طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (1 من 7): شركات أمن غربية تحط رحالها بطرابلس.. وأمراء الحرب يتحسبون للأسوأ

ـ«الشرق الأوسط» ترصد الأوضاع داخل المدينة: منتجعات على الشواطئ باتت مرتعًا لضباط الاستخبارات

اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)
اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)
TT

طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (1 من 7): شركات أمن غربية تحط رحالها بطرابلس.. وأمراء الحرب يتحسبون للأسوأ

اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)
اثنان من تنظيم داعش يتمركزان قرب ضاحية الصابري في بنغازي في محاولة لمنع الجيش الوطني من التقدم باتجاه مواقع المتطرفين في المدينة («الشرق الأوسط»)

بينما تتقدم قوات الجيش الوطني الليبي في بنغازي، وفي بعض جبهات الشرق والجنوب، منذ عدة أيام، بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، تتزايد حالة الارتباك والغضب في العاصمة الليبية طرابلس بين قيادات سياسية وعسكرية لميليشيات تسيطر على العاصمة ومدن مجاورة لها. تحارب هذه الميليشيات الجيش وسلطة البرلمان الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق في شرق البلاد، وتخشى، فوق هذا، من تدخل دولي وشيك. أما من ناحية شاطئ بحر طرابلس، فيأتي صوت الموسيقى الخفيفة مع رائحة طبخ الطعام من مقار الفرق الأمنية الأجنبية التي وصلت أخيرا إلى هنا. وفي جولة قامت بها «الشرق الأوسط» في العاصمة الليبية، تبيَّن مدى الفوضى التي تعيشها المدينة التي باتت مرتعا للميليشيات، وترسانات الأسلحة، ورجالات استخبارات من دول غربية، من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، أرسلت ضباطا متقاعدين ورجال مخابرات سابقين، لجمع معلومات عن مجريات الأحداث. هؤلاء يتبعون شركات أمنية خاصة. هم أكثر الناس هدوءا في العاصمة ومدن أخرى حطوا فيها، فيما يعده البعض مقدمة لشن عمليات واسعة في هذا البلد شاسع المساحة، ضد المتطرفين خصوصا تنظيم داعش. أما قيادات الميليشيات في طرابلس، فيبدو عليها الارتباك والعصبية. وجمعت «الشرق الأوسط» من خلال تحقيقات كثيرة، عددا من الوثائق وسجلت مشاهدات، وشهادات، توثق، الحالة المرتبكة جدا في العاصمة الليبية، التي يحتلها أمراء الحرب الذين أصابهم اليأس من تحقيق أي انتصارات، في وقت باتوا يتخوفون فيه من تدخل دولي. هذه الحالة انعكست على عائلات قيادية وعسكرية وأمنية بدأت في الرحيل عن العاصمة ومدينة مصراتة المجاورة إلى خارج البلاد، مع عملية محمومة لجمع العملات الصعبة وصلت إلى نصف مليار دولار خلال 48 ساعة، بحسب تقارير استخباراتية تابعة لحكومة طرابلس.
حينما وصل خبر دخول قوات الجيش الوطني إلى بنغازي التي تبعد عن طرابلس نحو ألف كيلومتر، حدث لقاء عاجل في الليل، في رواق داخل فندق ريكسوس في طرابلس، حذَّر فيه العقيد مصطفى نوح، رئيس جهاز المخابرات العامة، التابع للسلطة التي تديرها الميليشيات في العاصمة، من خطورة تقدم قوات حفتر. أبلغ العقيد مصطفى، وهو من المنتمين لجماعة الإخوان، السيد نوري أبو سهمين، رئيس المؤتمر الوطني المنتهية ولايته (أي البرلمان السابق المستمر في عقد جلساته في طرابلس) بأن «الظروف تسير إلى الأسوأ». في اليوم التالي انعقد اجتماع في الرواق نفسه، وجرى وضع خطة. لكن نشبت معارك جانبية بين قادة العاصمة أيضا.
«الخطر ليس من قوات حفتر فقط.. حتى القبائل الموالية للقذافي بدأت تنتفض ضدنا.. ماذا نفعل يا فضيلة الشيخ؟». بهذه الطريقة سأل أبو سهمين، الأسبوع الماضي، الشيخ الصادق الغرياني، مفتي ليبيا الذي يوالي سلطات طرابلس.
أعد مراقبون غربيون تقارير عما يجري. وتمكنت «الشرق الأوسط» من الاطلاع على جانب منها. يسود اعتقاد بين قادة الميليشيات بأن القبائل المحسوبة على القذافي بدأت تأخذ زمام المبادرة وتستغل انتصارات حفتر للانقضاض على الخصوم، أو هذا ما ورد في بعض تحليلات جرى إرسالها إلى عواصم ما وراء البحار.
الغرياني الذي أصبح قطاعٌ كبيرٌ من الليبيين يرفض فتاواه ويتجاهل تعليماته، أفتى لرئيس المؤتمر المنتهية ولايته، في جلسة خاصة بأن «أنصار القذافي يعاملون معاملة المشركين»، وقال إن «قتالهم واجب شرعي». وبعد ذلك بعد أيام أصدر فتوى تدعو للجهاد ضد قوات الجيش. في الجلسة نفسها، اقترح الغرياني عدة مقترحات لم تظهر للعلن، ومنها سحب الجنسية الليبية من المحسوبين على القذاف. مثل هذه المتغيرات محل مراقبة أيضا من الأجانب الذين استقروا في منتجعات كان يسكنها فيما مضى خبراء شركات النفط الدولية في عهد القذافي.
ويقول أحد المصادر من قيادات طرابلس: إصدار بيان رسمي، بعد ذلك بعدة أيام، عن الدعوة إلى الجهاد، من جانب المفتي، ضد حفتر في بنغازي، كان أمرا متوقعا، وإن كانت لهجة البيان أقل حدة مقارنة بما دار في الجلسة الغرياني وأبو سهمين. ضابط مخابرات أميركي متقاعد، يعمل ضمن فرقة أمنية لها مقر يقع خلف منتجع «سيدي عبد الجليل» السياحي على البحر في ضاحية جنزور في العاصمة التي يسودها الارتباك.. يرى أنه أصبح من الصعب فهم ما يريده قادة الميليشيات. يقول وهو يعد المكرونة بالطريقة الليبية ويقلب معجون الطماطم في القدر المنصوب فوق النار: يغيِّرون الولاء لبعضهم بعضا ليلة بعد ليلة. اليوم أصدقاء، لكن يمكن أن يقتتلوا غدا. حتى طريقة تعامل قادة الميليشيات مع المفتي «طريقة ليست طيبة.. يعملون على إجباره على قول ما يريدون».
نوافذ المطبخ أصبحت، مثلها مثل باقي نوافذ فيلات المنتجع، ذات زجاج معتم ومضاد للرصاص. الدخول إلى المقار الأمنية للفرق الأجنبية، ليس بالأمر الهين. توجد في الشوارع البعيدة التي يمكن أن تؤدي إلى هنا حواجز من الخرسانة المسلحة.
أما الطرق الفرعية الأخرى فقد جرى إغلاقها بالكامل. في الشارع الذي يؤدي إلى داخل المنتجع هناك نقطتان للحراسة.. الأولى وهي الأقرب إلى بوابة المنتجع يحرسها أجانب، أما الثانية فتحرسها ميليشيات بأجر تتقاضاه من الشركة الأمنية في الداخل. بالنسبة للحركة في شوارع المدينة فتتم بسيارات مصفحة. ويوجد مقر آخر للفرق الأمنية في منطقة كورنثيا السياحية أيضا. يقول الضابط الأميركي بشأن علاقة قبائل القذافي بحفتر، إنها ما زالت أمرا مستغلقا على الفهم بالنسبة لكثيرين حتى في الولايات المتحدة.. «لا صدام بينهما حتى الآن، بل يوجد شبه تكامل في عدة جبهات بين ضباط معروف أنهم لا يُقرّون بثورة 17 فبراير التي قضت على النظام السابق، وضباط من الموالين للثورة».
ويضيف أن «الواقع هو أن جيش حفتر يقاتل تحت راية ثورة فبراير، أما جيش القبائل المشار إليها فيرفض الاعتراف بعلم الثورة ذي الألوان الثلاثة.. لكن أعتقد أن من يريد أن يقلق على ليبيا عليه أن ينظر إلى تنامي قوة (داعش)».
على الجانب الآخر يقدم الدكتور محمد الزبيدي، الذي شغل موقع رئيس اللجنة القانونية لمؤتمر القبائل الليبية لعدة أشهر، تفسيرا لهجوم ميليشيات طرابلس والمفتي الليبي على القبائل المحسوبة على القذافي.
يعد الزبيدي من الشخصيات الرافضة لسلطة الميليشيات، وينتمي لقبيلة ورفلة التي ينظر إليها البعض على أنها من القبائل التي ترى أن ثورة فبراير «مؤامرة على الدولة الليبية». يقول لـ«الشرق الأوسط» إن قادة ميليشيات العاصمة يترنحون، ويشعرون بدنو الهزيمة، خصوصا بعد الانتصارات التي حققها الجيش في بنغازي.
أيا ما كان الأمر، فإن الأجواء تعكس حالة من التوتر وانعدام الثقة. بدأ عدد من قادة ميليشيات طرابلس ومدينة مصراتة المتمردة على السلطات الشرعية، في البحث عن مسارات جديدة يمكن أن تؤمن لهم المستقبل.
في مكتبه المحمي بعناصر من الميليشيات، وضع العقيد نوح تقريرا بهذه المعلومات. جرى توزيع التقرير الاستخباراتي قبل أيام، على نطاق ضيق، أي على مستوى مسؤولي المؤتمر الوطني، ومسؤولي ما يسمى بحكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر، وهي برئاسة السيد خليفة الغويل. كما وصلت نسخ من مثل هذه التقارير إلى مقار أمنية على ساحل طرابلس.
من وراء الستار تدور معركة أخرى بين جماعات نفوذ عابرة للحدود تعمل انطلاقا من العاصمة ويصل نشاطها إلى مدن أخرى. كل يوم أو يومين تصل الأنباء عن قصف بالطيران لمواقع تابعة للمتطرفين في صبراتة وسرت ودرنة. مرة طيران أميركي ومرة طيران ليبي ومرة طيران يطلق عليه هنا «مجهول الهوية».
كلما ازدادت حدة المعارك، حملت الريح أصداء مداولات وتعليمات وجدل يمتد من طرابلس، ويتخطى البحار. تقارير عبر البريد الإلكتروني وعبر الهواتف المربوطة بالأقمار الاصطناعية، تعكس كلها حالة التنافس المحمومة للسيطرة على هذا البلد. برقيات تتضمن خططا واستغاثات ومؤامرات.
تقول برقية أرسلها من طرابلس أحد قادة جماعة الإخوان من الليبيين الذين يحملون الجنسية الأميركية، إلى وزارة الخارجية في واشنطن: دول الجوار لديها أطماع في ليبيا. فلنتعاون من خلال مجلس ليبي أميركي لتحقيق المصالح المشتركة والتصدي لمن يريدون نهب ثروات الليبيين. واقترح الرجل، وهو قيادي في حزب البناء والتنمية التابع للإخوان في ليبيا، على الأميركيين، البناء على مجلس أهلي «ليبي أميركي» قائم بالفعل. جرى تأسيس هذا المجلس على يد مجموعة من جماعة الإخوان الليبية في واشنطن في بداية تسعينات القرن الماضي. يشغل مسؤولون في حكومة الميليشيات وفي المؤتمر الوطني في طرابلس، عضوية المجلس نفسه.
برقيات أخرى مرسلة من رجل يدعى «الشيخ ياسين» من مكتب الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي، في العراق، وقد أصيب بالغضب من انتصارات الجيش الوطني الليبي في بنغازي. البرقية وصلت إلى القائد الفعلي لتنظيم داعش ويدعى محمد المدهوني، ويتخذ من منتجع على بحر طرابلس، مقرا له يطلق عليه «دار الحسبة»، ضمن مقرات أخرى في العاصمة. قال له الشيخ ياسين: «حفتر يتقدم وأنتم تأكلون وتنامون ما هذا؟».
أما في اجتماع فندق ريكسوس فقد اشترك في الحديث أمام العقيد نوح، قيادات محسوبة على الإخوان وأخرى على الجماعة الليبية المقاتلة، وثالثة من الموالين لـ«داعش». استمع العقيد نوح للشروح التي قدمتها هذه القيادات للتصدي للجيش الوطني، وللوقوف ضد خطر القبائل الليبية.
مع هذا تبدو الصورة العامة أكبر من خطط الميليشيات المتربصة ببضعها. يوجد وكلاء ينتظرون من وراء البحار. البعض يحاول تقليل الخسائر للوصول إلى منابع النفط والغاز، والبعض يسعى لقلب الطاولة.
في ليل العاصمة تتحرك سيارات الميليشيات المسلحة، وكأنها تنطلق بوقود من الغضب. إطاراتها تطلق صرخات على الإسفلت.. في بعض الأحيان تسمع أصوات لطلقات الرصاص. ومن السماء المظلمة يتناهى هدير أصم لطائرات تمشط الأجواء على مدار الساعة. الاجتماع التالي الذي انعقد في ريكسوس أيضا، في وجود رئيس المخابرات، قال فيه أحد قادة الميليشيات للعقيد نوح: «بالتأكيد لديك علم بأن الطائرات الروسية دخلت في القصة هي الأخرى. تراقبنا، وتتنصت علينا». ينظر قادة طرابلس بعين الريبة لعدد من زعماء منطقة الزنتان القريبة من العاصمة، باعتبار أنهم أكثر ميلا للتعامل مع الروس، بينما تشير التحركات على مساحات الأراضي الملحية السبخة، إلى أن الفرق الأمنية وصلت حتى منطقة بدر الواقعة في الأحراش الغربية من طرابلس.. «هذا يعني أنها تتخوف من وجود روسي في المنطقة».
هكذا يشير أحد الضباط الذين يعملون مع العقيد نوح، ويضيف لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «توجد خشية من الروس.. نعم. لهذا تجد ترحيبا من جانب قادة في ميليشيات العاصمة بالفرق الأمنية الغربية.. يعدون ذلك نكاية في الروس، ونكاية أيضا في محاولات المصريين مد أنوفهم داخل العاصمة». يبدو أن أكثر المناطق الآمنة في طرابلس هي القرى السياحية القديمة المطلة على البحر، والتي أصبح يقيم فيها بعض شركات الأمن الغربية.. هناك ثلاث شركات على الأقل أمكن رصدها، وهي تضم عسكريين متقاعدين وعملاء أجهزة مخابرات سابقين، لديهم خبرة في التعامل مع المجاميع المسلحة.. خبرة مستمد على ما يظهر من العمل فيما مضى في مناطق ملتهبة مثل العراق وأفغانستان.
بعد عبور عدة بوابات وحواجز خرسانة، يمكن الدخول إلى منطقة فيلات «كورنثيا»، التي تقع قرب مدينة «سيدي عبد الجليل» السياحية. بعض هؤلاء الضباط يتحدث اللغة العربية، مثل العقيد جون الذي يمتلك شبكة علاقات متشعبة مع عناصر فاعلة داخل عدة ميليشيات في العاصمة. لا يقتصر الأمر على هذا. بل لدى جون قدرة على صناعة وجبات ليبية محلية.. المكرونة بالطماطم والفلفل، وأطباق البازين.
في اتصال من واشنطن، يقول باراك بارفي، الباحث الأميركي في مؤسسة «أميركا الجديدة»، لـ«الشرق الأوسط»، إن الوضع حاليا في ليبيا سيئ للغاية.. «البعض في الولايات المتحدة يريد التدخل عن طريق تحالف دولي في ليبيا، لكن الرئيس باراك أوباما لا يريد ذلك. وهذه مشكلة كبيرة. لا أحد يريد أن يتعامل مع الوضع المحلي المعقد». أكثر المتخوفين من تنامي نفوذ «داعش» في ليبيا هي دول الجوار والدول الواقعة على الضفة الأخرى من السواحل الليبية على البحر المتوسط، أي أوروبا. لكن أوروبا لا يبدو أنها تريد أن تخوض مغامرة في هذا البلد دون حضور أميركي قوي.
يقول بارفي الذي عمل لوقت طويل في دول المنطقة بما فيها ليبيا وسوريا، إنه، ومما لا شك فيه، أن الجانب الأميركي يراقب «داعش» ويراقب المتطرفين في ليبيا في الفترة الأخيرة.. «فبعد (داعش) في العراق وسوريا، تُعد ليبيا أهم مكان لـ(داعش) في العالم. وتوجد مخاوف من أن عناصر التنظيم في ليبيا يمكن أن تصل إلى أوروبا». لا يخفي بارفي دهشته من العلاقات الغريبة التي تحكم تحركات القوى الفاعلة على الأرض في ليبيا. الخطر «داعش»، ويفترض أن كل القوات تشارك في مواجهة هذا الخطر، بما فيها ميليشيات طرابلس (التي يعمل بعضها تحت لواء قوات فجر ليبيا)، لكن ما لا يفهمه الضباط الغربيون هنا هو أن قوات طرابلس تحارب حفتر، الذي يحارب «داعش».
يقول بارفي: «قوات فجر ليبيا أيضا تقاتل قوات حفتر، بدلا من مقاتلة (داعش). تنظيم داعش يمثل اليوم الخطر الأكبر على ليبيا، بعد أن انتشر ليس فقط في ليبيا، ولكن في تونس أيضا، ومن الممكن أن يصل إلى مصر». وسقط في تونس قبل أيام عشرات القتلى في هجمات للتنظيم المتطرف، بينما تعاني مصر من هجمات التنظيم بين وقت وآخر خصوصا في شبه جزيرة سيناء. يضيف المحلل الأميركي بارفي قائلا: أعرف أن هناك اتصالات بين الأميركيين وكل القوى الوطنية على الأرض في ليبيا. لكن كل واحدة من هذه القوى تعلن رفضها لأي تدخل أميركي، إذا شعرت أن هذا التدخل يمكن أن يكون في صالح قوى أخرى منافسة لها.. «إذا قررت أميركا دعم قوى معينة في داخل ليبيا، فإن هذه القوى تكون مؤيدة للتدخل الأجنبي، لكن إذا رأت أن أميركا ستدعم قوى ثانية، فإن الأولى تقول إنها ترفض مثل هذا التدخل».
بعيدا عن حسابات الميليشيات، وبالتزامن مع التقدم الذي أحرزه الجيش الليبي في بنغازي، وجهت الولايات المتحدة ضربات بالطيران لمقر لـ«داعش» في بلدة صبراتة القريبة من الحدود مع تونس، بينما شنت طائرات أخرى «مجهولة الهوية» غارات على مواقع للتنظيم المتطرف في سرت قبل عدة أيام. لكن السؤال الشائع في المنطقة الشرقية من ليبيا، يقول: لماذا لا تتعاون أميركا بشكل مباشر مع الجيش الوطني لتخليص البلاد من «داعش» وباقي الميليشيات المتطرفة. وتعكس الإجابة شكوكا في النيات الغربية.
غدًا في الحلقة الثانية:
* جمع مليارات الدولارات من الأسواق وانخفاض العملة الليبية وتراجع أسعار العقارات
* هروب عائلات لقادة سياسيين وعسكريين من طرابلس ومصراتة إلى خارج البلاد



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».