طرح محرر ثقافي مؤخرًا سؤالاً جديرًا بالتأمل: لم لا يشير شعراء قصيدة النثر إلى أعمالهم بأنها شعر على أغلفة دواوينهم؟ لم يفضلون وصفها بالنصوص وليس بالقصائد أو يغفلون نوعها الأدبي؟ ومع أن السؤال مبني على فرضية غير صحيحة لأن من أولئك الشعراء من يصف قصائده بالشعر، ولأن عدم ذكر النوع موجود حتى لدى شعراء العمودي والتفعيلة، فإن وصف القصائد بالنصوص شائع فعلاً لدى شعراء قصيدة النثر. وهم شعراء فعلاً وقصائدهم، في نماذجها الجيدة، شعر وشعر حقيقي، بل إنني لا أتردد في تكرار القول بأن النسبة الكبرى من الشعر الحقيقي اليوم تضمه قصيدة النثر، طبعًا لدى شعرائها الحقيقيين.
مجموعة إبراهيم الحسين «على حافة لوحة في المنعطف الموسيقي» (نادي الرياض الأدبي، 2014) مثال باهر لما أشير إليه. هي نصوص فعلاً، وبعضها نصوص من حيث هي بالفعل نثر مقالي، أو تختلط فيه المقالة بمباشرتها بالقصيدة بمجازها، لكن منها ما هو نص ينحاز إلى الشعر، وهل كان الشعر يومًا حكرًا على شكل من أشكال الكتابة، الشعر بما هو رؤية ولغة ولحظة اكتشاف وتوهج تتعالى على الوزن والنظم؟ قد يأتي الشعر موزونًا منظومًا طبعًا، لكنه ليس موقوفًا على شكل محدد، بل إن قصيدة النثر، لدى شعرائها الكبار، أثبتت أن الشعر أكبر من الوزن والنظم، أكبر من العروض، كما قال أبو العتاهية. وابن الأحساء إبراهيم الحسين هو من أولئك الكبار، وأود فيما يلي أن أقول لماذا، وإن باختصار مخل.
يصف الحسين ما تضمه مجموعته بأنها أيضًا تقاطعات، وهذا توصيف دقيق لمجمل النصوص في المجموعة، فهي تقاطعات مع شعراء آخرين، تقاطعات «تجأر» بثقل الشعراء الآخرين على كاهل الشاعر، كما يقول في قصيدته الموجهة إلى صديقه الشاعر الكبير الآخر أحمد الملا، ولكنها تغرد في الآن نفسه من شرفات الشعر إذ يقلب المعادلة فيعلو متكئًا على كواهل الشعراء الآخرين. ما يعبر عنه الحسين إشكالية حقيقية تحدث عنها الشعراء والنقاد قديمًا وحديثًا. هي من ناحية إشكالية العثور على فضاء مختلف تتزاحم فيه مواهب وعطاءات مذهلة لمعاصرين وقدماء بحثًا عما وصفه عنترة بن شداد بالمتردم الذي غادره الشعراء. وهي من ناحية أخرى ديون محبة لكل أولئك الذين منحوا الشاعر لغة ورؤى لا يرى بأسًا من أن تكون قصائده متنفسًا لها، كما يقول في نص موجه إلى الشاعر العراقي رحمن النجار يتساءل فيه عن معنى السرقة:
«أنا لا أريد أن أسرق لكن ماذا أفعل إذا كان شعرائي ورسامي وموسيقيي
ونحاتي لا يشربون قهوتهم ولا يدخنون سجائرهم كل صباح إلا تحت جلدي..
فهل أطردهم لكي أقول إني ما سرقت».
المجموعة التي بين أيدينا اعتراف بتأثر طبيعي لشاعر بشعراء آخرين، وهل بوسع أحد أن يدعي أنه لا يدين لغيره؟ يؤثر عن الأميركي ت.س. إليوت أنه قال: «الشاعر الجيد يسرق، أما الضعيف فيستعير»، وقصد من ذلك القدرة على توظيف ما يلتقطه الشاعر من الإرث سواء أكان قديمًا أم حديثًا، فالجيد من الشعراء يوظف ما يأتي على النحو الذي لا يشعرك بأنه جاء من أحد، وغالبًا ما يكون ذلك دون وعي. لكن الحسين هنا يفعّل الوعي نفسه، يعلن مديونيته لمن أحب وتأثر به من الشعراء: سركون بولص، سعدي يوسف، قاسم حداد، أحمد الملا، إلى غير هؤلاء من أسماء كثيرة ترد في النصوص-القصائد لا لتؤكد المدينية فحسب وإنما القدرة على تجاوزها إلى الابتكار. لا أحد في ظني سبق الحسين في الإعلان عن كل تلك الديون وإن فعل فليس على النحو الذي يشهق بالشعر في خضم الاعتراف.
لكن مجموعة الحسين ليست كلها تعدادًا لحضور الآخرين. هنا نصوص تغرد منفردة بلحظات عشق أو لحظات غياب. توقفت طويلاً أمام قصيدة بعنوان «دوار الصور» تثير أزمة مألوفة لكنها لا تلبث أن تغادر ألفتها لتسبح في فضاء آسر من الابتكار. هكذا تبدأ:
نعثر على أحبائنا في الصور، نثبتهم إلى ألوانها، نشير لهم تجاه ملابسهم
أن لا يخلعوها، فهي جميلة ولا بأس بها
ننشرهم على حبال نظراتهم، فهم غسيلنا الذي يجب أن يظهر نظيفًا وجميلاً.. غسيلنا الذي نشمه فنسكر.
من منا لا يحتفظ بصور لأحبة حاضرين أو غائبين؟ ولكن من منا تأمل في دلالات تلك الصور على هذا النحو البديع والعميق «الذي نشمه فنسكر»؟ في القصيدة لوعة العجز عن استرداد من لم يبق منهم سوى الصور، لكن قصيدة أخرى هي «وجوههم بضوئها الشديد» تصف اللوعة المجاورة، لوعة العجز عن النسيان: «تدلت أغصان وجوههم - بضوئها الشديد في رؤوسنا - وتدلى الذي فعلوه بنا- يوم تحسسنا الصدور، فلم نجد قلوبنا - رحنا نجأر مثل رعد - بوجوه مدلهمة - ودمع غزير - لا يريد أن يتوقف - عندها تيقنا.. - أن لن يكون - بإمكاننا أبدًا - قطع الطريق - إلى نسيانهم».
هل كان الوزن أو حتى الإيقاع سيأتي بشعرية غائبة عن هذا النص أو يرفع اللوعة إلى مرتبة في الفن أعلى؟ قطعًا لا.
بين هذه النصوص نحن أمام تأمل طويل ومتنوع وباذخ لطبيعة الكتابة، طبيعة الشعر كيف يأتي، شكل الكلمات حين تأتي متهادية، كما يقول الحسين في نص بعنوان «امتلاء». الشعرية هنا تنهض أولاً على مجازية الرحلة التي تعبرها الكلمات العمياء إلى الشاعر («تتلمس بعصيها دروبها إلى الورقة»)، ثم تنهض ثانية على مفاجأة النهاية، المفاجأة-المفارقة:
لكن سرعان ما تلقي تلك العصي
وتفتح عيونها تتراكض صوب أماكنها
ذلك أنها امتلأت وفاضت بغيابك
غيابها يستدعي الكلمات ويستفز الشعر.
في قصيدة «امتلاء» جاءت الأسطر تراتبية بشكل عمودي مذكرة إيانا بالشكل التفعيلي وفي تقاطع شكلي يضاف إلى التقاطعات الأخرى في المجموعة، تقاطعات الشعراء والفنون (حافة اللوحة والمنعطف الموسيقي). هنا تحضر الأشكال والفنون ويحضر الشعر. شيء واحد يغيب.. الامتلاء بمعنى الاكتفاء: من الصعب أن تكتفي من قراءة نصوص كهذه أو تمتلئ بالكتابة عنها، وما هذه المقاربة العجلى إلا مؤشر على ذلك.
نصوص إبراهيم الحسين وتقاطعاته عند المنعطف الشعري
النسبة الكبرى من الشعر الحقيقي اليوم تضمه قصيدة النثر
نصوص إبراهيم الحسين وتقاطعاته عند المنعطف الشعري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة