دفعني الفضول لمشاهدة الفيلم الأميركي «ترامبو» Trumbo الذي يأخذ عنوانه من اسم كاتب السيناريو الأميركي جيمس دالتون ترامبو الذي اشتهرت سيناريوهاته للكثير من الأفلام التي تمثل أيقونات في السينما العالمية مثل «سبارتاكوس» و«إجازة رومانية» إلخ... والتي أدعي أنني شاهدتها مرارًا في حياتي. إلا أنني كأغلب المشاهدين لم ألتفت إلى الكاتب بقدر ما التفت إلى الممثل وبدرجات أقل المخرج، أما السيناريست فلا مكان له في معظم الأحيان في أذهان المشاهدين من أمثالي.. الذين هم الغالبية.
ما هالني في الفيلم حالة الاضطهاد التي تعرّض لها يساريو الولايات المتحدة وليبراليوها في الفترة التي تزامنت مع «الحرب الباردة» برغم عدم تحمّسي الطبيعي للفكر اليساري، وبالذات الشيوعي. إذ جسّد الفيلم حالة التخوف الهستيري الذي شاب المجتمع الأميركي تجاه ذلك الفكر، وبلغ هذا التخوف مرحلة الملاحقة القضائية المستمرة والحصار الشخصي، وسط تجاهل كامل لـ«التعديل الأول» للدستور الأميركي الذي يضمن حرية الفكر طالما أنه لا يتعرض للمبادئ العامة له.
يومذاك حاصر القائمون على السينما الأميركية كل من اعتنق فكرًا يساريًا بغض النظر عن قدراته على أداء مهنته، وشخصية «ترامبو» كانت تجسّد أفضل كاتبي السيناريو في هوليوود، لكنه مع ذلك سُجن ومُنع من الكتابة لسنوات طويلة فاضطر للكتابة تحت أسماء مستعارة، إلى أن انتهت حقبة الاضطهاد تلك التي شوهت لفترة المجتمع السياسي الأميركي.
تلك الحقبة عرفت بـ«الحقبة المكارثية» نسبة للسيناتور اليميني جوزيف مكارثي. ومن ثَم، دخلت «المكارثية» قاموس السياسة لتعني الاضطهاد والملاحقة من قبل الدولة لمن يعتنق فكرًا مناوئًا لها، وذلك على الرغم من وجود مُسميات مشابهة مختلفة أدرجها التاريخ في طياته، لعل أشهرها ما عُرف باسم «محاكم التفتيش» Inquisition التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية ضد كل من كانت تشك فيهم بما في ذلك العلماء، وعلى رأسهم العالم العظيم غاليليو غاليليي لأنه آمن وأعلن أن الأرض ليست مركز الكون. ولقد اضطرت الكنيسة لأن تعتذر له بعد مرور قرون من الزمن.
جوزيف ماكارثي قاد حملات التشهير والتطهير في الولايات المتحدة خلال مطلع خمسينات القرن الماضي ضد كل ليبرالي أو يساري ملصقًا به أو بها تهمة الشيوعية، مدفوعًا بطموحاته الشخصية للارتقاء السياسي في أروقة السياسة الأميركية، وأيضًا للارتقاء الاجتماعي، خاصة أنه كان من أصول آيرلندية متواضعة في ولاية يسكونسن، وبدأ كفاحه الاجتماعي على مقاعد الدراسة. بعدها التحق بالجيش خلال الحرب العالمية الثانية ولكن لم تكن لديه الخبرة القتالية التي سعى لمحاولة اكتسابها من خلال وسائل الإعلام فيما بعد. وبعد عودته للحياة العامة عمل قاضيًا في الولاية إلى أن رشح نفسه لمجلس الشيوخ الأميركي. ولقد نجح في ترشحه الثاني كمرشح جمهوري فأصبح في حينه أصغر سيناتور أميركي عن عمر يناهز الثامنة والثلاثين.
لقد كانت الظروف السياسية المحيطة بالولايات المتحدة في ذلك الوقت تنبئ ببداية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. وأخذت واشنطن تعد لهذه الحرب الجديدة تدريجيًا في محاولة لمواجهة الفكر اليساري على المستوى الدولي لـ«إبعاد خطر الشيوعية» عن حلفائها أو الدول المحايدة. وكان قد ساهم في انتشار الفكر اليساري في ذلك الوقت داخل الولايات المتحدة ذكريات حالة «الكساد الكبير» الذي ضرب البلاد لمدة طويلة قبل الحرب العالمية الثانية وأدى إلى مشاكل اجتماعية كبيرة للغاية وفقدان الملايين وظائفهم في المصانع والشركات. تلك المعاناة أسهمت في تجميل الاشتراكية والشيوعية في نظر هؤلاء وأسرهم وانتشرت بعض البؤر التي اعتنقت هذا الفكر بما في ذلك الحزب الشيوعي الأميركي. وكان من الطبيعي مع اندلاع الحرب الباردة، وبالأخص، بعد تطوير الاتحاد السوفياتي القنبلة الذرية انتشار الخوف من حرب نووية آتية. وهذا ما ساهم في تطوير مصطلح «الرعب الأحمر» Red Scare الذي انتاب الولايات المتحدة على كل الأصعدة. وكان هذا الخوف هو الفرصة التي استغلها السيناتور الشاب للتدرج السياسي من خلال قيادة حملاته القضائية والبرلمانية لملاحقة كل من كان له علاقة باليسار أو حتى المتعاطفين معه.
بدأ مكارثي حملته قرب نهاية مدته الأولى في مجلس الشيوخ، عندما بدأ يصنع لنفسه هالة «مخلص البلاد من الشيوعيين» من خلال توجيه الاتهامات إلى مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة كالصحافة والجامعات وهوليوود، مستغلاً الخوف الأميركي. وهذا ما جلب له تعاطفًا شديدًا على المستوى الشعبي، لا سيما أن الرجل كان صريحًا ولبقًا ويتمتع بـ«الكاريزما». كذلك كان للإعلام دوره الكبير في صناعة هذا «النجم» المثير للجدل. وبدأت كل مؤسسات الولايات المتحدة تخشاه، حتى أنه شن هجومًا عاتيًا على وزارة الخارجية متهمًا وزير الخارجية جون فوستر دالاس، في ذلك الوقت، بـ«حماية دبلوماسيين شيوعيين» في وزارته متهمًا بعضهم صراحة بالعمالة للاتحاد السوفياتي. كذلك فجّر مفاجأة مدوّية بزعمه وجود 150 دبلوماسيا أميريًا يعتنقون الشيوعية ولهم اتصالات بالمؤسسات السوفياتية. ولقد لاقت هذه الحملة رواجًا إعلاميًا وجماهيريًا كبيرًا جعلت مكارثي نجمًا ساطعًا في واشنطن، وثمة آراء تشير إلى أن نجاحاته وطموحاته دفعته للاعتقاد بأنه يمكن أن يكون رئيسًا للبلاد في المستقبل.
وواصل مكارثي حملاته من دون توقف أو تحديد أهداف بشكل سياسي متّزن، وساعده على ذلك أنه تم انتخابه رئيسًا للجنة الحكومية في مجلس الشيوخ ما منحه السلطة البرلمانية للتحقيق مع هذه المؤسسات الحكومية. أتيحت له حالة من القوة المفرطة لم يستغلها بشكل حكيم، فكانت بداية أخطائه أنه وجه حملته التالية على وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية التي كانت يترأسها في ذلك الوقت آلان دالاس، الأخ الأصغر لوزير الخارجية. إذ بدأ مكارثي يروّج شائعات عن وجود عملاء سوفيات في الوكالة يتجسسون على البلاد وهو ما لاقى استياء القيادة السياسية الأميركية في ذلك الوقت، إذ رأت أنها ستؤثر سلبًا على المصداقية الأميركية خارجيًا وعلى الرأي العام داخليًا، وكذلك ضرب الوحدة المؤسسية الحاكمة في البلاد. وكان للسيناتور ريتشارد نيكسون - الذي أصبح رئيسًا للجمهورية فيما بعد - دور كبير في إثناء زميله عن الاستمرار في هذا الهدف الخطير، وهو ما اضطر الرجل للانسحاب من هذه المعركة، ولكن ليس قبل أن يوحد صفوف أعدائه داخل مؤسسة السلطة، الذين ضاقوا ذرعًا برعونته وطموحاته.
لكن الخطأ السياسي الأكبر الذي ارتكبه مكارثي كان إشهار سلاحه ضد المؤسسة العسكرية الأميركية. ويومذاك كان رئيس الجمهورية دوايت أيزنهاور، الجنرال المتقاعد وبطل الحرب العالمية الثانية، الذي رأى أن الرجل قد بدأ يتخطى كل الحدود. ومع تزايد الأعداء، وانكشاف بطلان الاتهامات التي كان يطلقها مكارثي جزافًا، شكلت «الحرب» الحرب بينه وبين مؤسسات الجيش بداية نهايته. وأخذت تظهر دلائل على أن الرجل لم يكن موضوعيًا في الكثير من اتهاماته، التي أطلقها دون دليل دامغ أو حتى شبهات يمكن أن تمثل أساسًا لبدء التحقيقات خاصة أن القضاء قد برا كثيرين من المتهمين. ولقد استغل أعداؤه تهديدات أحد مساعديه لأحد الجنرالات لرفضه منح معاملة استثنائية لمجند كانت تربطه به علاقة آثمة، وعقد مجلس الشيوخ جلسات استماع ضد مكارثي جعلته يفقد كل الأرضية السياسية والدعم الشعبي الذي كان محاطًا به كما أفقدته هذه الجلسات الشعبية الإعلامية. ومن ثم استقرت اللجنة ضد مكارثي وأصدرت ضده قراراتها العقابية التي انتهت بكسره سياسيا، وبانطفاء نجم مكارثي انطفأت الفتنة التي قادها في المجتمع التي دفع ثمنها كثيرون من الأبرياء. ولكن على الرغم من القضاء على «المكارثية» رجلا وحملة، فإنها ظلت كظاهرة «نقطة سوداء» في التاريخ الأميركي شكلت أسوأ تعديات على الحريات والعدالة في كثير من الأحيان.
حقيقة الأمر، أن ظاهرة مكارثي تحتاج إلى وقفة للتأمل والتفكر في الوقت ذاته. ففكرة الاضطهاد الجزافي لأسباب فكرية تمثل نموذجًا غير ممكن استمراره، خاصة أن الفكرة لا تقارع إلا بالفكرة طالما أنها لم تدخل إلى حيز السلوك. ولكن من ناحية فإن التاريخ السياسي لمكارثي يمثل نموذجًا لرجل جانبه الصواب في مرحلة ما متأثرًا بالنجاح الكبير الذي حققه والدعاية الإعلامية التي سبقته ولاحقته. وهو في تقديري وقع في خطأين أساسيين: الأول أنه فاته كسياسي ضرورة التوقف عند نقطة زمنية محددة. والثاني كان سوء تقديره خطورة تهديد كل مؤسسات الدولة القوية في آن واحد. ومع أن الخطأ الأول يظل مشكلة شخصية يمكن تداركها مع الوقت، ولكن عند حدوث الخطأ الثاني فإن السياسي يكون في سبيله لحفر قبره السياسي وهذا ما حدث لجوزيف مكارثي. إن البوصلة السياسية عندما تضل تقود صاحبها إلى الهلاك حتمًا... وهذه سنة السياسة في كل الأنظمة والدول والمجتمعات.
من التاريخ: المكارثية
من التاريخ: المكارثية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة