طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (2 من 7) قيادات طرابلس تخشى انتفاضة العاصمة.. ومصراتة تشكو من العزلة

جمع مليارات الدولارات من الأسواق وانخفاض العملة الليبية وتراجع أسعار العقارات

آثار صراع الميليشيات في العاصمة الليبية ما زالت بادية على مطار طرابلس الدولي (أ.ف.ب)
آثار صراع الميليشيات في العاصمة الليبية ما زالت بادية على مطار طرابلس الدولي (أ.ف.ب)
TT

طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (2 من 7) قيادات طرابلس تخشى انتفاضة العاصمة.. ومصراتة تشكو من العزلة

آثار صراع الميليشيات في العاصمة الليبية ما زالت بادية على مطار طرابلس الدولي (أ.ف.ب)
آثار صراع الميليشيات في العاصمة الليبية ما زالت بادية على مطار طرابلس الدولي (أ.ف.ب)

بعد الانتصارات التي حققها الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، ضد أوكار المتطرفين في بنغازي، وإعلانه عن قرب توجهه لتحرير إجدابيا وسرت من المجموعات المسلحة، بما فيها تنظيم داعش، رصد العقيد مصطفى نوح، رئيس جهاز المخابرات المدعوم من المحكومة غير المعترف بها دوليا في طرابلس، هروب عائلات لقادة سياسيين وعسكريين من العاصمة الليبية، ومن مدينة مصراتة الثرية المجاورة، إلى خارج البلاد.
كما تقدم نوح بمذكرة للمسؤولين في الحكومة والبرلمان المنتهية ولايته في طرابلس، اطلعت عليها «الشرق الأوسط» تكشف عن عمليات محمومة لجمع العملات الأجنبية من الأسواق، بلغت مليارات الدولارات، ما أدى إلى انخفاض قيمة العملة المحلية وتراجع أسعار العقارات. وبعد ذلك بيومين أعلن قادة الجيش الذي يقوده حفتر أن الخطوة التالية ستكون محاربة باقي المتطرفين وصولا إلى طرابلس، دون تفرقة بين الدواعش والميليشيات التابعة لجماعة الإخوان والأخرى التابعة للجماعة الليبية المقاتلة.
كان العقيد نوح، من بين من ظهروا في اجتماعات فندق ريكسوس المستمرة منذ عدة أيام. أحد الحلول المطروحة للتغلب على حفتر والقبائل المحسوبة على القذافي، تشكيل تحالف سريع من ميليشيات الإخوان والجماعة المقاتلة وعناصر «داعش»، من أجل تكبيد الجيش خسائر وإعادة الطمأنينة إلى قيادات العاصمة، ومنع جمع العملات الصعبة من أسواق طرابلس ومصراتة.
«هذه خطوة محفوفة بالمخاطر».. هكذا قال أحد المجتمعين، ويلقب بـ«الشيخ حمزة»، وهو من قوة «الدرع الخاص امعيتيقة». وأبدى مخاوفه من أن هذه الطريقة قد تؤدي إلى تغلب «داعش»، على الجميع، عمليا فيما بعد. أي أن التنظيم، بما لديه من أموال ضخمة وإمكانات، يمكن أن يستقطب باقي العناصر، وينقلب على ميليشيات طرابلس.
هنا تصدى له قيادي يدعى الشيخ. قال له في لهجة حاسمة وتنم عن القوة: هذه الأمور ليست من اختصاصكم، وليست معروضة هنا للرأي، بل للعلم فقط. ويشغل الشيخ عضوية المؤتمر الوطني (المنتهية ولايته)، وهو أيضا قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة (الموالية لتنظيم القاعدة).
العقيد نوح شارك في خمسة اجتماعات على الأقل، مع أمراء الحرب في طرابلس، خلال الأسبوعين الأخيرين، أي منذ دحر قوات الجيش الوطني لمواقع المتطرفين في بنغازي. كما حضر لقاءات خاصة عقدها في أروقة ريكسوس مع قيادات السلطة في العاصمة، من المؤتمر الوطني، الذي يرأسه نوري أبو سهمين، وحكومة الإنقاذ التي يرأسها خليفة الغويل.
كان نوح يتولى موقع نائب رئيس جهاز المخابرات، أيام حكومة الدكتور علي زيدان.. معلوم أن السلطة الشرعية في ليبيا والمعترف بها دوليا، هي الحكومة التي تدير أعمالها من مدينة البيضاء في شرق البلاد، برئاسة عبد الله الثني. هي حكومة ضعيفة، لكنها معتمدة من البرلمان الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق المجاورة.
ويعد الجيش بقيادة حفتر القوة الحقيقية في المنطقة الشرقية. هو يكافح رغم إمكانات التسليح المتواضعة، لكسر شوكة المتطرفين، وهزيمتهم، وبسط نفوذ السلطات الشرعية في عموم البلاد. بينما يعتمد مؤتمر أبو سهمين وحكومة الغويل، في طرابلس على الميليشيات، وعلى الأجهزة الإدارية والأمنية والمالية في العاصمة.
على كل حال.. وفي اليوم الثالث من انتصارات الجيش في بنغازي، كانت حركة الميليشيات في طرابلس تعكس حالة الذعر.. ازدياد عدد نقاط الحراسة. حواجز يقف عليها ملثمون متحفزون. إجراءات تفتيش صارمة. أما تحركات الأهالي في المدينة فقد تراجعت. بعد أذان العصر بقليل بدأت السيارات المصفحة لأمراء الحرب وقادة الدولة (فرع طرابلس) في التوافد، من جديد، على ريكسوس.
قدم العقيد نوح ورقة تضمنت تقييمه كرئيس للمخابرات للأمور في المنطقة الشرقية، وتداعيات تقدم الجيش في بنغازي. الخلاصة التي انتهى إليها على الطاولة أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ.
وبينما يقول أحد مساعدي نوح، لـ«الشرق الأوسط»، إن الرجل يبدو محل احترام من جانب ضباط غربيين من العاملين في الشركات الأمنية التي تراقب الموقف من فيلات على شواطئ طرابلس، يعلق ضابط مخابرات أميركي سابق في إحدى فيلات منتجع «كورنثيا»، قائلا إن طريقة عمل العقيد نوح نزيهة.. «المقصود أنه يمكن الاعتماد على ما لديه من معلومات».
الضابط الأميركي كان يتحدث هنا عن برقية وجهها العقيد نوح إلى أبو سهمين، ليلة انتصار الجيش في بنغازي وقال له فيها إنه، ومن خلال متابعة الأحداث الجارية في المنطقة الشرقية، يمكن القول إن «الظروف تسير إلى الأسوأ بشكل سريع». وتحدث عن «انهيار منظومة مجلس شورى بنغازي». يضم هذا المجلس مقاتلين محليين وأجانب من أنصار الشريعة والإخوان و«داعش».
تضمنت البرقية، التي أمكن الاطلاع على نصها باللغة الإنجليزية، قول العقيد نوح كذلك، إن الخسائر التي لحقت بمجلس الشورى في بنغازي، وما تحققه قوات حفتر من تقدم، بوتيرة متسارعة ومفاجئة، ألقى بظلاله على الوضع الأمني داخل طرابلس، وعلى قادة الميليشيات وعلى عائلاتهم.. «إنهم يشترون الدولارات من محال الذهب ويتوجهون إلى المطارات.. بعضهم يسافر إلى تركيا والبعض إلى مصر والبعض الآخر إلى تونس».
يتحدث تقرير المخابرات أيضا عن ظهور خلايا في العاصمة تناصر حفتر، ووجود حالة من التعبئة داخل الشارع بمدينة طرابلس، مشيرا إلى أن أهالي العاصمة يخططون للخروج ضد المؤتمر الوطني وضد حكومة الغويل، ويقول إنه إذا انطلقت شرارة الغضب من جانب سكان طرابلس، فإن الموازين كلها ستنقلب رأسا على عقب.
ووفقا لما جرى ذكره في اجتماعات ريكسوس فإنه، وأمام هذه التطورات، يتطلب الأمر عدة إجراءات فعالة تحد من حالة السقوط الذي يخيم على العاصمة، أولها منع عملية تهريب النقد الأجنبي، الذي بلغ ذروته عبر سوق الذهب وتجار العملة في طرابلس، ومن يتعاون معهم من ذوي النفوذ في المدينة، والمقصود بهم بعض أمراء الحرب.
قدم جهاز المخابرات كشفا يضم من قال: إنهم متورطون في نشاط تحويل الأموال للخارج، بالقيمة النقدية للعملة التي تم تحويلها خارج ليبيا. الكشف تضمن القول إن قيمة ما جرى تحويله من أموال للخارج، بلغ في يومين فقط (يومي 20 و21 الشهر الماضي) نحو 500 مليون دولار، مشيرا إلى أن المبلغ يفوق هذا الرقم بكثير لأن عملية جمع العملات الصعبة جارية على مدار الساعة، ومنذ عدة أيام، وحتى تاريخه (أي مطلع هذا الأسبوع).
جهاز المخابرات اعترف بأن هذه الإحصائية مستمدة مما جرى تتبعه بطريقة عشوائية، معربا عن اعتقاده في أن المبلغ الحقيقي الذي جرى تحويله خارج البلاد خلال اليومين المشار إليهما فقط، يبلغ مليارات الدولارات، ناهيك عما جرى تحويله في الأيام السابقة والتالية، وأن «هذا الأمر لا بد أن يتوقف الآن، إذا كنا جادين ونريد أن نحافظ على طرابلس.. من يرسل عائلته إلى الخارج لن يكون لديه مبرر لمواجهة أعداء الثورة (يقصد قوات الجيش الوطني وقوات القبائل)، وسيلحق بعائلته بمجرد انفجار الأوضاع في طرابلس».
لاحظت تقارير جهاز المخابرات أن الكثير من عائلات القيادات السياسية والعسكرية، بدأت في مغادرة البلاد بالفعل، مما زاد من حدة الغضب. وفي هذه المرحلة تدخل أحد قادة جهاز المخابرات للحديث مباشرة مع كل من أبو سهمين والغويل. وطلب من رئيس المؤتمر الوطني، إصدار أمر بمنع قادة طرابلس من إرسال عائلاتهم إلى الدول الأخرى، مشيرا إلى أن عائلات لشخصيات سياسية وعسكرية وأمنية توجهت إلى تركيا ومصر وتونس، وأن هذا أمر محبط ولا يمكن السماح باستمراره ولا يمكن السكوت عليه.
كما اقترح العقيد نوح على رئيس المؤتمر، دعوة الدبلوماسيين العرب والأجانب في طرابلس لمؤتمر صحافي، قال: إنه لتوضيح «جرائم حفتر ضد أهالي بنغازي»، و«مطالبة المجتمع الدولي للتدخل لحماية المدنيين، وفقا للقرار رقم 1973 الساري المفعول».
يقصد بذلك القرار الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي ضد قوات القذافي عام 2011 ويقضي بفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، واتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين. كما دعا العقيد نوح أيضا إلى «تفعيل دوريات التأمين في طرابلس بالشكل الذي يضمن سيطرة سريعة بشكل فعال وجاد».
يبدو أن كل الإجراءات التي كان يريدها العقيد نوح لم يتحقق منها أي شيء.. ففي اليوم التالي بدأت ترد تقارير من مدينة مصراتة المجاورة لطرابلس عن تزايد الأعداد في أوساط عائلات السياسيين وقادة الميليشيات أيضا ممن يسافرون عبر مطار المدينة، بحجة السياحة والعلاج، ولا تعود. واقترن هذا مع عمليات بيع محمومة للبيوت، إلى درجة انخفاض أسعار العقارات في مصراتة، بعد أن انخفضت بالفعل في طرابلس.
العقار الذي كان سعره يبلغ 100 ألف دولار، انخفض إلى ما بين 60 و70 ألف دولار. المحل التجاري الذي كان سعره لا يقل عن 300 ألف دولار في شارع عمر المختار وسط السوق التجارية في العاصمة، تراجع ثمنه بنسبة تتراوح حول 30 في المائة. حتى دكاكين سوق طرابلس الشعبية بدأت تشكو من الركود.
وفي مصراتة اشتكى قادة من المدينة، ومن بينهم نائب شهير محسوب على جماعة الإخوان، من فرار عائلات بأكملها من المدينة بمجرد تحقيق حفتر للانتصار في بنغازي. لكن لوحظ أن النائب كان يشكو أيضا من تزايد قوة «داعش» في سرت التي تبعد عن مصراتة بنحو 200 كيلومتر، وتقترب منها وتقوم بالتهديد بغزوها عبر الإذاعة المحلية.
بيع العقارات في مصراتة، خاصة الفيلات والشقق الفاخرة، ضرب السوق، وأصبحت حالة من الخوف من المستقبل تسيطر على المدينة التي كان لها مقاتلون يشاركون في عمليات عسكرية تابعة لميليشيات فجر ليبيا، ضد عدد من المدن الليبية. الكثير من عناصر هذه الميليشيات رجعوا إلى المدينة، واليوم يبحثون عن مخرج سياسي قبل فوات الأوان. وتؤيد معظم الأجنحة في مصراتة حكومة التوافق الوطني، وهي ترى في موقف ميليشيات طرابلس أنه «تعنت لن يؤدي إلى أي حلول».
في اجتماع آخر عقد في الليل، استمر حتى الساعات الأولى من الصباح، جرى طرح الأمر برمته على بعض المشاركين في اجتماعات ريكسوس. من المعروف أن العلاقة بين كثير من زعماء طرابلس وعدد من زعماء مصراتة لم تعد على ما يرام لعدة أسباب من بينها الموقف من دعم حكومة فايز السراج، والمخاوف من اقتراب «داعش» من مصراتة نفسها.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن قوات «فجر ليبيا» التي خاضت معركة مطار طرابلس الشهيرة في صيف عام 2014. تآكلت إلى حد كبير، منذ خروج غالبية كتائب مصراتة منها. وحل محل هذه القوة في طرابلس، في الوقت الراهن، ما أصبح يعرف باسم «لواء الصمود».
رئيس لواء الصمود يحمل رتبة عقيد يشغل أيضا رئاسة أركان الجيش في حكومة الغويل، وموقع منسق الغرفة الأمنية العليا وغرفة تأمين طرابلس. ويريد، وفقا لما ظهر في عدة اجتماعات في ريكسوس، أن يمسك العصا من المنتصف. وهو يرى، مثل كثير من قادة الميليشيات والكتائب، أنهم يدافعون عن الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي، وأن مصراتة عليها أن تستمر في مساندتهم والدخول بقوة تحت راية لواء الصمود.
وفي المقابل كان عدد ممن شاركوا في الاجتماعات، يضعون الخطط لجلب مقاتلين أجانب من مالي وتشاد، للوقوف ضد حفتر والقبائل المحسوبة على القذافي، حيث أبدى رجال مصراتة وبعض قادة طرابلس مخاوف من تغير التحالفات.
يخشى قادة مصراتة من أن تؤدي تصرفات زعماء طرابلس إلى خلو مدينتهم الثرية، ذات الطابع الصناعي والتجاري، ممن يمكن أن يدافعوا عنها في حال قام تنظيم داعش باستهدافها. في الحقيقة لوح «داعش» بذلك حين قصف تخوم المدينة قبل أسبوع، وعلى هذا بدأت عملية النزوح عن المدينة تتزايد.
يقول الدكتور محمد الزبيدي، المستشار السابق لمؤتمر القبائل الليبية: «تصرفات قادة طرابلس، أيا كانت وجهتها، تجعل تنظيم داعش يحقق مكاسب. المشكلة أن البعض يعتقد أنه يستخدم التنظيم لصالحه، بينما التنظيم يبدو أنه يتلاعب بالجميع، بمساعدة أطراف خارجية».
في ريكسوس تبدو الخيارات المطروحة ضعيفة، وقادرة على إحداث خلافات. يجري هذا بينما يجمع تنظيم داعش بقيادة المدهوني، المقاتلين والأسلحة في معسكرات خاصة في طرابلس، دون أن يثير البلبلة أو يستعدي باقي الميليشيات ضده.
تنشط مجموعات تابعة لـ«داعش» في مناطق تقع خارج العاصمة. يبدو أن الغرض هو نشر الخوف والرعب. بعد أن استولت مجموعات من الدواعش على أجهزة البث الإذاعي في سرت، شنت حملة تهديد وخطب تقول فيها إنها تعتزم غزو المدينة الواقعة على البحر.
«أين الطائرات الأميركية من هذا». هكذا تحدث أحد نواب مصراتة في الاجتماع. كان غاضبا بالفعل. لقد قصف تنظيم داعش المباني الواقعة على مشارف مصراتة، بينما الطائرات الأميركية وجهت ضرباتها لمنزل في صبراتة، في إشارة إلى الغارة التي استهدفت مقرا للدواعش في تلك البلدة الواقعة إلى الغرب من العاصمة.
يمكنك أن تتأمل عدة وقائع رئيسية تجري هذه الأيام في طرابلس وتثير الغضب والإحباط وعدم القدرة على الفهم. لكن النتيجة الوحيدة حتى الآن، كما يقول أحد القادة العسكريين في مصراتة، تتركز حول مسألتين. الأولى تقدم الجيش بقيادة حفتر، والثانية تزايد قوة «داعش» بشكل مثير للريبة «كما يظهر من نشاط المدهوني في العاصمة تحت سمع وبصر الفرق الأمنية الغربية».
غدًا في الحلقة الثالثة
* أمراء حرب بالعاصمة زاروا زعيم التنظيم الدموي «للاطمئنان على سلامة مقاتليه» وحصلوا على وعود بمهاجمة الجيش في بنغازي
* «داعش ليبيا» يسحب مقاتليه من صبراتة قبل ساعات من الغارة الأميركية ويستعرض قدراته أمام ميليشيات طرابلس



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».