الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة

حين لا يتفق الفلاسفة على جواب واحد محدد.. ويقف العلم حائرًا

الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة
TT

الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة

الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة

عندما تحاول أن تتعرف على ما يحيط بك، تجد نفسك محشورا في عالم تتعدد أشياؤه وتتنوع، إلى حد تغرق وسطه، فلا تخرج منه وتعود إلى نفسك إلا بصعوبة بالغة، لتكتشف أن ما يحيط بك مألوف وعادي، إلى حد لا تطرح معه السؤال عنه. فالشمس والقمر والنجوم، نعتقد أننا نمتلكها. وكذلك مآثر مدينتنا، وأبواق سياراتها، وسكانها، هي جزء منا. وحينما تعود إلى دواخل ذاتك، تجد أمامك عالما غنيا متعددا، أشبه ما يكون بمسلسل طويل جدا من الأحداث والتجارب والأحاسيس المتتالية، التي تتعرف عليها بدقة أكبر من أي فيلم تلفزيوني تشاهده أمام عينيك، حيث يتعدى الأحداث، ليضم كذلك، الأصوات والروائح، وتتزاحم المعطيات وتتوالى إلى حد نجد أنفسنا غير قادرين على استيعابها جميعا. آنذاك أنت تعرف بأنك أحمد أو علي. وتعرف أنك كنت حزينا البارحة أو سعيدا. وأنك حصلت السنة الماضية على ترقية. وفي طفولتك كنت فتى مشاكسا، غنيا أو فقيرا. إنها ببساطة، كل المعطيات التي تجعلك تتأكد أنك أنت، وأنك قادر على إدراك ذاتك وكل ما يحيط بك. هذا الوعي هو الذي يجعلنا موجودين، ويجعل هذه الحياة جديرة بأن تعاش. إلا أن عليك أن تعرف أيضا، أنك تطل على واحد من أهم القضايا الفلسفية والعلمية وأكثرها تعقيدا. إنه المجال الذي تتوالى حوله المقاربات من كل المجالات. المجال الذي لا يتفق الفلاسفة فيه على جواب واحد محدد. والمجال الذي يقف العلم أمامه حائرا تائها متخبطا بنرجسية مجروحة. وهو الذي طالما ادعى قدرته على بسط سلطانه على كل شيء.
بدءا بالفلسفة، فإن أقوى محاولة مؤثرة في تحديد الوعي، هي تلك التي قدمها الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. فقد عد ديكارت، أن ماهية الوعي هي العقل، كما أسماها«الفكر»، thinking. نحن واعون ما دمنا نفكر. وعندما نفقد الفكر، فإننا نفقد الوعي كذلك. فمثلا، الآن عقلي يركز انتباهه على كتابة هذا المقال. ولكن على الرغم من التغيرات التي تحدث لي عندما أتوقف عن الكتابة، كالشروع في العشاء مثلا، فإنني سأستمر في حالة وعي ما أو أخرى. والفكر جوهر غير مادي، غير قابل للانقسام إلى أجزاء أصغر فأصغر. كل عقل هو نفس خالدة تسكن الجسد، وترتبط به بطريقة معينة. إلا أن هذا التحديد للوعي، لم يقنع فيلسوف العقل، جلبرت رايل، الذي عاش في القرن العشرين، ووصفه متهكما، بمبدأ«الشبح في الآلة». فالعقل يصبح مع ديكارت، بمثابة شبح يسكن في آلة جسدنا. بالإضافة إلى أنه من الصعب أن نربط، لدى ديكارت، بين عنصرين من طبيعتين متعارضتين، الجسد المادي والفكر اللامادي. فأنا أعرف أنه إذا داس أحد ما على قدمي فسوف أشعر بألم. والشعور بالألم حادثة عقلية تسبب فيها ما هو مادي. وعندما أقرر أن أرفع يدي ملقيا التحية، يحدث القرار في نفسي الواعية. لكن ذراعي ترفع نحو الأعلى. سيقول ديكارت، إن العقل والجسد يلتقيان في الغدة الصنوبرية. إلا أن هذا الحل المضحك، لا يزيد طرح ديكارت إلا تعقيدا، خاصة وأنه قدم ثنائية تنتفي داخلها كل إمكانية للالتقاء.
المحاولة الثانية المهمة في تحديد الوعي، سوف تأتي من الفيلسوف الفرنسي الآخر، هنري برغسون، الذي عد الوعي «استمرارية دفاقة». وهو معطى مباشر غير محتاج إلى وساطة أو برهان للتعبير عن نفسه. وهو معاينة الفكر لذاته، وحدس مباشر ذاتي داخلي لا يمكن وصفه إلا بالتشبيهات والاستعارات. كأن نصف حالة من حالاتنا الداخلية بالقوة أو الضعف؛ لأن طبيعة الوعي الحدسية والمباشرة وغير المادية، مستعصية على الوصف اللغوي والتعبير الكلامي. ويعطي برغسون مثالا على الحالات الانفعالية، فيقول:إنه في لحظة الانفعال، أي عندما أكون في حالة رعب، لا أستطيع أن أدرس بدقة أو بموضوعية هذا الرعب الذي أعيشه، وكذلك في حالات الغضب. وإذا أردت دراسة هذه الانفعالات بعد فترة من الزمن، فإنها ولا شك ستكون دراسة غير موضوعية منحازة إلى الذات والعواطف. فحياتنا الداخلية تظهر على شكل وعي متدفق، تتعاقب فيه الأفكار والذكريات والمشاعر من كل صوب وحدب وتترابط، فيشكّل لوحة متوحّدة، تنصهر فيها كل القوى والملكات تماما، مثلما تنصهر الألوان وتتوحد لحظة مغيب الشمس، بشكل تستحيل معه كل مقاربة فيزيائية أو علمية للمعاينة الموضوعية، والقياس الكمي، كما هو مطبق على الموضوعات الفيزيائية الخارجية.
هذه الاستحالة، التي يعبر عنها برغسون، تبقى في نظر رجال العلم غير مبررة. فالوعي في نظرهم ليس شأنا فلسفيا ويجب أن يخرج من دائرة الدراسة الفلسفية. بمعنى أن الوعي شأن علمي، ولا يجب أن يكون إلا علميا. بل إنه من السخرية، في نظرهم، مقاربة قضية الوعي بطريقة أخرى كالتي يقدمها لنا روني ديكارت أو هنري برغسون. فكل نواحي العقل، بما في ذلك الوعي الذي هو أكثر نواحي العقل إثارة للحيرة، يمكن تفسيرها بطريقة أكثر مادية، على أساس عدها سلوك مجاميع كبيرة من الخلايا العصبية المتفاعل بعضها مع بعض داخل الدماغ. كيف ذلك؟ أغمض عينيك للحظة فقط ثم افتحهما. لفترة قصيرة جدا لا تكاد تشعر بها، استقبلت ملايين الخلايا في دماغك، إشارات مولدة من قبل الضوء الساقط على الشبكية، وإعادة تشكيل الحقل البصري. بعد ذلك أغلق عينيك وفكر في لحظة عاطفية جدا في حياتك، أي في وقت ما كنت فيه سعيدا جدا، أو حزينا جدا، أو متحفزا. ربما لم تكن قد فكرت بهذا الحدث مند سنوات، لكن خلايا دماغك اختزنت الصورة، وكانت قادرة على إعادة بثها من جديد عند الطلب، وهو أمر مغر جدا، أن يتم الربط بين الوعي والدماغ، والعقل والدماغ. ففي غرب ولاية فيرمونت بالولايات المتحدة الأميركية، وفي يوم عمل بالسكة الحديد، سيتعرض أحد العمال لإصابة، حيث سينغرس قضيب متطاير في الناحية اليسرى من وجهه، وعبر دماغه. وبعد فترة إغماء قصيرة، وبعد معاينة الطبيب، عاد إلى العمل. وقد لاحظ أصدقاء العامل تغيرا غريبا في سلوكه. فبعدما كان رجلا متزنا، أصبح سريع الغضب؛ يعاقر الخمر، ويكثر السباب. وقد أبانت الخبرة بعد ذلك، أن إصابته كانت في مقدمة الفص الأمامي، وهي الجهة التي تؤدي الإصابة فيها إلى تصرفات غير مسؤولة، وإلى عدم القدرة على فهم الحاجة للتخطيط على المدى الطويل. لكن رغم جاذبية هذه المقاربة، فما تزال هي الأخرى تتخبط في مشكلات جمة. فعلماء الأعصاب لا يعرفون، حتى الآن، ما يكفي بخصوص كيف يعمل الدماغ، بالقدر الذي يمكِّنهم بشكل دقيق، من معرفة كيف ينبثق الوعي من النشاط الكهربائي والكيميائي للعصبونات. وبذلك، فإن الخطوة الكبيرة الأولى، تكمن في تحديد أفضل المترابطات العصبونيَّة للوعي، بمعنى الفعالية الدماغية التي تتوافق مع الخبرات الواعية النوعية. فعندما تدرك أنك ترى كلبا، فما عصبونات دماغك التي تتأثر بذلك؟ وحينما تشعر بحزن ينتابك فجأة، فماذا يحدث في دماغك؟ بمعنى أنه من الضروري إيجاد الخريطة الدماغية النهائية للنشاط العصبي المحدد لكل العمليات الواعية التي يقوم بها الإنسان. آنذاك يمكن الحديث عن مقاربة علمية متقدمة في موضوع الوعي. لكن ولنفترض بأن هذا الأمر حدث. يؤكد الفيلسوف الأميركي، جون رودجر سيرل، في كتابه«العقل مدخل موجز»، أنه حتى لو حددنا الخريطة الدماغية والتركيبية الكيميائية النهائية لطريقة اشتغال الوعي، فسوف يبقى من الصعب علينا تحديد هذه العمليات بشكل نهائي. فلنراقب ما يحدث مثلا أثناء احتساء القهوة. حسنا، سنحدد الخلايا المسؤولة عن كل عمليات الوعي المصاحبة لهذه العملية وبشكل دقيق. لكن هل نحن سنعيش الأحاسيس نفسها، والتجربة نفسها مع احتساء فنجان قهوة، هل نستمع لأغاني فيروز بالطريقة عينها؟ ما يعني أن هناك تجارب باطنية يظل من الصعب تحديدها أو وصفها، ونختلف فيها نحن جميعا. وهو ما يبرزه كذلك، البروفسور والفيلسوف الأميركي توماس نيغل، بسؤاله المستفز: ما معنى أن تكون وطواطا من منظور الوطواط؟ فيمكن للمرء أن يمتلك، معرفة كاملة عن النيروبيولوجي للوطواط، ومع ذلك، لا بد أن يبقى شيء ناقص من معرفة هذا الكائن: ما نوع الشعور الذي يميز الوطواط بصفته وطواطا؟ وهذا السؤال يسلط الضوء على جوهر الوعي. وأي تفسير موضوعي للوعي يهمل هذه الناحية، لا يستطيع أن يفسر الخاصية الذاتية للوعي. وهي المعلومات الصعبة في الوعي، بتعبير الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز.
هكذا يظل الوعي قضية معقدة جدا. كل مقاربة لها، تطرح مشكلات جديدة، أكثر بكثير من الحلول التي تقدمها؛ مما يجعلنا دائما، متعلقين بالمستقبل، راغبين في الفهم، ومتوجسين من هذا الفهم، خاصة وأن هذا الفهم يتعلق بجوهر الإنسان، وأساس تفرده، حيث نخشى أن نصبح واضحين جدا، بشكل يتنافى معه كل سحر وتميز في الإنسان. فنجد أنفسنا، تبعا لذلك، أمام خيارين، أحلاهما مر:
أولهما، أن نؤمن بالأفكار البالية، ونحن في دفء الوهم الذي يؤكد أن الإنسان روح ونفس تستعصي على المقاربات العلمية الدقيقة.
وثانيهما، أن نوقن أن العلم، سيكشف في المستقبل عن سر الوعي وكنهه، مهما أحرجنا ذلك، مادام أن العلم لا ينتظر أحدا، ولا يأخذ رغباتنا أو أهواءنا بعين الاعتبار.

* أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.