الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب

اغتيالات وعمليات خطف.. ومهاجمة مقرات الصحف ووسائل الإعلام

الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب
TT

الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب

الصحافة اللبنانية بين محاولات التدجين.. والترهيب

لطالما كانت الصحافة اللبنانية رائدة في العالم العربي، مستفيدة من المناخ التعددي القائم في البلاد، والانقسامات السياسية التي خلقت أرضية خصبة للآراء المختلفة، بالإضافة إلى النهضة العلمية التي كان اللبنانيون من روادها. لكن الصحافة اللبنانية دفعت غاليا، من أرواح صحافييها، ومن معاناتهم، ثمنا لمحاولات التدجين التي تناوبت الكثير من القوى – والدول – على القيام بها، ثم أتت الأزمات الاقتصادية لتضيق الخناق على هذه الصحافة التي باتت في وضع لا تحسد عليه.

لا يعتبر الاعتداء الأخير على مكاتب «الشرق الأوسط» الأول من نوعه، فتاريخ الصحافة اللبنانية مجبول بالدم، كما لا يوجد ما يدعو إلى التفاؤل بأنه الاعتداء الأخير، فالصحافة اللبنانية تعيش هاجس «التدجين» الدائم، سواء بالضغط السياسي أو الاقتصادي أو الأمني.
ويرى عميد كلية الإعلام في الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا جورج فرحة، أن الاعتداءات المتكررة على وسائل الإعلام: «هي مؤشر على غياب الدولة»، مشددًا على أن الأمور «يجب أن تعالج من قبل الدولة والقانون، وليس عبر الاعتداءات والترهيب»، مشيرًا إلى ضرورة أن يكون هناك حماية لوسائل الإعلام من الاعتداءات.
وقال فرحة لـ«الشرق الأوسط»: «إذا كان هناك من يعتبر نفسه متضررًا، فإن عليه أن يلجأ إلى القضاء والقانون الذي يفصل بين الأمور»، مشددًا على «أنني ضد كل الاعتداءات من كل الجهات على مختلف الوسائل الإعلامية». وآسف لأن الشأن السياسي في لبنان «يطغى على الإعلام»، قائلاً بأن الانتهاكات التي تعرضت لها وسائل الإعلام في لبنان «لا تحمل مؤشرات جيدة على مستوى احترام الديمقراطية وحرية الرأي في لبنان».
وترجع الباحثة في مجال الإعلام وأخلاقيات المهنة الدكتورة ماجدة أبو فاضل الاعتداءات على وسائل الإعلام، إلى «التدني في الأخلاقيات عموما»، موضحة أن «أي اعتداء أو عنف لا يحل المشاكل».
وإذ شددت على أن «معالجة الأمور تتم بتروٍ وعقلانية وبالحوار، وهي الثقافة المفقودة اليوم كون العنف يولد عنفا مضادا»، قالت: «لسوء الحظ، المنطق في لبنان ليس واردًا». وتؤكد أن الاعتداء على الإعلام «هو نتيجة سلسلة متكاملة لم تأت من فراغ. فإقصاء الرأي الآخر، يعني أن هناك مشكلة بنيوية. المنطق يقول: إن الاختلاف لا يعني أنه على المختلفين أن يلجأوا إلى العنف أو التهجم أو الاعتداء جسديا».
ولا ترى أبو فاضل أن القضية محصورة بتفكك الدولة وغياب دورها فحسب، إذ ترى أن هذا السبب «غير كاف». وتقول: «لننظر داخل المنزل كيف تتعاطى الناس مع بعضهم ويربون أولادهم، ولننظر إلى المدارس كيف تنشئ الأطفال»، مؤكدة أن الأمر «نتيجة تراكمات وتشعبات وتحتاج إلى دراسة». وتضيف أبو فاضل: «المؤسف أننا نلجأ إلى العنف والتراشق الكلامي والسبابي والقذف والقدح والذم، في وقت يتضح أن المنطق غائب. وأتأسف لهذا المشهد المؤلم الذي يظهر أننا أشخاص غير ناضجين».
إذا كانت صحيفة «الوقائع» المصرية، التي أصدرها الخديو محمد علي باشا في القاهرة سنة 1828، من أولى المطبوعات التي شهدها العالم العربي، لكنها كانت صحيفة رسمية، لـذا اعتبرت «حديقة الأخبار» التي أصدرها خليـل الخـوري فـي بيروت مطـلع يناير (كانون الثاني) 1858 أم الصحف العـربية وأول دوريـة سياسية غير رسمية تصدر على الأرض العربية.
وينقل موقع وزارة الإعلام اللبنانية عن الكاتبة ليلى حمدون في استعراضها الصحف العربية التي صدرت في ذلك العهد في العالم: نجد أن أغلبها صدر عن لبنانيين أو كان للبنانيين فضل في إصدارها، كالكونت رشيد الدحداح الذي أصدر جريدة «برجيس باريس» عام 1858، وأحمد فارس الشدياق الذي أصدر «الجوائب» في إسطنبول عام 1860. أما ثاني جريدة صدرت في لبنان، فهي «نفير سوريا»، التي أسسها المعلّم بطرس البستاني العام 1860 في بيروت، وكانت تدعو إلى الوحدة الوطنية إثر مذابح 1860 الطائفية.
وبدءا من العام 1870. بدأت طفرة لبنانية بارزة في إصدار الصحف، فصدر في ذلك العام وحده سبع جرائد ومجلات، أهمها: «البشير»، التي أنشأها الآباء اليسوعيون، و«الجنة»، أصدرها سليم البستاني، وكانت أسبوعية تجارية أدبية، وقد اشتهرت بجلب الأخبار البرقية على حسابها الخاص. أما «الجنان» التي أصدرها المعلم بطرس البستاني عام 1870، فقد كانت تصدر مرتين في الشهر، وكان شعارها «حب الوطن من الإيمان». في نفس العام، أنشأ القس لويس صابونجي «النحلة»، وكانت أسبوعية تتناول مختلف المواضيع ما عدا الدين والسياسة.
وكانت الصحف اللبنانية تتميز بطابع نقدي – سياسي حيث ظهرت مجموعة من الصحف «النقدية» التي تناولت حتى السلطان العثماني نفسه قبل أن يقيّد بعدها السلطان عبد الحميد حريّة الكتابة دافعًا ببعض الصحافيين إلى ترك لبنان إلى مصر وأوروبا وتأسيس صحف هناك. صدرت صحف سياسية كثيرة في هذه الفترة بدءًا من «الجنينة» التي أصدرها سليم البستاني. وعام 1877 صدرت «لسان الحال» لخليل سركيس وفيها ظهر أول إعلان مصوّر. وعام 1876 عرفت الصحافة أول دورية علمية متخصصة هي «المقتطف» ليعقوب صروف وفارس نمر قبل أن ينضم إليهما شاهين مكاريوس، وقد عنيت هذه الصحيفة بالمقالة العلمية والمناقشات الفكرية. ولكن موقف السلطة السلبي من مواضيعها وأصحابها حدا بالأخيرين إلى الانتقال بدورهم إلى مصر العام 1882.
وعام 1891. صدرت أول صحيفة سياسية في جبل لبنان وهي «لبنان» التي أصدرها إبراهيم الأسود واعتمدها المتصرف واصا باشا، فصارت شبه رسمية. وفي العام نفسه، أصدر خليل بدوي صحيفة «الأحوال». وبعد ثلاث سنوات جعلها يومية وكانت حينها أول صحيفة يومية في السلطنة. وفي عام 1908، تأسست صحيفة «البرق» للشاعر بشارة الخوري وانطلقت منها شرارة النضال الوطني والدعوة إلى التحرر من الاحتلالات، فطارده العثمانيون فتخفى عنهم واستمر بالكتابة باسم الأخطل الصغير.
وأواخر أيام الحكم العثماني، ازداد إصدار الصحف من لبنان، ولكنه ما لبث أن خف خلال الحرب العالمية الأولى لندرة الورق. ومع مجيء جمال باشا إلى ولاية سوريا ولبنان (1915 – 1916)، كانت فترة قمع نفذت خلالها إعدامات بحق الكثير من الصحافيين، علما بأن شهداء لبنان الذين تحتفل البلاد بهم في السادس من مايو (أيار) من كل عام بعد أن علقهم جمال باشا على المشانق في وسط بيروت، كان من بينهم الكثير من الصحافيين أمثال: فيليب وفريد الخازن، أحمد طبارة، بترو باولي، جرجي حداد، عمر حمد، عبد الغني العريسي، عارف الشهابي، سعيد عقل، محمد محمصاني وعبد الكريم الخليل.
ومنذ العام 1931، كثرت المؤتمرات والاضطرابات، ونشأت تكتلات سياسية وطائفية. لذلك صدرت صحف حزبية ملتزمة ما لبثت أن مثلت التيارات كافة. ففي العام 1933 صدرت صحيفة «Le Jour» بالفرنسية متحدثة باسم الكتلة الدستورية، وقد رأس تحريرها ميشال شيحا ثم شارل حلو قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية.
وكانت صحيفة «L’Orient» قد صدرت عام 1923 تحت إشراف جبرائيل خباز وجورج نقاش وكانت تساند إميل اده. وأصدر الحزب الشيوعي عام 1937 «صوت الشعب» وأصدر حزب الكتائب عام 1939 «العمل» وأصدر حزب الوحدة الوطنية عام 1940 «الطلائع».
وعندما اعتقلت سلطات الانتداب رجال الاستقلال في قلعة راشيا، صدرت صحيفتان إحداهما تحمل شعار علامة الاستفهام والأخرى شعار علامتي استفهام لتعبئة الشعب ضد الانتداب. أما في فترة الخمسينات كانت فترة القومية العربية. وخلالها صدرت دوريات حزبية ودوريات سياسية كثيرة من بينها «السفير»، فيما كانت فترة الثمانينات فترة ظهور دوريات جديدة حزبية – عسكرية، كصحيفة «أمل» وصحيفة «العهد» الناطقة بلسان ما يسمى «حزب الله» وغيرها.
وقد تعرضت الصحافة اللبنانية خلال فترات مختلفة لعمليات قمع وترهيب، كانت أبرزها في البداية مع السلطة اللبنانية التي ضغطت على الصحف اللبنانية عبر الترهيب والترغيب، فتعرض الكثير من الصحافيين للسجن، إذ كان الراحل غسان تويني نزيلا دائما للسجون، فيما كانت الإغراءات المالية تنهال على آخرين لضمان الولاء. ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ازداد طمع الخارج بالصحافة اللبنانية، تمويلا وترهيبا. وكان للنظام السوري وقفات مطولة مع الصحافة التي كانت مكاتبها في بيروت أول ما احتلها الجيش السوري لدى دخوله لبنان، فيما كانت أصابع الاتهام التي توجهت إلى هذا النظام عن عمليات الاغتيال التي طاولت صحافيين لبنانيين، تضرب أرقاما قياسية.
اغتيالات.. واختطاف
أول الاغتيالات التي طاولت صحافيين لبنانيين، كانت من نصيب الصحافي نسيب المتنبي، الذي قتل في الثامن من مايو 1958 بخمس رصاصات، وكان اغتياله شرارة مباشرة في التمرد المسلح ضد عهد الرئيس كميل شمعون الذي كان المتنبي من أبرز مناوئيه. إذ عمّت المظاهرات والإضرابات أرجاء البلاد. واندلعت في طرابلس معارك مع الجيش وقوى الأمن الداخلي.
وفي 16 مايو 1966. اغتيل مؤسس صحيفة «الحياة» كامل مروة في مكتبه في دار «الحياة» في بيروت برصاصتين أطلقتا من مسدس كاتم للصوتً. وتردد أن الاغتيال كان بناء لأوامر صادرة من عبد الحميد السراج، وبإشراف السفير المصري لدى لبنان عبد الحميد غالب.
وفي 25 فبراير (شباط) 1980، اختُطف الصحافي اللبناني سليم اللوزي عند حاجز للقوات السورية في منطقة طريق المطار أثناء توجهه إلى مطار بيروت الدولي في طريقه إلى لندن بعد أن أمضى خمسة أيام في بيروت، أقام فيها مراسم دفن والدته. وفي الرابع من مارس (آذار) 1980، وجد راعي غنم جثّة اللوزي في منطقة عرمون.. وقد أذيبت يده اليمنى بمادة «الأسيد»، كرسالة تهديد لكل الصحافيين وقيّدت الجريمة ضد مجهول آنذاك.
وقد وصف نقيب الصحافة رياض طه اغتيال سليم اللوزي بأنّها «كارثة». وقال طه: «لا أعتقد أنّه سيبقى هناك صحافة في لبنان». ولم يطل الأمر إلا 4 أشهر على اغتيال اللوزي، حتى اغتيل رياض طه في 23 يوليو (تموز) 1980، حيث لاحق مسلحون سيارته بينما كان متوجها للقاء الرئيس سليم الحص، حينها، واعترضوه مقابل فندق الكارلتون في الروشة وفتحوا عليه النيران بأسلحتهم الرشاشة.
وفي 4 يوليو 1974. اختطف المدير المسؤول في جريدة «النهار» الصحافي ميشال أبو جودة على أيدي مجموعة فلسطينية تنتمي إلى منظمة «الصاعقة» المتحالفة مع النظام السوري. واعتبر وليد عون (ابن شقيقة أبو جودة ومرافقه الدائم) أن خاله ميشال أبو جودة كان الضحية الأولى للنظام السوري، وكانت أول عملية خطف يشهدها لبنان. وبعد أيام على اختطافه، وبعد تدخلات لعدد من الشخصيات اللبنانية والرؤساء العرب، أطلق سراح أبو جودة حيث عولج من آثار التعذيب.
وتعرّض عدد من الصحافيين اللبنانيين للخطف، ومحاولات الاغتيال، كمحاولة اغتيال ناشر صحيفة «السفير» طلال سلمان في 13 يوليو 1984، الذي تعرّض لإطلاق نار أمام منزله في منطقة رأس بيروت.
وبعد الانسحاب السوري من لبنان، عادت موجة جديدة من الاغتيالات لتضرب لبنان، وكان للصحافيين أيضا نصيبهم منها، فقد اغتيل الصحافي سمير قصير بعبوة ناسفة انفجرت في سيارته لدى محاولته إدارة محركها أمام منزله في الأشرفية صباح 2 يونيو (حزيران) 2005. ونجت الإعلامية اللبنانية مي شدياق من محاولة لاغتيالها، بعبوة ناسفة وضعت في سيارتها. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه فُجّرت سيارة مفخخة بموكب النائب والصحافي اللبناني جبران تويني، رئيس مجلس إدارة صحيفة «النهار» على طريق المكلس شرق بيروت.
وفي العام 2008، تعرضت صحيفة «المستقبل» وتلفزيون «المستقبل» للتخريب على أيدي مقاتلين من الحزب السوري القومي الاجتماعي خلال عملية اجتياح العاصمة التي قامت بها جماعات ما يسمى «حزب الله» وحلفائها بها.
وبدوره تعرض تلفزيون «الجديد» لمحاولة إحراق من قبل عدد من الأشخاص، على خلفية مقابلة أجريت مع الشيخ أحمد الأسير.
وقالت صحيفة «المستقبل» بأن خطة مجموعة الملثّمين الخمسة التي هاجمت مبنى قناة «الجديد» في وطي المصيطبة كانت إحراق المبنى، ومن ثم الهرب وإصدار بيان باسم جهة إسلامية وهمية تتبنّى العملية «تضامنًا مع الرئيس سعد الحريري»، قبل أن تقوم بإحراق مبنى «إخبارية المستقبل» في القنطاري، وتصوير الخطوة على أنها رد فعل على إحراق «الجديد».
ولأنّ الخطة لم تنجح بسبب خطأ ارتكبه وسام علاء الدين وأدّى إلى اعتقاله، حاولت محطة «المنار» التابعة لما يسمى «حزب الله» في نشرتها الإخبارية أمس تعويم جزء من الخطة من خلال إعداد تقرير من منزل علاء الدين في زقاق البلاط تضمن مقابلات مع أفراد عائلته حيث بدت من خلفهم صورة للرئيس الشهيد رفيق الحريري، في محاولة للإيحاء بأنّ المعتدين على قناة «الجديد» يدورون في فلك «تيار المستقبل».
وكان وسام علاء الدين اعتقل بينما، كان يحمل قنبلة «مولوتوف» متجهًا إلى داخل مبنى «الجديد» لإحراق المدخل، إلا أن أحد رفاقه الخمسة أشعل بنطاله خطأ، فعاد وسام أدراجه هربًا، وبدلاً من العودة إلى السيارة التي كانت تقلّهم هرع في اتجاه موقع كان يتواجد فيه شبان من الحزب التقدمي الاشتراكي الذين سارعوا إلى توقيفه وتسليمه إلى دورية تابعة للاستقصاء.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.