات سياسية وعامة ورياضية معروفة ومشاهير في الكثير من المجالات وشخصيات بارزة أخرى، متورطين في عمليات «إخفاء ثروات»، وتهرب ضريبى وغسل أموال. وكشفت أن بعضهم تعمد «إخفاء ثرواتهم» عن طريق حسابات سرية في شركات وبنوك لا تخضع لرقابة مالية أو دولية مشددة». وبفضل الإنترنت ومواقع الويب يمكن للصحافة الاستقصائية اليوم عرض نتائج تحقيقاتها بصورة أفضل تتيح لجمهور المستخدمين معرفة أدق التفاصيل وبشكل موثق وبطريقة عرض ملائمة أكثر مما كان عليه الحال قبل ظهور الإنترنت والتقنيات المتطورة». جدير بالذكر أن «الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين»، وهي وحدة مؤلفة من 11 شخصًا تتبع «مركز النزاهة العامة» غير الهادف للربح، سبق وأن عمل مع الصحيفة الألمانية ومؤسسات إعلامية أخرى في تحقيقات موسعة من قبل. وقال السيد أوبرماير لمجلة «WIRED» أنه تواصل مع ذلك المصدر المجهول عبر سلسلة من القنوات المشفرة التي كانوا يغيرون التحادث خلالها من آن لآخر، وفي كل مرة يعمدون إلى إلغاء كافة تاريخ المحادثات السابقة ما بينهما. وكانوا يلمحون إلى استخدام تطبيقات التشفير»، فضلا عن البريد الإلكتروني المشفر بتقنية «PGP»، ولكنه رفض الإفصاح عن الطريقة المحددة التي اتبعوها في التواصل. وفي كل مرة كان المراسل والمصدر المجهول يعيدان بدء الاتصال من جديد، وكانا يستخدمان سؤالا متفقا عليه بينهما لإعادة التصديق على شخصية كل واحد منهما. مثالا بسؤال: «هل الجو مشمس اليوم؟» فيجيب قائلا: «إن القمر يمطر»، أو شيء من هذا الهراء، حتى يمكن لكل منا التحقق من شخصية الآخر، كما يقول المراسل أوبرماير. وبعد مطالعة جزء من الوثائق، تواصلت صحيفة «زود دويتشه زايتونغ» الألمانية مع الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين، الذي ساعد بدوره في تنسيق التسريبات الهائلة لملاذ الضرائب السابق بما في ذلك تحليل عام 2013 لبيانات ملاذ الضرائب المسربة للشركات الخارجية مع تسريبات أخرى أسفرت عن تحقيق مماثل العام الماضي والتي تركزت على الأصول المحمية من قبل بنك «اتش إس بي سي» السويسري. ولقد طار موظفو الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين إلى ميونيخ للتنسيق مع مراسلي صحيفة «زود دويتشه زايتونغ» الألمانية حول ذات المسألة.
وفي الأثناء ذاتها، بدأ وصول شحنات البيانات المسربة المجزأة تباعا. يقول السيد رايل: «تسلمنا المزيد والمزيد من تلك التسريبات حتى بلغت 11.5 مليون وثيقة». ولقد رفض السيد أوبرماير شرح الكيفية التي سلم بها مصدره المجهول مئات الغيغابايت أو ربما مئات التيرابايت من المعلومات في ذلك الوقت. فتلك الملفات أكبر بكثير مما يمكن رفعه على أي معروفة خدمة للبريد الإلكتروني، بطبيعة الحال، رغم إمكانية وسهولة إرسال هذه الكمية من البيانات مجهولة المصدر في شكل أقراص صلبة مشفرة عن طريق الشحن. وقال السيد أوبرماير بإيجاز «تعلمت الكثير عن صناعة النقل الآمن للملفات الكبيرة من خلال هذه التجربة». يقول السيد جيرارد رايل مدير الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين: «نحن لسنا ويكيليكس بأي حال. فنحن نحاول إظهار أنه يمكن تأدية مهنة الصحافة بشكل مهني ومسؤول».
وتتناول الغالبية العظمى من الوثائق التي كشف النقاب عنها كيف عمد عدد من الزعماء على مستوى العالم والمشاهير والأفراد لاستغلال شركات أوفشور في إخفاء ثرواتهم، وفي بعض الأحيان لتجنب الضرائب أو إخفاء نشاطات غير قانونية، وفق تقرير لـ«واشنطن بوست». وقد دفعت الموجة الأولى من المعلومات التي كشف النقاب عنها - وقد تستمر عملية الكشف عن معلومات لسنوات - بالفعل رئيس وزراء آيسلندا لتقديم استقالته على خلفية الكشف عن ممتلكات أوفشور خاصة به. من بين الآلاف الذين وردت أسمائهم بالوثائق الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو وأفراد من أسرة الرئيس الصيني شي جين بينغ، ومقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووالد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، إيان، ونجم كرة القدم ليونيل ميسي. ودفعت التسريبات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، من بين آخرين، للدعوة إلى إصلاح النظام الضريبي العالمي. وبعد أكثر من عام منذ أول اتصال داخل مقر الصحيفة التي يعملان بها في ميونيخ، «زود دويتشي تسايتونغ»، ما يزال أوبرماير، 38 عامًا، وزميله أوبرمير، 32 عامًا، يجهلان مصدر الوثائق وسبب اختيارهما من جانب المصدر. والآن، ما هي وثائق بنما؟ تتألف وثائق بنما من 11.5 مليون وثيقة تخص شركة محاماة في بنما تدعى «موساك فونيسكا». ويبدو أن الوثائق تدين عددًا من الشخصيات البارزة عالميًا في نشاطات مالية غير قانونية محتملة (واشنطن بوست).
وتولى الاتحاد الصحافي تنسيق العمل بين مراسلين من 45 دولة، العام الماضي، للتحقيق بشأن الملفات المسربة من مصرف سويسري خاص أخفى مئات الملايين من الضرائب عن أعين السلطات الضريبية. وجاء مشروع «التسريبات السويسرية» بعد عدة شهور من الكشف عن اتفاقات ضريبية سرية بين مئات الشركات العالمية ومسؤولين في لوكسمبورغ. وبناءً على جهود عمل تدريجي، من منطقة لأخرى، جمع «الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، فريقًا مؤلف من 370 صحافيًا من قرابة 100 مؤسسة إعلامية تنتشر عبر 70 دولة، تبعًا لما أفاده مايكل هودسون ومارينا ووكر، اثنين من كبار مسؤولي الاتحاد.
يذكر أن شركاء الاتحاد داخل الولايات المتحدة كانوا «صحف مكلاتشي» وموقع وشبكة «فيوجن». أما «واشنطن بوست» فقد سبق وأن تعاونت مع الاتحاد في تحقيق عام 2013 عن الملاذات الضريبية. وأوضح هودسون أن الهدف كان إيجاد صحافيين محليين يعرفون طبيعة البيئة المحيطة: «بدلاً من التدخل للقيام بالعمل بأنفسنا. لقد فضلنا ترك العمل لمن يعرفونه أفضل. إن الكثير للغاية من أهم القصص المطروحة اليوم على درجة بالغة من التعقيد والانتشار العالمي بحيث أصبحت الاستعانة بأسلوب المراسل الوحيد لا تتناسب معها». وقد تطلب هذا العمل الهائل الذي أطلق عليه «مشروع بروموثيوس»، إقرار درجة غير مسبوقة من التعاون بين مؤسسات إعلامية متنافسة بطبيعتها. وقد اتفق «الشركاء» على التشارك في المعلومات القيمة مع المجموعة بأكملها، والامتناع عن نشر أي شيء قبل الموعد المقرر للنشر الجماعي.
رسالة غامضة لإحدى الصحف الأوروبية أطلقت وثائق بنما
مشروع تعاوني فريد من نوعه بين صحافيين استقصائيين من أنحاء العالم
رسالة غامضة لإحدى الصحف الأوروبية أطلقت وثائق بنما
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة