«نالاندا» الهندية.. «عنقاء» الجامعات

بعد 800 سنة من تدميرها تعود لدورها التعليمي القديم

جانب من  جامعة نالاندا الهندية القديمة
جانب من جامعة نالاندا الهندية القديمة
TT

«نالاندا» الهندية.. «عنقاء» الجامعات

جانب من  جامعة نالاندا الهندية القديمة
جانب من جامعة نالاندا الهندية القديمة

تشهد الجامعة الأهلية الهندية التي يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن الخامس الميلادي، والتي تعرضت للحرق والدمار على أيدي المغيرين والغزاة في عام 1193، الخطوات الأخيرة من استعادة مكانتها وإحياء دورها. وعلى غرار أسطورة العنقاء، التي تقوم من الرماد، تعاود الجامعة العريقة ممارسة دورها الذي دأبت عليه قبل قرون.
كانت جامعة نالاندا الهندية توفر التعليم العالي لآلاف الطلاب من مختلف البلدان لما يزيد على 600 عام في نفس الوقت الذي تأسست فيه أول جامعة أوروبية معروفة في مدينة بولونيا الإيطالية عام 1088.
كانت جامعة نالاندا الهندية العريقة، والتي عُثر على أنقاضها القديمة في ولاية بيهار بشرق الهند، تجذب الطلاب من مناطق وبلدان بعيدة مثل الصين واليابان وإندونيسيا وكوريا وبلاد فارس وتركيا وغيرها الكثير، وكانت الجامعة تضم بين جنباتها أكثر من 10 آلاف طالب وأكثر من ألفين من أعضاء هيئة التدريس في مختلف الكليات.
والفترة التي توقفت فيها الجامعة العريقة عن الاضطلاع بدورها الريادي كانت نفس الفترة التي شهدت ظهور الجامعات الغربية الكبيرة، والتي سجلت علامة التحول الفارقة في الإنتاج المعرفي ونشر العلوم من الشرق إلى الغرب وبالعكس. ولقد تأسست في ذلك الوقت، وقبل الدمار الذي تعرضت له جامعة نالاندا الهندية، جامعات الأزهر في القاهرة عام 972، وجامعة بولونيا في إيطاليا عام 1088، وجامعة أكسفورد الإنجليزية عام 1167. ظل التعليم محتفظا بقيمته الكبيرة والمهمة داخل المجتمع الهندي، ومع مرور الأزمنة تأسست كثير من المراكز التعليمية في مختلف أرجاء مدن الهند القديمة، وصولا حتى مدينة تيكسلا الحجرية الباكستانية القديمة، والتي شهدت وجود أحد المراكز التعليمية العتيقة قبل انفصال الهند عن باكستان في عام 1947. وكانت جامعة نالاندا هي أشهر وأكبر الجامعات المعروفة في ذلك الوقت.
* الجامعة الجديدة:
تشهد جامعة نالاندا الجديدة حرما جامعيا حديثا يتخذ مكانه في مدينة راجغير القديمة، والتي تبعد بضعة أميال قليلة عن أنقاض جامعة نالاندا القديمة في ولاية بيهار الشرقية الهندية. ولقد استكملت أعمال التصميم والتخطيط الخاصة بالحرم الجامعي الجديد، وتوشك أعمال البناء على البدء قريبا. يقول السيد جورج ياو، وزير خارجية سنغافورة الأسبق والمستشار الحالي لجامعة نالاندا الجديدة: «سوف تبدأ أعمال بناء الحرم الجامعي الجديد قريبا. وتشتمل مرحلة البناء الأولى على المباني الأكاديمية والإدارية بتكلفة تبلغ 132 مليون دولار مع استكمال أعمال البناء فيها على مدى ثلاث سنوات». ولقد تولي السيد ياو منصب مستشار الجامعة الجديدة بعد اعتذار الدكتور امارتيا سين المرشح الهندي لجائزة نوبل عن المنصب.
ورغم أن المراحل الأولى من العمل في الجامعة الجديدة سوف تستغرق بضع سنوات، إلا أن جامعة نالاندا قد بدأت العمل فعليا، ولكن على نطاق صغير، في بضع مباني مستأجرة لذلك الغرض. ووفاء من الجامعة لثقافتها العتيقة كمركز تعليمي عالمي، يأتي طلاب جامعة نالاندا الجديدة من الهند، واليابان، وبوتان، وتم توظيف المعلمين من الهند، ومن الولايات المتحدة، وألمانيا، وكوريا الجنوبية. وبالإضافة إلى الدروس التي يجري العمل عليها الآن في الجامعة في مناهج مثل التاريخ، والدراسات البيئية، والعلوم البيئية، فإنه يجري حاليا وضع الخطط لتدريس مناهج مثل الاقتصاد، والدراسات التنموية، والصحة العامة، والفلسفة البوذية، والأديان المقارنة. وفي نهاية المطاف، سوف توفر جامعة نالاندا الهندية المناهج الدراسية في العلاقات الدولية، واللغويات، والآداب، إلى جانب علوم المعلومات والتكنولوجيا.
* مشروع إحياء نالاندا:
كان اقتراح إحياء دور الهند كمركز تعليمي قديم، واستعادة جامعة نالاندا الهندية لدورها كجامعة دولية حديثة من المبادرات الآسيوية الكبيرة التي أعلن عنها في عام 2006 بعدما استلهم السيد جورج ياو، وزير خارجية سنغافورة في ذلك الوقت، الفكرة من حديث الرئيس الهندي الراحل عبد الكلام، والذي وافته المنية العام الماضي. ولقد حظيت الفكرة بتأييد كل الحكومات الـ16 التي كانت حاضرة في قمة شرق آسيا في عام 2007، والتي حضرتها كل من الهند، والصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا، وسنغافورة، وتايلاند، وماليزيا، وفيتنام، ولاوس، وكمبوديا، وأستراليا، ونيوزلندا. والآن، هناك الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والبرتغال، من بين دول أخرى أيدت الفكرة العظيمة باستعادة دور الجامعة الهندية القديمة.
وأيدت الدول المذكورة «رؤية» الجامعة الجديدة التي سوف تكون بمثابة «بوابة مفتوحة لتيارات الفكر المعاصر والممارسات العملية من جميع أنحاء العالم». وتقدر تكاليف المشروع الكبير بنحو 1.5 مليار دولار، وهو التمويل الذي تعمل على توفيره مختلف الدول المعنية باستعادة دور هذه الجامعة العريقة.
* تاريخ نالاندا القديمة:
تقدم العالم تشانغ تانغ بمعلومات كاملة عن الجامعة القديمة. والراهب الصيني الذي درس في تلك الجامعة في القرن السابع الميلادي، خلف وراءه معلومات مذهلة عن الجامعة المزدهرة الثرية، واصفا مكتبتها ذات الطوابق السبعة التي تنافس عنان السماء.
وأشار إلى أن التعليم في جامعة نالاندا لم يكن ممنوحا من خلال «تلقين» المعارف عبر مختلف المحاضرات، ولكن من خلال المناقشات والمناظرات المكثفة - ما بين الطلاب والمدرسين وبين الطلاب وبعضهم بعضا - في كل المناهج والمعارف والعلوم الذي كانت تدرس آنذاك.
واستمرت رحلة الراهب بأكملها نحو 25 عاما. ولقد عاد إلى بلاده وهو يحمل نحو 400 كتاب مترجما عن البوذية. وحين رجوعه إلى الصين عكف على تأليف كتاب «تا - تانغ - سي - يو - كي»، والذي بسط فيه القول عن تجربته المذهلة في جامعة نالاندا. ولقد تمت ترجمة هذا المؤلَف إلى اللغة الإنجليزية على يد صمويل بيل العالم البريطاني الذي شغل ذات مرة منصب سفير المملكة المتحدة إلى بكين، وكان عنوان الترجمة الإنجليزية هو «سجلات تانغ العظيمة حول المناطق الغربية القديمة»، والذي أصبح أحد المصادر الرئيسية لدراسة العصور الوسطى في أواسط آسيا والهند القديمة.
وكتب الراهب تسانغ يقول إنه عندما دخل الجامعة، كانت تضم آنذاك أكثر من 10 آلاف طالب مقيم، و1510 من أعضاء هيئة التدريس، ونحو 1500 موظف. ولقد جاءوا جميعا من مختلف أرجاء الهند والأراضي الأجنبية. وكانت المناصب الاستشارية الهندية محفوظة لأبرز علماء البوذية الهنود في ذلك الوقت، وكان العالم سيلابهادرا ماها ثيرا يشغل ذلك المنصب الرفيع حينما كان الراهب الصيني يدرس في الجامعة. ولقد كان هناك طلاب من بلدان أجنبية تنتمي حاليا لبلاد مثل التبت، والصين، واليابان، وكوريا، وسومطرة، وجاوة، وتركيا، وسريلانكا يدرسون في الجامعة القديمة. وكانت اختبارات القبول في الجامعة كلها شفهية. وكانت تتم بواسطة أحد الأساتذة وتجري في قاعة الاستقبال الكبرى بالجامعة.
وكان إتقان اللغة السنسكريتية من شروط القبول في الجامعة، حيث إنها كانت لغة المحاضرات والدراسة هناك. وكان يتعين على كافة طلاب الدراسات العليا في الجامعة الذهاب أول الأمر إلى جزيرة جاوة لصقل معرفتهم باللغة السنسكريتية كما فعل الراهب الصيني تماما.
ويقول الراهب تسانغ إن 20 في المائة فقط من الطلاب الأجانب هم الذين تمكنوا من اجتياز الاختبارات القبول القاسية. ومن بين الطلاب الهنود كانت نسبة 30 في المائة فقط هم الذين تمكنوا من النجاح في اختبارات القبول؛ ومن ثم تفيد النسب المذكورة أن معايير قبول الطلاب في الجامعة كانت مرتفعة جدا.
وكان تسينغ (675 - 685) راهبا صينيا آخر من الذين سافروا إلى الهند، ودرس في جامعة نالاندا القديمة. ولقد كتب، على غرار الراهب تسانغ، تجربته عن تلك الرحلة. وفي كتاباته كان يصف جامعة نالاندا ومدة دراسته فيها. وكان يمكن للطلاب كذلك دراسة المناهج العلمانية مثل العلوم، والطب، والفلك، والفنون الجميلة، والآداب، وغيرها. وكان مرصد الجامعة يعتلي قمة أحد المباني العالية. وكانت المحاضرات، والمناقشات، والمناظرات جزءا لا يتجزأ من المناهج التعليمية. ويقول الراهب تسينغ إن ما يقرب من 100 محاضرة كانت تدرس هناك كل يوم. وشغلت جامعة نالاندا مساحة تبلغ نحو 30 فدانا. وكانت هناك ثلاث مكتبات كبرى تحمل أسماء: مكتبة راتنا - ساغارا، ومكتبة راتنا - نيدي، ومكتبة راتنا - رانجانا. وتعني لفظة راتنا «الجوهرة» في اللغة الهندية القديمة.
ولقد ساهمت سجلات أسفاره المكتوبة في زيادة المعرفة العالمية بجامعة نالاندا القديمة في الهند. كما كان مسؤولا كذلك عن ترجمة عدد كبير من النصوص والكتب البوذية من اللغة السنسكريتية إلى اللغة الصينية. وتوضح السيرة الذاتية للترجمان تشاك لوتساوا من إقليم التبت كيف تحولت جامعة نالاندا القديمة إلى خراب عند زيارته لها في عام 1235 ميلادية. وتتضمن السيرة الذاتية للرجل سجلات مذهلة، ففي إحدى المناسبات، أجبر الترجمان لوتساوا على حمل معلمه المسن على ظهره حتى يتمكنا من الفرار من الغزاة بعدما تمكن الجميع من الفرار من الدير وقتئذ. كما يصف مؤرخ التبت المعروف باسم لاما تاراناتا جامعة نالاندا في أعماله القديمة. ولقد تعرضت المؤلفات الأصلية للتدمير عندما أضرم الغزاة النار في جامعة نالاندا، عندما كان الرهبان يستعدون لتناول وجبتهم اليومية. ويتجلى هذا الأمر في البقايا الأثرية التي تظهر هجر الرهبان للطعام في عجلة من أمرهم للفرار بحياتهم. كما تخبرنا صوامع الأرز المتفحمة كذلك بالرواية القديمة المؤسفة. ولقد لقي كل المعلمين والرهبان في جامعة نالاندا القديمة مصرعهم كما تم تدمير أكثرية مباني الحرم الجامعي تماما. وتُحفظ أنقاض جامعة نالاندا والحفريات الأثرية ذات الصلة في المتحف تحت رعاية الحكومة الهندية حاليا.
* الجامعة الأولى تاريخيا:
يرجع إلى الهند الفضل في تأسيس أول جامعة في العالم في مدينة تيكسلا الحجرية القديمة (الموجودة في باكستان حاليا) وذلك في عام 700 قبل الميلاد. وكان ذلك المركز التعليمي يبعد مسافة 50 كيلومتر إلى الغرب من مدينة روالبندي الباكستانية الحديثة. وكانت مركزا مهما لدراسات الفيدية والهندوسية والبوذية. وتلقى أكثر من 10 آلاف وخمسمائة طالب علومهم ودروسهم هناك. وضم حرم الجامعة القديمة كل الطلاب القادمين من بلاد بعيدة مثل بابل، واليونان، وشبه الجزيرة العربية، والصين، كما كانت الجامعة توفر أكثر من 60 منهجا دراسيا متنوعا في مختلف المجالات مثل العلوم، والرياضيات، والطب، والسياسة، والحرب، وعلم التنجيم، والفلك، والموسيقى، والأديان، والفلسفة.
وبوجه عام، كان الطالب يلتحق بالجامعة في سن الـ16 عاما. وكان الطلاب يفدون إلى مدينة تيكسلا القديمة ويلتحقون بالجامعة هناك لتلقي العلوم في المناهج الدراسية المفضلة لديهم من خلال التواصل المباشر مع الأساتذة والمعلمين.
ومن بين خريجي جامعة نالاندا القديمة كان عالم اللغة السنسكريتية الشهير (كاوتيليا تشاناكيا)، وكذلك الفيزيائي الهندي القديم والمعروف (تشاراكا)، إلى جانب العالم (تشاندراغوبتا موريا). ومن المرجح أن تلك الجامعة كانت في وقت من الأوقات أقدم المقاعد العلمية المعروفة للتعليم العالي آنذاك. وأجرى عالم الآثار البريطاني السير جون مارشال الحفريات على مدى 20 عاما في مدينة تيكسلا. وفي عام 1980 أعلنت مدينة تيكسلا الحجرية القديمة من بين المواقع الأثرية العالمية لدى منظمة اليونيسكو إلى جانب مواقع أخرى. ولقد خضعت المدينة للاحتلال الفارسي في عام 326 قبل الميلاد ثم خضعت في وقت لاحق لحكم الإسكندر الأكبر المقدوني. ثم دمرت المدينة على أيدي الغزاة من الهون نحو القرن الخامس قبل الميلاد.
وكانت جامعة نالاندا القديمة خلال أوقات مجدها تضاهي معهد الهند للتكنولوجيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث يأتي إليها الطلاب من مختلف أنحاء العالم للحصول على درجة التخصص في أكثر من 64 منهجا مختلفا من العلوم والفنون والآداب مثل الأديان، والقواعد اللغوية، والفلسفة، والرعاية الصحية، والزراعة، والجراحة، والسياسة، والرماية، والحرب، والتنجيم، والتجارة، وعلوم المستقبل، والموسيقى، والرقص، وخلافه. كما أن هناك دراسات لموضوعات مختلفة مثل فن اكتشاف الكنوز المختفية، وفك تشفير الرسائل القديمة، وغير ذلك الكثير. وبشكل عام، يستغرق التخصص في علم من العلوم نحو 8 سنوات، على الرغم من أن تلك الفترة قد تطول أو تقصر، وفقًا للقدرات الفكرية والتفاني في الدراسة والتحصيل من جانب الطلاب.
* الجامعات الكبرى القديمة الأخرى:
- جامعة فيكراماشيلا التي تأسست خلال أواخر القرن الثامن الميلادي في ولاية بيهار والتي ازدهرت قبل 400 عام وحتى القرن الـ12 الميلادي. وكانت تلك الجامعة منافسًا قويًا لجامعة نالاندا مع أكثر من مائة مدرس وأكثر من ألف طالب مدرجين على قوائم القبول في الجامعة.
- جامعة فالابهي التي تأسست فيما يعرف بولاية جوغارات الهندية الحديثة خلال القرن السادس الميلادي واستمرت في الازدهار كمؤسسة تعليمية لمدة 600 عاما حتى القرن الـ12 الميلادي.
- جامعة بوشباغيري التي تأسست فيما يعرف بولاية أوديشا الهندية الحديثة خلال القرن الثالث الميلادي واستمرت في العمل لمدة 800 عام حتى القرن الـ11 الميلادي. ولقد زار الرحالة الصيني تسانغ هذه الجامعة في عام 639 ميلادية.
- جامعة أودانتابوري التي تأسست خلال القرن الثامن الميلادي فيما يعرف بولاية بيهار الهندية وازدهرت لمدة 400 عام حتى القرن الـ12 الميلادي. ووفقا للنصوص التبتية القديمة كانت تلك الجامعة تضم نحو 12 ألف طالب. وذكرت نفس النصوص أن تلك الجامعة كانت من بين أكبر خمس جامعات في وقتها.
- جامعة سومابورا التي تأسست في أواخر القرن الثامن الميلادي فيما يعرف بدولة بنغلاديش الحديثة وازدهرت لمدة 400 عام حتى القرن الـ12 الميلادي. وحتى يومنا هذا يمكن للباحثين العثور على الزخارف الجدارية الخارجية التي تصور تأثير هذه الجامعات على حياة الناس آنذاك.
واندثرت أكثر هذه الجامعات بحلول القرن الـ12 الميلادي بسبب هجمات الغزاة المتكررة على الهند. ووفقا للمؤرخ الهندي دي سي أهير، كان دمار هذه المراكز التعليمية المرموقة وعلى رأسها جامعة نالاندا القديمة سببا رئيسيا في زوال الفكر الهندي العلمي القديم في مجالات الرياضيات والفلك والكيمياء والتشريح.



كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات

كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات
TT

كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات

كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات

التحدث عن كلية الطب في «الجامعة الأميركية» وما حققته من إنجازات وتطورات منذ تأسيسها عام 1867 لا يمكن تلخيصه بمقال؛ فهذه الكلية التي تحتل اليوم المركز الأول في عالم الطب والأبحاث في العالم العربي والمرتبة 250 بين دول العالم بالاعتماد على QS Ranking، استطاعت أن تسبق زمنها من خلال رؤيا مستقبلية وضعها القيمون عليها، وفي مقدمتهم الدكتور محمد صايغ نائب الرئيس التنفيذي لشؤون الطب والاستراتيجية الدولية وعميد كلية الطب في الجامعة الأميركية، الذي أطلق في عام 2010 «رؤيا (2020)»، وهي بمثابة خطة طموحة أسهمت في نقل الكلية والمركز الطبي إلى المقدمة ووضعهما في المركز الأول على مستوى المنطقة.

رؤية 2025

اليوم ومع مرور 150 عاماً على تأسيسها (احتفلت به أخيراً) ما زالت كلية الطب في «الجامعة الأميركية» تسابق عصرها من خلال إنجازات قيمة تعمل على تحقيقها بين اليوم والغد خوّلتها منافسة جامعات عالمية كـ«هارفرد» و«هوبكينز» وغيرهما. وقد وضعت الجامعة رؤيا جديدة لها منذ يوليو (تموز) في عام 2017 حملت عنوان «رؤية 2025»، وهي لا تقتصر فقط على تحسين مجالات التعليم والطبابة والتمريض بل تطال أيضاً الناحية الإنسانية.
«هي خطة بدأنا في تحقيقها أخيراً بحيث نستبق العلاج قبل وقوع المريض في براثن المرض، وبذلك نستطيع أن نؤمن صحة مجتمع بأكمله». يقول الدكتور محمد صايغ. ويضيف خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «لا نريد أن ننتظر وصول وفود المرضى إلى مركزنا الطبي كي نهتم بهم، بل إننا نعنى بتوعية المريض قبل إصابته بالمرض وحمايته منه من خلال حملات توعوية تطال جميع شرائح المجتمع. كما أننا نطمح إلى إيصال هذه الخطة إلى خارج لبنان لنغطي أكبر مساحات ممكنة من مجتمعنا العربي».
تأسَّسَت كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1867، وتعمل وفقاً لميثاق صادر من ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، ويقوم على إدارتها مجلس أمناء خاص ومستقل.
وتسعى الكلية لإيجاد الفرص التي تمكن طلبتها من تنمية روح المبادرة، وتطوير قدراتهم الإبداعية واكتساب مهارات القيادة المهنية، وذلك من خلال المشاركة في الندوات العلمية والتطبيقات الكلينيكية العملية مما يُسهِم في تعليم وتدريب وتخريج أطباء اختصاصيين.
وملحَق بكلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت مركز طبي يضم أقساماً للأمراض الباطنية والجراحة والأطفال وأمراض النساء والتوليد ‏والطب النفسي. كما يقدم المركز الطبي خدمات الرعاية الصحية المتكاملة في كثير من مجالات الاختصاص، وبرامج للتدريب على التمريض وغيرها ‏من المهن المرتبطة بالطب.

اعتمادات دولية

منذ عام 1902، دأب المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت على توفير أعلى معايير الرعاية للمرضى في مختلف أنحاء لبنان والمنطقة. وهو أيضاً المركز الطبي التعليمي التابع لكلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت التي درّبت أجيالاً من طلاب الطب وخريجيها المنتشرين في المؤسسات الرائدة في كل أنحاء العالم. المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت هو المؤسسة الطبية الوحيدة في الشرق الأوسط التي حازت على خمس شهادات اعتماد دولية وهي JCI)، وMagnet، وCAP، وACGME - I و(JACIE مما يشكّل دليلاً على اعتماد المركز أعلى معايير الرعاية الصحية المتمحورة حول المريض والتمريض وعلم الأمراض والخدمات المخبرية والتعليم الطبي والدراسات العليا. وقد خرَّجَت كلية الطب أكثر من أربعة آلاف طالب وطبيب. وتقدم مدرسة رفيق الحريري للتمريض تعليماً متميزاً للعاملين في مجال التمريض، ويلبي المركز الطبي احتياجات الرعاية الصحية لأكثر من 360 ألف مريض سنوياً.
ويتألف المركز من عدد من مراكز الامتياز كمركز سرطان الأطفال التابع لمستشفى «سانت جود» البحثي في ولايتي ممفيس وتينيسي. كما تتضمن برنامج باسيل لأورام البالغين وفيه وحدة لزرع نخاع العظام، إضافة إلى مراكز طب الأعصاب المختلفة وأمراض القلب والأوعية الدموية ومركز للرعاية الصحية للنساء.
«هناك استثمارات تلامس نحو 400 مليون دولار رصدت من أجل بناء البنية التحتية اللازمة للمركز الطبي مع مشروع افتتاح عدة مبانٍ وأقسام جديدة خاصة بأمراض السرطان وأخرى تتعلق بالأطفال، إضافة إلى نقلة نوعية من خلال زيادة عدد الأسرة لتلبية الحاجات الصحية المختلفة لمرضانا»، كما أوضح د. صايغ في سياق حديثه.

تبرعات للمحتاجين

يعمل المركز الطبي على تأمين العلاج المجاني لأمراض مستعصية من خلال تأسيس صناديق تبرُّع للمحتاجين، هدفها تأمين العلاج لذوي الدخل المحدود. وهي تخصص سنوياً مبلغ 10 ملايين دولار لمساعدة هذه الشريحة من الناس التي تفتقر إلى الإمكانيات المادية اللازمة للعلاج.
وينظم المركز الطبي مؤتمراً سنوياً ودورات وورش عمل (MEMA) تتناول مواضيع مختلفة كطب الصراعات ومواضيع أخرى كصحة المرأة، والصحة العقلية، وعبء السرطان وغسل الكلى أثناء الصراع وتدريب وتثقيف المهنيين الصحيين للتعامل مع تحديات العناية بأفراد المجتمع.
تُعدّ كلية الطب في الجامعة الأميركية السباقة إلى تأمين برنامج تعليمي أكاديمي مباشر لطلابها، بحيث يطبقون ما يدرسونه مباشرة على الأرض في أروقة المركز الطبي التابع لها.
ويرى الدكتور محمد صايغ أن عودة نحو 180 طبيباً لبنانياً عالمياً من خريجيها إلى أحضانها بعد مسيرة غنية لهم في جامعات ومراكز علاج ومستشفيات عالمية هو إنجاز بحد ذاته. «ليس هناك من مؤسسة في لبنان استطاعت أن تقوم بهذا الإنجاز من قبل بحيث أعدنا هذا العدد من الأطباء إلى حرم الكلية وأنا من بينهم، إذ عملت نحو 25 عاماً في جامعة (هارفرد)، ولم أتردد في العودة إلى وطني للمشاركة في نهضته في عالم الطب». يوضح دكتور محمد صايغ لـ«الشرق الأوسط».

رائدة في المنطقة

أبهرت كلية الطب في الجامعة الأميركية العالم بإنجازاتها على الصعيدين التعليمي والعلاجي، ففي عام 1925. تخرجت فيها أول امرأة في علم الصيدلة (سارة ليفي) في العالم العربي، وبعد سنوات قليلة (1931) كان موعدها مع تخريج أول امرأة في عالم الطب (ادما أبو شديد). وبين عامي 1975 و1991 لعبت دوراً أساسياً في معالجة ضحايا الحرب اللبنانية فعالج قسم الطوارئ لديها في ظرف عام واحد (1976 - 1977) أكثر من 8000 جريح. وفي عام 2014 تلقت إحدى أضخم التبرعات المالية (32 مليون دولار) لدعم المركز الطبي فيها وتوسيعه.
كما لمع اسمها في إنجازات طبية كثيرة، لا سيما في أمراض القلب، فكان أحد أطبائها (دكتور إبراهيم داغر) أول من قام بعملية القلب المفتوح في العالم العربي، في عام 1958. وفي عام 2009، أجرت أولى عمليات زرع قلب اصطناعي في لبنان، وفي عام 2017 أحرز فريقها الطبي أول إنجاز من نوعه عربياً في أمراض القلب للأطفال، عندما نجح في زرع قلب طبيعي لطفل.
كما تصدرت المركز الأول عربياً في عالم الطب لثلاث سنوات متتالية (2014 - 2017) وحازت على جوائز كثيرة بينها «الجائزة الدولية في طب الطوارئ» و«جائزة عبد الحميد شومان» عن الأبحاث العربية، و«جائزة حمدان لأفضل كلية طبية في العالم العربي» لدورها في التعليم الطبي لعامي 2001 – 2002.