من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي
TT

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

لقد سعى الحلفاء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية لتدشين نظام تجاري دولي، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، حيث سعت الولايات المتحدة والتي كانت أكبر قوة اقتصادية دولية إلى اقتفاء أثر النظام النقدي والمالي الذي رسخته والمعروف بـ«نظام بريتون وودز»، إذ أسّس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية ليكونا ركيزتي هذا النظام.
ولكن مسعى الولايات المتحدة والحلفاء لم يستطع تطبيق نفس المبدأ على التجارة الدولية نظرًا للظروف المرتبطة بها وأثرها المباشر على التنمية والتطور في الدول، ومن ثم أكتفي بوضع نظام متعدد الأطراف لإدارة التجارة الدولية عرف باسم «الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات» (الغات) GATT التي أقرّت كثيرا من المبادئ، وعلى رأسها منع التمييز ومنح الدول المتعاقدة حق الدولة الأولى بالرعاية، أي أن ما يمنح لدولة يجب منحه للدول الأخرى. كذلك أقرّت الاتفاقية العمل على خفض التعريفة الجمركية وكسر مسألة الأفضليات والسعي لوضع حد للحصص التجارية Quotas وحسم مسألة الدعم، وهي كلها مسائل تهدف إلى تسهيل حركة التجارة الدولية لإقرار السلام عبر التكامل بين الدول. كذلك فقد نشأ نظام لتسوية المنازعات التجارية بين الدول، وبالفعل نجحت الاتفاقية في خلق بيئة دولية إيجابية نسبيًا، خصوصًا بعد «جولة كيندي للمفاوضات» التي ساهمت بشكل كبير في خفض التعريفات الجمركية بنسب متفاوتة.
ورغم الصعوبات المرتبطة بمسائل التجارة الدولية فإن الآمال كانت منعقدة على هذه الاتفاقية لتحقيق مزيد من الأهداف لمواجهة المشكلات التجارية. وبالفعل نجحت «الغات» حتى منتصف ستينات القرن الماضي لأسباب مرتبطة بشكل مباشر بالظروف الاقتصادية الدولية في ذلك الحين، والتي بدأت تتغير تدريجيًا وأثرت على النظام التجاري الدولي تمامًا مثل النظام النقدي الدولي، إذ شهدت فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تطورات كثيرة أدت إلى تزايد المشكلات المرتبطة بالتجارة ورفع مستوى الحمائية بين الدول، وهو ما يتناقض تمامًا مع مبادئ الاتفاقية.
فلقد بدأ العالم يدخل في أزمته النقدية مع فقدان الولايات المتحدة القيادة، إذ أصبحت تعاني من أزمات اقتصادية أدت إلى تعويم الدولار وكسر قاعدة الذهب في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، وهو ما كان له أثره المباشر على التجارة الدولية، حيث حقّق الميزان التجاري الأميركي لأول مرة عجزًا بحلول عام 1971، وبدأت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لمعالجة الأمر بمزيد من الحمائية، خصوصًا أن الكونغرس بدأ يدخل نفسه في هذا الإطار بعدما كان الأمر متروكًا للسلطة التنفيذية بالأساس.
أما على المستوى الدولي، فأصبحت اليابان وأوروبا الغربية في حالة اقتصادية جيدة بعدما عبرت أزمات الحرب العالمية الثانية وحققت نسب نمو عالية وعادت مرة أخرى إلى الساحة الدولية بقوة، بل أصبحت هذه الدول منافسًا قويًا للولايات المتحدة، وباتت الأوضاع تنذر باندلاع حروب تجارية بين الدول الكبرى، خصوصًا بعدما بدأ النظام الدولي يدخل في مرحلة التضخم المصحوب بالكساد بفعل الأزمة المالية، إضافة إلى ارتفاع أسعار البترول بعد حرب 1973، وهذا ما أدى إلى تفشي ظاهرة البطالة في هذه الدول وتذبذب أسعار الصرف. وأدى من ثم إلى إعادة العالم مرة أخرى إلى سياسات «على حساب الجار» التي دفعت بالحمائية لأقصى آفاقها منذ الحرب العالمية الثانية.
ولعل بداية ظهور التكامل الأوروبي كانت سببًا مضافًا إلى هذه الأزمة التجارية الدولية، إذ سعت أوروبا منذ إعلان «السوق الأوروبية المشتركة» إلى العمل على التكامل التدريجي إلى أن أصبحت «الاتحاد الأوروبي». وهي خطوات كان من شأنها تقوية الترابط التجاري الداخلي على حساب علاقاتها بالعالم الخارجي، خصوصًا بعد «اتفاقية ماستريخت» التي فتحت المجال أمام الاتحاد الأوروبي. وهذا ما دفع العالم للتخوّف من أن تصبح هناك «أوروبا المحصّنة» ضد التجارة الدولية، خصوصًا بعد توحيد المعايير والتعريفات أمام التجارة الدولية. ولكن هذا التكتل لم يكن التهديد الوحيد للتجارة الدولية، إذ وقّعت الولايات المتحدة وكندا والمكسيك اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية «نافتا» NAFTA عام 1992، ثم تبعتها دول من أميركا اللاتينية التي أعلنت عن إقامة «سوق الميركوسور»، وأصبحت هناك تكتلات تجارية دولية باتت تنظر بخطورة بالغة على التجارة الدولية.
ونظرًا لأهمية التجارة الدولية على المستوى المحلي، أخذت الدول تسعى لنوعية جديدة من الحمائية بعيدًا عن التعريفات الجمركية التي حسمتها اتفاقية «الغات» ومعها مسألة الحصص. وبالتالي وجد العالم نفسه أمام ممارسات ليست بالضرورة جديدة، لكنها صارت متفشية، وعلى رأسها ما هو معروف باسم «الحواجز غير الجمركية» Non Tariff Barriers، على رأسها: المعوّقات الصحية والمواصفات والمقاييس ومسألة الدعم للصناعات المحلية والتمييز ضد الشركات الأجنبية في المناقصات الحكومية والمسائل المرتبطة بالملكية الفكرية والضمانات الحكومية، إضافة إلى مشكلة التجارة في الخدمات، التي صارت النسبة الكبرى من التجارة، خصوصا بالنسبة للدول المتقدمة علميًا. ولقد مثلت الصادرات الأميركية من الخدمات أكثر من نصف صادراتها في مطلع التسعينات، وهي الموجة الجديدة التي بدأت تعيق حركة التجارة الدولية التي استخدمتها الدول لوقف الواردات من الدول الأخرى. كذلك لجأت الدول إلى ما هو معروف باسم «اتفاقيات التقيد الطوعية» والتي أخذت الدول توقّعها في ما بينها لتفادي الحمائية الجديدة والدخول في حروب تجارية.
إزاء كل هذه التطوّرات صارت الدول الكبرى تدرك أهمية إطلاق جولات جديدة للمفاوضات المتعددة الأطراف لمواجهة هذه الموجات الجديدة من العوائق التجارية لإيجاد الحلول المناسبة لها. وبالفعل انطلقت «جولة طوكيو» للمفاوضات عام 1973 لمواجهات آثار التقلّبات النقدية على التجارة الدولية بمبادرة أميركية. وطالت هذه المفاوضات لسنوات عدة، غير أنها انتهت بنجاح جزئي، حيث أدخلت تسويات جزئية وعلى رأسها حق الأطراف المتأثرة من أضرار الدعم الحكومي للتفاوض لإيجاد تسوية تعويضية، إضافة إلى وضع مدونات سلوك لمواجهة المسائل الخاصة بمنع الإغراق بعدما وضعت تعريفات دقيقة لهذه العملية، كما وضعت شروطًا واضحة بالنسبة لقطاع المناقصات في بعض المجالات لضمان المعاملة المتساوية النسبية بين الشركات المحلية والأجنبية. كذلك سهّلت كثيرا من الإجراءات الخاصة بالحصول على التصاريح والرخص بالنسبة للشركات المختلفة العاملة في دول أخرى، التي كانت محل تأخير. لكن الملاحظ هنا أن الاتفاقيات لم تكن شاملة لكل الأعضاء المشاركين في «الغات»، وهو ما كسر المبدأ الأساسي الذي كان معمولا به في إطار الاتفاقية، وهو مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. فلقد أصبحت بعض الاتفاقيات تضم بعض الدول دون غيرها، وفي كل الأحوال فإن الدول لم تستطع مواجهة مشكلة حرية التجارة في السلع الزراعية، خصوصا بعدما أدخل الاتحاد الأوروبي السياسة الزراعية المشتركة التي جعلت التجارة في هذا المجال خارج النطاق تمامًا رغم الضغوط الأميركية القوية في هذا المجال.
ونظرًا لأن «جولة طوكيو» لم تحسم كثيرا من الأمور، أطلقت جولة جديدة من المفاوضات عرفت بـ«جولة الأوروغواي»، وبدورها استمرت لسنوات وظلت تحت ضغط الانهيار في أي لحظة بسبب الاختلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وضغوط الدول النامية. ومن ثم خلصت الجولة إلى كثير من النتائج الهامة، ولكنها كعادة هذه الجولات لم تكن شاملة، إذ أسفرت عن خفض إضافي للتعريفات الجمركية، وتوصلت إلى خفض الدعم على المنتجات الزراعية وصل إلى قرابة 21 في المائة على ست سنوات، فضلاً عن إلغاء نظام الحصص في صادرات المنسوجات والاستعاضة عنه بتعريفات جمركية التي يمكن النظر في خفضها فيما بعد. أيضًا جرى إدخال الاستثمار والخدمات في نظام التجارة الدولية وتطبيق مبادئ المعاملة الوطنية على هذا القطاع. وتم الاتفاق على حماية الملكية الفكرية داخل المنظومة التجارية بناءً على ضغوط الدول الصناعية الكبرى لحماية حقوقها من القرصنة وبيع المنتجات المصنعة عبر القرصنة.
وتم بالفعل التوقيع على الاتفاق في مدينة مراكش المغربية عام 1994 على أن يدخل حيّز التنفيذ عام 1995، وتقرر أيضًا بإبدال منظومة «الغات» بمنظمة التجارة العالمية والتي كانت مقرّرة وفقًا لـ«ميثاق هافانا» الذي لم يرَ النور، ومع ذلك انطلقت «جولة الدوحة» التي لا تزال مستمرة إلى اليوم لمعالجة أوجه القصور التي لم تتناولها «جولة الأوروغواي».
وهكذا تطوّر النظام التجاري بخطى أبطأ من النظامين النقدي والمالي الدوليين، لكنه لا يزال محكومًا بمبادئ أساسية للتجارة. ولا تزال الدول تبتكر وسائل لأنواع جديدة من الحمائية، ولكن المفاوضات الدولية تقتفي أثر هذه المتغيرات وتلاحقها شأنها شأن ما يحدث في النظام النقدي والمالي الدولي.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».