من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون
TT

من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون

لقد وضعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية الهيكل الأساسي لإدارة النظام الاقتصادي الدولي لتلافي المشاكل التي صاحبت تطور هذا النظام قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان على رأسها مشكلة اهتزاز أسعار صرف العملات الدولية والتنافسية التجارية، فضلاً عن صياغة منظومة تمويلية لتمويل إعادة البناء في أوروبا بعدما دمرتها الحرب. وأسفرت المفاوضات عن إقامة النظام الاقتصادي الدولي المعروف اليوم باسم «نظام بريتون وودز» نسبة إلى البلدة التي عقدت فيها الاجتماعات في الولايات المتحدة عام 1944 كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ولقد نشأ بمقتضى هذا الهيكل الجديد البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية لتوفير التمويل اللازم للبناء في أوروبا وهي المهمة التي وقعت على أكتاف الولايات المتحدة بالأساس من خلال «مشروع مارشال» الشهير، ولكن الأهم كان الهيكل الجديد المسمي بصندوق النقد الدولي المولج بإدارة النظام النقدي الدولي- الذي يعد الأساس لتسيير أي نظام ناجح. وفعلاً تم الاتفاق على أن يكون دوره مراقبة السياسات الاقتصادية للدول لضمان تثبيت أسعار الصرف الدولية مع وجود هامش للتذبذب قُدر بـ1 في المائة. ومن ثم تولت الولايات المتحدة قيادة النظام النقدي الدولي من خلال توفير الدولار ليصبح العملة الدولية البديلة للذهب والجنيه الإسترليني من خلال تعهدها بتحويل الدولار إلى ذهب في أي وقت على أساس 35 دولارًا للأوقية. هذا ما سمح بإدارة النظام بكل فاعلية إلى أن بدأ الدولار يواجه اضطرابات كثيرة، خاصة بعد وقوف اقتصاديات أوروبا واليابان على أرض صلبة والضغوط الدولية عليه بسبب القيادة الأميركية المنفردة لهذا النظام. هذا الوضع اضطر الولايات المتحدة لإشراك الدول الغربية الكبرى لضمان استقرار سعر صرف الدولار بزيادة العرض لاحتياطياتها من الذهب لدعم الدولار. وهنا فقدت الولايات المتحدة القدرة على القيادة المنفردة للنظام النقدي الدولي.
حقيقة الأمر أن الظروف الاقتصادية في الولايات المتحدة، خاصة مع دخولها حرب فيتنام، باتت تنذر بالخطر. إذ وضعت التطورات الدولية والاعتماد الزائد على الدولار اقتصادها محل شك، فلم تعد قادرة على تحمل أعباء تحويل الدولار إلى ذهب. عندها بدأ الدولار يعاني سلسلة من الأزمات ما اضطرها لوضع قيود على خروج الدولار للحد من هروب رأس المال للخارج بعدما بدأ ميزان المدفوعات الأميركي يواجه المشاكل، وهو ما خلق أزمة سيولة دولارية على المستوى الدولي، وما عاد من الممكن الاستمرار في الاعتماد على هذه العملة وحدها كأداة تقييم وقيمة وتداول على المستوى الدولي.
النتيجة كانت توجه الدول الكبرى لإنشاء آلية جديدة للحفاظ على أسعار صرف ثابتة للعملات الدولية وهو ما عرف «بحقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights» في صندوق النقد الدولي. وهذه وحدات نقدية يمكن استخدامها لتسوية الحسابات بين البنوك المركزية لتخفيف الطلب الدولي على الدولار على أن تدار هذه الآلية الجديدة من خلال مجموعة العشر الكبرى في الصندوق.
واقع الأمر أن هذه الآلية لم تكن كافية لمواكبة المتغيرات الدولية التي بدأت تظهر على المستوى الدولي المعروفة باسم بالتكامل. ذلك أن العالم في 1970 لم يكن مثل العالم الذي بُني على أساسه النظام النقدي الدولي في «بريتون وودز». فلقد تعمقت وتعددت التعاملات الدولية، ولم تعد الدول وبنوكها المركزية هي المتحكمة في النظام النقدي الدولي وحدها، إذ ظهرت البنوك الخاصة التي صارت أداة موازية لها أهدافها الخاصة التي لم تتطابق مع الدول بطبيعة الحال. لقد أصبحت حركة رأس المال مرتبطة بأسعار الفائدة الدولية والأداء الاقتصادي للدول، وهو ما هدد نظام الصرف الثابت. يضاف إلى ذلك أن الأداء الاقتصادي الأميركي أخذ يضعف ما جعل الدولار يحمل قيمة اسمية أعلى من القيمة الواقعية له، فكان على الإدارة الأميركية في عام 1969 إما التوجه نحو خفض سعر صرف الدولار عالميًا أو القضاء على التضخم، لكن الإدارة الأميركية لم تكن قادرة على اتخاذ أي خطوة نحو هذين الحلين لقرب موعد الانتخابات الرئاسية. ثم زاد من تعقيد الأمر أن الدول التي أنُشئ هذا النظام من أجلها، أي دول أوروبا الغربية واليابان، صار لديها اتجاهاتها الخاصة لعدم ترك إدارة النظام النقدي الدولي في أيدي الولايات المتحدة وحدها. وإزاء كل هذه الضغوط لم يجد الرئيس الأميركي يومذاك ريتشارد نيكسون بدا من التخلي عن قاعدة الذهب، في عام 1971. وبهذه الخطوة وضعت الولايات المتحدة نهاية لفلسفة «نظام بريتون وودز» دون مؤسساته.
مع ذلك لم يكن العالم الغربي على استعداد للتخلي عن فلسفة تثبيت سعر الصرف بعد. فسرعان ما عقدت الاجتماعات النقدية لدول مجموعة العشر اجتماعاتها وخرجت بما هو معروف بـ«اتفاقية السميثونيان» نسبة إلى المعهد الذي اجتمعوا فيه في واشنطن. إذ قررت الدول الاتفاق على خفض قيمة الدولار بنسبة 10 في المائة مقابل الذهب ورفع هامش تذبذب أسعار الصرف إلى 2.5 في المائة بدلاً من 1 في المائة وفقًا للاتفاقية الأصلية. وتم الاتفاق على إنشاء لجنة العشرين في الصندوق بمشاركة الدول النامية بهدف إصلاح النظام النقدي الدولي ووضع أطر للهيكلة والإصلاح له.
لكن هذه الجهود ما كانت لتسفر عن شيء بسبب استمرار عوامل التكامل الدولي والاختلافات في الرؤى الدولية، وساهم في ذلك أيضًا أن الدولار لم يعد عملة يمكن تحويلها إلى الذهب، فلقد تغير العالم ولم تتغير الفلسفة بعد إلى أن وضعت بريطانيا المسمار قبل الأخير في نعش هذه الفلسفة بتعويم الجنيه الإسترليني في عام 1972 متخلية تمامًا عن هذه الفلسفة. ومع ذلك لم تقنع باقي الدول بهذا وحاولت مرة أخرى إنقاذ النظام النقدي من خلال خفض 10 في المائة إضافية من قيمة الدولار، ولكن سرعان ما اقتفت الدول الأخرى خطوة لندن وعوّمت عملاتها منهية بذلك قاعدة تثبيت أسعار الصرف.
بيد أن النظام النقدي كان يستعد في حقيقة الأمر لتقبل كارثة جديدة بالنسبة للدول الغربية بسبب «حرب 1973» العربية الإسرائيلية التي كان من تبعاتها فرض حظر على صادرات البترول ما أدى إلى ارتفاع جنوني في سعره، فخلق أزمة سيولة دولية مع تحويل ما يقرب من سبعين بليون دولار إلى الدول المنتجة لهذه السلعة وهو الرقم الذي بلغ 114 بليونًا في مطلع ثمانينات القرن الماضي.
ونظرًا لأن البترول سلعة استراتيجية لم تستطع الدول الغربية خفض الطلب عليه، كما أنها عجزت عن زيادة صادراتها إلى الدول المنتجة بنفس القدر للموازنة الاقتصادية والمالية، ما أدى لظهور مصطلح جديد لهذا الفائض المالي عُرف باسم «البترودولار Petrodollar». وعاد جزء من هذه الدولارات إلى البنوك الخاصة ما همّش دور البنوك المركزية وخلق فائضًا من السيولة في أيدي هذه البنوك فسهّل عملية الإقراض للدول النامية وأدى لأزمة الديون فيما بعد عندما لم تستطع هذه الدول الوفاء بأقساط الديون وخدمتها.
أدت هذه التطورات لتضافر جهود الدول الغربية واليابان للسيطرة على آثار هذه الأزمات المتتالية، فعقد اجتماع رامبوييه الشهير في بلدة رامبوييه قرب العاصمة الفرنسية باريس عام 1975 بمشاركة الدول السبع الكبرى بهدف السيطرة على التضخم والتعامل مع البترودولارات وحالة الكساد التي بدأت تظهر على المستوى الدولي. وكان هذا الاجتماع هو بداية ظهور «مجموعة السبع G7». وتحققت الموافقة على إقرار التعديل الثاني لبنود صندوق النقد الدولي وإلغاء نظام القيادة الواحدة للنظام الدولي، ومعها إلغاء قاعدة الذهب والاستعاضة عنها بحقوق السحب الخاصة كأساس للاحتياطي النقدي. وكان هذا إقرارًا بالأمر الواقع لفشل منظومة الإدارة النقدية الدولية التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية، وتحويل هذه الإدارة من أداة للتثبيت إلى أداة للإدارة وفقًا للمتغيرات الدولية. وبالتالي، كانت هذه هي بداية النظام النقدي الدولي الذي نعرفه اليوم الذي أصبح يسير وفقًا لمقتضيات العرض والطلب ويكتفي بدور دولي لتنسيق السياسات ومواجهة الأزمات.



جبهة لبنان: المُسيَّرات الهجومية عنوان «معركة الاستنزاف»

قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
TT

جبهة لبنان: المُسيَّرات الهجومية عنوان «معركة الاستنزاف»

قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)

رفعت إسرائيل من وتيرة عملياتها في العمق اللبناني، مستهدفةً بشكل ممنهج مواقع لـ«حزب الله»، ومنفّذة عمليات اغتيال طالت قادة ميدانيين، في حين يردّ الحزب بضرب مواقع إسرائيلية ذات بُعد استراتيجي. أما القاسم المشترك بين الطرفين فيتمثّل باستخدامهما أسلحة جديدة أبرزها المُسيَّرات الهجوميّة التي باتت وسيلة فاعلة على الجبهتين، وعنوان «معركة الاستنزاف» المستمرّة منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. يتمسّك «حزب الله» حتى الآن بقواعد الاشتباك، وعدم تغيير ظروف اللعبة تجنباً لحربٍ واسعة تريدها إسرائيل وتسعى لاستدراجه إليها، بينما تُوسّع تل أبيب دائرة استهدافها العمق اللبناني ويشّن طيرانها الحربي غارات تطول معظم بلدات الجنوب وأطراف مدينة صيدا وصولاً إلى البقاع الذي يشكل امتداداً لبيئة الحزب، وقد أسفرت غارة إسرائيلية قبل يومين على منطقة الزهراني في قضاء صيدا، عن مقتل عنصر في الحزب وطفلين سوريين، كما كثّفت غاراتها على بلدات جنوبية منها النجارية والعدوسيّة القريبتين من مدينة صيدا البعيدة جداً عن الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.

في حين نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤولين عسكريين قولهم إن إيران نقلت وسائل دفاع جوي متقدمة لـ«حزب الله»، مستندين في ذلك إلى صور من موقع عسكري هاجمه الجيش الإسرائيلي، أدخل «حزب الله» في المقابل أسلحة جديدة على المعركة لإظهار قدراته القتالية، ومحاولة خلق «توازن رعب» جديد مع إسرائيل.

وفي هذا الإطار أعلن الحزب عن «تنفيذ عملية بواسطة مُسيَّرة هجوميّة مسلّحة مزوّدة بصاروخين من طراز (إس – 5) على موقع عسكري في المطلة بأقصى شمال شرقي إسرائيل، قبل أن تنفجر». وأيضاً نشر مقطع فيديو يوثّق تحليق المُسيَّرة باتجاه الموقع حيث توجد دبابات ولحظة إطلاقها الصاروخين ثم انفجارها.

دخول الأسلحة الجديدة على المعركة لا يعني بالضرورة أن الحزب يهيئ الأرضية لفتح جبهة الجنوب على امتدادها، بقدر ما هو توجيه رسائل إلى الجانب الإسرائيلي تفيد بأن المغامرة العسكرية ستكون أثمانها مكلفة جداً.

وهنا أشار الدكتور رياض قهوجي، مدير مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري والخبير في شؤون الأمن والتسلّح، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «حزب الله لم يستخدم كل أسلحته منذ البداية، بل آثر أن يرسم لنفسه قواعد الاشتباك المناسبة، ويحصر عملياته العسكرية ضمن جبهة معينة مع إسرائيل».

ولفت قهوجي أيضاً إلى أن الحزب «لا يزال يعتمد على صواريخ (كاتيوشا) و(غراد) إلى جانب صاروخ أطلق عليه اسم (البركان) هو عبارة عن صاروخ (غراد) معدّل برأس أكثر قوّة». ووفق قهوجي فإن «استخدام الحزب الأسلحة التكتيكية، أي الصواريخ المضادة للدروع مثل (كورنيت)، تبقى استراتيجية أكثر فاعلية، لأن الضرر الذي ينجم عن (كاتيوشا) و(غراد) محدود الفاعلية، بالنظر إلى امتلاك إسرائيل قبّة حديدية قادرة على تدمير هذه الصواريخ في الجوّ».

المُسيَّرات الانقضاضيّة

في هذه الأثناء، يواظب «حزب الله» على تصوير عملياته التي تستهدف مواقع إسرائيلية قريبة من الحدود اللبنانية، لسببين:

الأول، إظهار قدرته أمام جمهوره وبيئته على إلحاق الخسائر بالعدو والردّ على الاغتيالات التي تطول قيادييه وكوادره.

والثاني، التأثير النفسي على الجانب الإسرائيلي. وكان الحزب قد أعلن أخيراً «استهداف نقطة تموضع واستقرار لجنود العدو في موقع رويسة القرن في مزارع شبعا اللبنانية بصاروخ موجّه». وذكر في بيان له أن العملية «حققت إصابات مباشرة، مما أدى إلى اشتعال النيران فيها في الموقع المذكور».

ضمن هذا السياق، لا يُخفي رياض قهوجي أن «استخدام الحزب الصواريخ الموجَّهة والطائرات المُسيَّرة الانقضاضية أو الانتحارية، نجح في إيقاع إصابات في صفوف الجنود الإسرائيليين... وكلما اقترب الهدف من الحدود اللبنانية قلّت قدرة إسرائيل على اعتراض مُسيَّرات وصواريخ الحزب وإسقاطها».

تشييع عباس شومان أحد عنصر "حزب الله" (رويترز)

عمليات مركّبة

في المقابل، فرض تفوّق الجيش الإسرائيلي، خصوصاً في سلاح الجوّ والدفاعات الجوية، على «حزب الله» تكتيكات معيّنة، فبدأ الأخير استخدام الطائرات المُسيَّرة بشكل منسق مع الصواريخ الموجهة، في ممارسة أطلق عليها تسمية «العمليات المركّبة».

وعودة إلى رياض قهوجي، فإن «العنوان الأساسي للمعركة الحالية هو الاستنزاف، لأن الحزب لم يتوقّع أن تستمر هذه الحرب لسبعة أشهر». وهنا قدّم الخبير الاستراتيجي اللبناني مقاربة مختلفة لرؤية إسرائيل لهذه الحرب، إذ شدّد على أن الجيش الإسرائيلي «ألغى قواعد الاشتباك وأزال الحدود أمام عملياته، مستخدماً قدراته وتفوّقه الجوّي... وهو ينجح بالاستهداف النوعي ويختار أهدافه عبر اغتيال قادة ميدانيين وكوادر أساسية في الحزب ذات خبرة قتالية عالية وواسعة، بالإضافة لاستهدافه مخازن أسلحة ومواقع سيطرة، فضلاً عن تدمير بلدات وقرى تشكِّل البيئة الحاضنة للحزب، من أجل زيادة الضغط عليه». ثم أردف: «لا شك في أن الجانب الإسرائيلي يستخدم جميع أنواع الأسلحة ضمن استراتيجية واحدة هي الاغتيالات والاستنزاف وتدمير قدرات الحزب بشكل ممنهج».

تحييد المدن الكبرى

لا خطوط حمراء أمام العمليات الإسرائيلية التي بلغت منطقة البقاع الشمالي وصولاً إلى مواقع «حزب الله» في ريف مدينة القصير السورية، لكنها ما زالت تتجنّب قصف المدن الكبرى مثل صور وصيدا وبيروت. وحسب رأي قهوجي، فإن «تحييد إسرائيل للمدن الكبرى إنما هو لتجنيب مدنها صواريخ (حزب الله)، وهذه قاعدة الاشتباك الوحيدة التي يلتزم بها الطرفان». ومن ثم لفت إلى أن الحزب «يمتلك تشكيلة كبيرة من الأسلحة، خصوصاً في مجال الدفاع الجوي، وقد قدّم نموذجاً منها عندما أسقط ثلاث مُسيَّرات إسرائيلية من طراز (هيرمز 450) و(هيرمز 950)، لكنَّ هذا التقدّم لا يعني تهديد السيطرة الجوية الإسرائيلية، فهي ذات قدرات محدودة أمام الطائرات الحربية النفّاثة، وهذه الصواريخ استُخدمت في سوريا في مواجهة القصف الذي يطول مواقع للحزب وإيران ولم يُثبت فاعليته».

اغتيال القادة الميدانيين

على صعيد آخر، لوحظ بوضوح في الفترة الأخيرة، أن إسرائيل هي التي تسارع إلى الكشف عن اسم الشخصيّة العسكرية التي يغتالها قبل أن يعلن عنه «حزب الله» عن هويّة المستهدف من قادته الميدانيين ودوره وأهميته في الجبهة.

وخلال الساعات الماضية أعلن الجيش الإسرائيلي عن «تنفيذ عملية اغتيال جديدة طالت مسؤولاً في (حزب الله) يتولى قيادة وحدة صاروخية في منطقة ساحل جنوب لبنان». وقال الناطق العسكري الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، إن الجيش «نفّذ غارة جوية في منطقة صور، هاجم فيها قاسم سقلاوي، قائد الوحدة الصاروخية في منطقة الشاطئ في (حزب الله)». وأضاف أدرعي أن سقلاوي «كان مسؤولاً عن التخطيط والتنفيذ لعمليات إطلاق قذائف صاروخية نحو الجبهة الداخلية الإسرائيلية، حيث عمل على تنفيذ وتخطيط عمليات إطلاق قذائف صاروخية، وأخرى مضادة للدروع نحو إسرائيل من منطقة الشاطئ في لبنان»، في إشارة إلى منطقة الساحل الجنوبي.

ورداً على هذا الاغتيال والعملية الإسرائيلية في مدينة القصير السورية، التي تسببت بمقتل اثنين من عناصره، أعلن «حزب الله» أن مقاتليه «هاجموا موقع المطلة ‏وحاميته وآلياته بمُسيَّرة مسلّحة بصاروخي (إس 5)، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها الحزب هذا النوع من الصواريخ التقليدية غير الموجهة».

معركة استنزاف

ثم إنه صحيح أن المواجهة وضعت «حزب الله»، كما وضعت إسرائيل، أمام معركة استنزاف لم يتوقعها الطرفان، لكن رغم ارتفاع أثمانها والخسائر التي يتكبّدها الحزب فإنه لا مؤشرات على استعداده للذهاب إلى «حربٍ شاملة»، بخلاف حكومة إسرائيل التي تسعى لإشعال الجبهة مع لبنان، رافضةً الضغوط الأميركية والأوروبية. غير أن مصدراً مقرّباً من «حزب الله» قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأخير «ليس في مرحلة استنزاف كما يروّج البعض». وتابع أن الحزب «يضع نفسه في حالة مواجهة دائمة مع الجانب الإسرائيلي، ولذلك يرى أن معركة إشغال إسرائيل ومساندة غزة لا تزال في بدايتها، وأن الحزب يملك نفساً طويلاً في كلّ حروبه من إسرائيل».

ومن ثمَّ أكد المصدر المقرّب من الحزب أن «المقاومة تحتفظ بكثير من المفاجآت التي ستصدم العدو وحلفاءه وليس العكس». وأضاف شارحاً أن «المقاومة في حالة حرب مع الإسرائيلي منذ اجتياح بيروت في عام 1982، وبقيت في هذه الوضعية حتى بعد تحرير الجنوب في 25 مايو (أيار) 2000، لأن العدو لم يُخفِ يوماً نيّاته العدوانية تجاه لبنان». واستطرد: «ما دام الإسرائيلي فتح الحرب في غزة، ووضع لبنان أمام خطر الحرب منذ الثامن من أكتوبر، فعليه أن يتحضّر للمفاجآت إذا ما اختار توسيع المواجهة».

منطقة عازلة

أخيراً، حول احتمالات المستقبل، يُجمع الخبراء على أن جبهة جنوب لبنان ستبقى مشتعلة، إلى أن تتبدّل الظروف التي كانت قائمة قبل السابع من أكتوبر الماضي، وأن تل أبيب لن تقبل بوقفٍ لإطلاق النار قبل إقامة «منطقة عازلة» في جنوب لبنان، تقع تحت سيطرة قوات «يونيفيل» والجيش اللبناني، وخالية من أي وجود لمقاتلي «حزب الله».

وفي رأي أحد الخبراء، فإن حكومة إسرائيل «ستعمل على فرض واقع أمني في جنوب لبنان، كي لا تستفيق يوماً على (طوفان أقصى جديد) ينطلق من جنوب لبنان إلى الجليل الأعلى ومستوطنات الشمال... ولذلك نراها ترفض عودة مواطنيها إلى منازلهم في المناطق القريبة من حدود لبنان قبل الانتهاء من هذه الورقة الأمنية، سواء بالحلّ الدبلوماسي أو بالعمل العسكري أياً كانت نتائجه». لا خطوط حمراء أمام العمليات الإسرائيلية التي بلغت منطقة البقاع الشمالي وصولاً إلى مواقع «حزب الله» في ريف مدينة القصير السورية

منظر لقطاع من الجبهة المفتوحة في جنوب لبنان (رويترز)

حسابات أوراق القوّة... والخسائر البشرية

> تأهباً للحرب الشاملة التي تتفوّق فيها إسرائيل عتاداً وعديداً تكنولوجياً، فإن «حزب الله» يخبئ أوراقاً قويّة تحضيراً لها. وهنا، أفاد الخبير الاستراتيجي الدكتور رياض قهوجي، بأن الحزب «لا يزال يمتلك ترسانة من الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي إذا حصل التصعيد في أي وقت». وجزم قهوجي بأن «حزب الله لا يريد الحرب، وهو يعدّل تكتيكاته عبر الصواريخ الموجَّهة والمُسيرات الانقضاضيّة لإيقاع إصابات في إطار حرب الاستنزاف، بخلاف الإسرائيلي الذي يسعى إلى حرب واسعة، لكن عندما تقع هذه الحرب سيُظهر الحزب أوراق القوّة لديه».والمعروف أنه عند كلّ زيارة يقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو وزير الدفاع يؤاف غالانت، أو رئيس الأركان هرتسي هاليفي، يحضّ هؤلاء جنودَهم على الاستعداد لمعركة طويلة مع لبنان بما فيها احتمال الاجتياح البرّي، ويتكلمون عن «بنك أهداف» كبير ووسائل ربما تكون «حرب 2006» نزهة أمام ما سيحدث.على هذا، ردّ المصدر المقرّب من «حزب الله» بأن إسرائيل «تمارس حرباً نفسيّة على لبنان وحزب الله للخضوع لشروطها»، وشدد على أن الحزب «حدّد بدوره بنك الأهداف داخل الكيان الإسرائيلي في أي مواجهة قادمة». وأضاف: «لقد أعلن (أمين عام حزب الله) السيد حسن نصر الله، أن ضرب بيروت سيقابله تدمير تلّ أبيب، وضرب المنشآت المدنية سيقابَل بتدمير أهداف مدنية استراتيجية لدى العدو، بما فيها منصات الغاز في حقل كاريش».وفي حين لم يكشف الجانب الإسرائيلي عن خسائره البشرية جرّاء عمليات «حزب الله» ضدّ مواقعه وتجمعات جنوده، أعلنت مؤسسة «الدولية للمعلومات» عن سقوط 428 قتيلاً لبنانياً بالقصف الإسرائيلي على لبنان، غالبيتهم من «حزب الله». وأفادت «الدولية للمعلومات» في نشرتها الشهرية، بأنه «منذ عملية طوفان الأقصى في غزة التي بدأت فجر يوم السبت 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ولغاية صباح الأربعاء 22 مايو (أيار) 2024، وصل عدد الشهداء 428 شهيداً، أكثريتهم السّاحقة من حزب الله». وأشار إلى أن القتلى توزّعوا على الشكل التالي:- مقتل جندي واحد للجيش اللبناني سقط يوم الثلاثاء 5 ديسمبر (كانون الأول) 2023، عندما قصفت إسرائيل أحد مراكز الجيش في بلدة العديسة الحدوديّة.- 305 لـ«حزب الله» و18 لحركة «أمل» وواحد للحزب السوري القومي الاجتماعي في 15 ديسمبر 2023، و3 من الإعلاميين.- 61 مدنياً من بينهم الجدة سميرة أيوب وحفيداتها الثلاث اللواتي استُشهدن يوم 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 في الطريق بين عيترون وعيناتا.- عائلة البرجاوي وأقاربهم الذين قضوا يوم الأربعاء 14 فبراير (شباط) 2024.- عائلة فادي حنيكي (الذين قُتلوا داخل منزلهم) في ميس الجبل في 5 مايو 2024.- 9 من الهيئة الصحية الإسلامية التابعة لـ«حزب الله»، و5 من الجماعة الإسلامية، و7 من مسعفي الهيئة الطبية الإسلاميّة التابعة للجماعة الإسلاميّة أُصيبوا في بلدة الهبّارية، و3 من كشافة الرسالة الإسلامية التابعة لحركة «أمل»، و7 سوريين، و8 فلسطينيين.