«الكوميكس» في العالم العربي.. زفرة الشعوب المقهورة أم تسلية النخبة؟

أول رسم كاريكاتيري في تاريخ العالم وجد في عمل فرعوني قديم

العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت
العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت
TT

«الكوميكس» في العالم العربي.. زفرة الشعوب المقهورة أم تسلية النخبة؟

العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت
العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت

الزمان: سنة 3014 بالتاريخ الأرضي.
المكان: جمهورية مصر الجديدة
الحدث: فهمي في الطريق إلى مركز المخابرات العلمية السرية ليتسلم عمله الجديد.....
وهكذا يهرب بنا شريف عادل عبد الفتاح ألف سنة فقط ليقدم لنا في قالب شديد الإبداع رؤية عميقة ونقدًا ساخرًا لواقع المجتمع المصري اليوم في إطار عمله المثير الجديد الذي يقدمه على شكل مجلة رسوم مصورة - كوميكس - أطلق عليها اسم «فوت علينا بكرة»، وهو بذلك يبدأ نقده للحياة المصرية المعاصرة من اللحظة الأولى. فـ«فوت علينا بكرة» تلخص حالة البيروقراطية الرثة التي تبدو عليها غالبية المؤسسات الرسمية، التي لم تعد في زمان القرية العالمية مجرد مصدر للإزعاج، بل مثارا للسخرية الحادة أيضا، التي يبدع شريف عادل في تقديمها نصًا ورسمًا وأفكارًا.
شريف عادل فنان شديد الغضب، يعبر بالضرورة عن خيبة أمل جيل مصري وعربي كامل في مآلات الأمور في بلاده. نقده اللاذع ليس موجهًا لمؤسسة الحكم مباشرة، ولكنه هجوم عاصف على ثقافة البلاد من كل زاوية صغيرة وكبيرة، كاشفًا حالات التناقض والارتباك السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تعيشها مجتمعات «مات قديمها ولم يولد جديدها بعد»، على حد قول غرامشي.
شريف عادل طبيب أسنان بحكم المهنة، وكانت له تجربة سابقة إلكترونية في القصص المصورة صدرت تحت اسم (الرجل البرباطوظ) لكنها لم تطبع قط. ولكنه طبع العمل الجديد؛ ولذلك فإن إمكانات التواصل مع الجمهور تأخذ أبعادًا أوسع وتصل إلى جمهور ما قبل الاستعمال المكثف للكومبيوتر، في مجتمع ما زالت عدة ملايين منه تعاني من الأمية والفقر المدقع.
التعبير بالرسم الساخر بالطبع ليس جديدًا على مصر، بل إن أول رسم كاريكاتيري في تاريخ العالم ربما وجد في عمل فرعوني قديم. كما أن مجلة مصورة للصغار صدرت في مصر منذ عام 1870 (روضة المدارس ورئيس تحريرها رفاعة الطهطاوي متأثرًا دون شك بتجربة الفرنسيين الرائدة في هذا المجال)، وكان لجيل الرواد من كبار فناني الكاريكاتير حسين بيكار (مجلة سند.ب.أد) وحجازي ومحيي الدين اللباد أعمال تأسيسية في نسق التعبير الفني، هذا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. إلا أن التحولات الصاخبة التي عاشتها المجتمعات العربية - وفي قلبها المجتمع المصري شديد الفكاهة - منذ بداية القرن الحادي والعشرين في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، ومحاولات التغيير الدموية المجهضة بالتدخلات الاستعمارية، مع استمرار تفرد السلطات الرسمية الباقية من أجيال سابقة أو حتى الجديدة بالتحكم بكل قنوات التعبير على اختلاف أشكالها، كل ذلك قد خلق فرصة ولحظة ثورية لاستخدام نموذج الفن الشعبي (بوب آرت) المعروف بالقصص المصورة لتوجيه النقد غير المباشر لكل الظواهر السلبية في المجتمع من الانقسام الطبقي إلى فساد النخبة، وانتهاءً إلى الرداءة الشاملة في حياة الأكثرية، التي يمتلك الفنانون أمثال شريف حساسية عالية تجاه ما يمكن أن يعتاده ويتقبله الآخرون. وهكذا كان لا بد من مجدي الشافعي الذي أطلق (مترو) بوصفها صرخة تعبير مبكرة في وجه الواقع المتجه للتأزم من خلال قصة (بوليسية) مصورة، تحكي قصة مهندس كومبيوتر مصري شاب يصاب بالإحباط من مجتمعه، ويقرر السطو على مصرف للخروج من اليأس بسرعة، وحينها يتورط مع عدة أنواع من اللصوص والفاسدين في رواية شائقة تأخذك في رحلة بصرية في عمق حياة القاهرة وشوارعها التي تكاد تنادي (بالألوان) لضرورة حصول تغير ثوري نوعي يقصي تراكم الفساد. لم يفت هذا النقد على الرقابة المصرية في عهد الرئيس الرئيس حسني مبارك، وانتهت (مترو) إلى المصادرة من الأسواق رغم أنها لقيت أصداء إيجابية واسعة من قبل النقاد في مصر والغرب.
منحت أحداث «25 يناير» والارتباك الحاصل بعدها مساحة أوسع للتعبير باستخدام هذه القناة الجديدة الشديدة الشبه بالجيل الذي خرج إلى شوارع القاهرة وميدان التحرير وكسر هيبة أجهزة الأمن الرسمية في 2011. وقدمت المؤسسات الثقافية الغربية الدعم الفني و - المالي أحيانًا - لاستكشاف هذا الفن. وهكذا كبرت مساحة «الكوميكس» في الحياة المصرية في يوم وليلة. مجدي الشافعي، أصدر مشروعًا بديلاً لـ(مترو) المصادر، وهذه المرّة تحت اسم (الدُّشمة)، وهي مجلة في 64 صفحة وصدرت بتمويل منظمة مجتمع مدني تُعنى بحقوق الإنسان. لكن المجلة الأكثر شعبية في مصر كانت (توك توك) ذات التمويل الذاتي، وقد استوحت اسمها من وسيلة النقل الشعبية ثلاثية العجلات التي تملأ شوارع الأحياء البائسة في القاهرة والإسكندرية وبقية المدن الكبرى في مصر.
لكن استمرارية هذه المجلات، وقدرتها على الانتشار بوصفها وسيلة تعبير تمثل حلاً وسطًا بين جيل الشباب والسلطات، مرتبطة أساسًا بقدرة المجتمعات الرأسمالية الطابع على تحويل هذه المحاولات إلى مشاريع ناجحة تجاريًا، وهو تحد ليس سهلاً في بلد مثل مصر، حيث لا يمكن رفع سعر النسخة إلى مستوى الأسعار في الغرب مثلاً لأن ذلك يجعلها خارج السوق، وكذلك لا يمكن استقطاب إعلانات بصفة حاسمة بوصفها لم تثبت نفسها في قدرتها على التوزيع الواسع - رغم محاولات شريف عادل المتكررة في مجلته لترك مساحات للإعلان ملأها دائمًا بإعلانات ساخرة، لعل وعسى، لكن دون نجاح يذكر وصولاً للعدد الثالث - كما أن تلقيها الدعم من المراكز الثقافية الغربية يجعلها مثار شك بوصفها خاضعة لأجندات خارجية. إذن النافذة الوحيدة الممكنة هي تقديم مادة عميقة تخاطب الجمهور وتعبر عنه وتستعير صوته على نحو يدفع قطاعات أوسع لتبني «الكوميكس» خارج لعبة الفن التجريبي. التجربة المصرية تبدو الأهم عربيًا في فن «الكوميكس»؛ وذلك للظروف الموضوعية للأسواق العربية الأخرى مع استثناء لبنان ربما - حيث هامش من الحرية النسيية - والتي شهدت تجربة مجلة السمندل الطليعية الثلاثية اللغة - عربية وإنجليزية وفرنسية - وقدمت أعمالا لمجموعة من فنانين موهوبين انتقدوا - بعيدًا عن السياسة - قضايا مجتمعية كثيرة وبعض التابوهات في المجتمع العربي - فغرّم ثلاثة من محرريها بتهمة التحريض على الفتن - لكنها بقيت دائمًا مجلة نخبوية الطابع ولم تصبح صوتًا شعبيًا رغم توالي صدور أعدادها.
التجربة الأنجح في هذا المجال في دول الأطراف، جاءت من البرازيل، حيث المجتمع يضرب في أطنابه الفساد وتتآكله الجريمة ويتلاعب به السياسيون عديمو الضمير، ظهر بطل قصص مصورة - بداية على «فيسبوك» - تقول القصة إنه كان جنديًا سابقًا أغضبه الفساد الشامل في البلاد، فتقنّع وبدأ بمطاردة وصيد الشخصيات المساهمة في تكوين هذا الفساد من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين. شخصية «الموقظ» - كما سمي لاحقًا - استهدفت نماذج فاسدة لها مثيل موازٍ في الحياة العامة البرازيلية فحازت على اهتمام متزايد بين الشباب البرازيلي. ويقال: إنها ساهمت في تجييش الجمهور للمظاهرات الهائلة التي اجتاحت البلاد بعد عدة أشهر - يونيو (حزيران) - 2013 وضغطت لتغيير النخبة البرازيلية المغرقة بالسرقة والنهب. بعض الشخصيات الحقيقية التي شعرت أن القصة تتحدث عنها سارعت إلى رفع دعاوى، متهمة الفنان مبدع القصص (لوسيانو كونها) بالتحريض على القتل لكن هذه الدعاوى لم تنجح في إثبات شيء، وإن مثلت دفعة هائلة لشعبية شخصية الموقظ الكوميكية؛ فازداد الطلب عليها على نحو غير مسبوق. وقد تلقى لوسيانو عرضًا الآن من أهم شركة إعلامية برازيلية لتحويل القصة إلى عمل سينمائي، وأصبح قادرًا على التفرغ للعمل على إنتاج الرسوم للقصة المصورة عبر وسائط الإعلام المختلفة مطبوعة وإلكترونية.
«فوت علينا بكرة» - لشريف عادل - تجربة واعدة - لكنها يجب أن تكسب قلوب الجماهير المصرية برفع مستوى النقد قبل أن تتوقع تدفق المبيعات، ولاحقًا، الإعلانات. حتى ذلك الحين، ربما على شريف أن يستمر في العمل في عيادة الأسنان لبعض الوقت إلى جانب عمله على قصة شخصية الشاب المصري النبيل - فهمي - في مواجهته الجميلة للرداءة الشاملة، وهو في كلا المهنتين يسمح لنا بالابتسام رغم كل شيء.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.