من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون
TT

من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون

لقد وضعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية الهيكل الأساسي لإدارة النظام الاقتصادي الدولي لتلافي المشاكل التي صاحبت تطور هذا النظام قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان على رأسها مشكلة اهتزاز أسعار صرف العملات الدولية والتنافسية التجارية، فضلاً عن صياغة منظومة تمويلية لتمويل إعادة البناء في أوروبا بعدما دمرتها الحرب. وأسفرت المفاوضات عن إقامة النظام الاقتصادي الدولي المعروف اليوم باسم «نظام بريتون وودز» نسبة إلى البلدة التي عقدت فيها الاجتماعات في الولايات المتحدة عام 1944 كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ولقد نشأ بمقتضى هذا الهيكل الجديد البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية لتوفير التمويل اللازم للبناء في أوروبا وهي المهمة التي وقعت على أكتاف الولايات المتحدة بالأساس من خلال «مشروع مارشال» الشهير، ولكن الأهم كان الهيكل الجديد المسمي بصندوق النقد الدولي المولج بإدارة النظام النقدي الدولي- الذي يعد الأساس لتسيير أي نظام ناجح. وفعلاً تم الاتفاق على أن يكون دوره مراقبة السياسات الاقتصادية للدول لضمان تثبيت أسعار الصرف الدولية مع وجود هامش للتذبذب قُدر بـ1 في المائة. ومن ثم تولت الولايات المتحدة قيادة النظام النقدي الدولي من خلال توفير الدولار ليصبح العملة الدولية البديلة للذهب والجنيه الإسترليني من خلال تعهدها بتحويل الدولار إلى ذهب في أي وقت على أساس 35 دولارًا للأوقية. هذا ما سمح بإدارة النظام بكل فاعلية إلى أن بدأ الدولار يواجه اضطرابات كثيرة، خاصة بعد وقوف اقتصاديات أوروبا واليابان على أرض صلبة والضغوط الدولية عليه بسبب القيادة الأميركية المنفردة لهذا النظام. هذا الوضع اضطر الولايات المتحدة لإشراك الدول الغربية الكبرى لضمان استقرار سعر صرف الدولار بزيادة العرض لاحتياطياتها من الذهب لدعم الدولار. وهنا فقدت الولايات المتحدة القدرة على القيادة المنفردة للنظام النقدي الدولي.
حقيقة الأمر أن الظروف الاقتصادية في الولايات المتحدة، خاصة مع دخولها حرب فيتنام، باتت تنذر بالخطر. إذ وضعت التطورات الدولية والاعتماد الزائد على الدولار اقتصادها محل شك، فلم تعد قادرة على تحمل أعباء تحويل الدولار إلى ذهب. عندها بدأ الدولار يعاني سلسلة من الأزمات ما اضطرها لوضع قيود على خروج الدولار للحد من هروب رأس المال للخارج بعدما بدأ ميزان المدفوعات الأميركي يواجه المشاكل، وهو ما خلق أزمة سيولة دولارية على المستوى الدولي، وما عاد من الممكن الاستمرار في الاعتماد على هذه العملة وحدها كأداة تقييم وقيمة وتداول على المستوى الدولي.
النتيجة كانت توجه الدول الكبرى لإنشاء آلية جديدة للحفاظ على أسعار صرف ثابتة للعملات الدولية وهو ما عرف «بحقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights» في صندوق النقد الدولي. وهذه وحدات نقدية يمكن استخدامها لتسوية الحسابات بين البنوك المركزية لتخفيف الطلب الدولي على الدولار على أن تدار هذه الآلية الجديدة من خلال مجموعة العشر الكبرى في الصندوق.
واقع الأمر أن هذه الآلية لم تكن كافية لمواكبة المتغيرات الدولية التي بدأت تظهر على المستوى الدولي المعروفة باسم بالتكامل. ذلك أن العالم في 1970 لم يكن مثل العالم الذي بُني على أساسه النظام النقدي الدولي في «بريتون وودز». فلقد تعمقت وتعددت التعاملات الدولية، ولم تعد الدول وبنوكها المركزية هي المتحكمة في النظام النقدي الدولي وحدها، إذ ظهرت البنوك الخاصة التي صارت أداة موازية لها أهدافها الخاصة التي لم تتطابق مع الدول بطبيعة الحال. لقد أصبحت حركة رأس المال مرتبطة بأسعار الفائدة الدولية والأداء الاقتصادي للدول، وهو ما هدد نظام الصرف الثابت. يضاف إلى ذلك أن الأداء الاقتصادي الأميركي أخذ يضعف ما جعل الدولار يحمل قيمة اسمية أعلى من القيمة الواقعية له، فكان على الإدارة الأميركية في عام 1969 إما التوجه نحو خفض سعر صرف الدولار عالميًا أو القضاء على التضخم، لكن الإدارة الأميركية لم تكن قادرة على اتخاذ أي خطوة نحو هذين الحلين لقرب موعد الانتخابات الرئاسية. ثم زاد من تعقيد الأمر أن الدول التي أنُشئ هذا النظام من أجلها، أي دول أوروبا الغربية واليابان، صار لديها اتجاهاتها الخاصة لعدم ترك إدارة النظام النقدي الدولي في أيدي الولايات المتحدة وحدها. وإزاء كل هذه الضغوط لم يجد الرئيس الأميركي يومذاك ريتشارد نيكسون بدا من التخلي عن قاعدة الذهب، في عام 1971. وبهذه الخطوة وضعت الولايات المتحدة نهاية لفلسفة «نظام بريتون وودز» دون مؤسساته.
مع ذلك لم يكن العالم الغربي على استعداد للتخلي عن فلسفة تثبيت سعر الصرف بعد. فسرعان ما عقدت الاجتماعات النقدية لدول مجموعة العشر اجتماعاتها وخرجت بما هو معروف بـ«اتفاقية السميثونيان» نسبة إلى المعهد الذي اجتمعوا فيه في واشنطن. إذ قررت الدول الاتفاق على خفض قيمة الدولار بنسبة 10 في المائة مقابل الذهب ورفع هامش تذبذب أسعار الصرف إلى 2.5 في المائة بدلاً من 1 في المائة وفقًا للاتفاقية الأصلية. وتم الاتفاق على إنشاء لجنة العشرين في الصندوق بمشاركة الدول النامية بهدف إصلاح النظام النقدي الدولي ووضع أطر للهيكلة والإصلاح له.
لكن هذه الجهود ما كانت لتسفر عن شيء بسبب استمرار عوامل التكامل الدولي والاختلافات في الرؤى الدولية، وساهم في ذلك أيضًا أن الدولار لم يعد عملة يمكن تحويلها إلى الذهب، فلقد تغير العالم ولم تتغير الفلسفة بعد إلى أن وضعت بريطانيا المسمار قبل الأخير في نعش هذه الفلسفة بتعويم الجنيه الإسترليني في عام 1972 متخلية تمامًا عن هذه الفلسفة. ومع ذلك لم تقنع باقي الدول بهذا وحاولت مرة أخرى إنقاذ النظام النقدي من خلال خفض 10 في المائة إضافية من قيمة الدولار، ولكن سرعان ما اقتفت الدول الأخرى خطوة لندن وعوّمت عملاتها منهية بذلك قاعدة تثبيت أسعار الصرف.
بيد أن النظام النقدي كان يستعد في حقيقة الأمر لتقبل كارثة جديدة بالنسبة للدول الغربية بسبب «حرب 1973» العربية الإسرائيلية التي كان من تبعاتها فرض حظر على صادرات البترول ما أدى إلى ارتفاع جنوني في سعره، فخلق أزمة سيولة دولية مع تحويل ما يقرب من سبعين بليون دولار إلى الدول المنتجة لهذه السلعة وهو الرقم الذي بلغ 114 بليونًا في مطلع ثمانينات القرن الماضي.
ونظرًا لأن البترول سلعة استراتيجية لم تستطع الدول الغربية خفض الطلب عليه، كما أنها عجزت عن زيادة صادراتها إلى الدول المنتجة بنفس القدر للموازنة الاقتصادية والمالية، ما أدى لظهور مصطلح جديد لهذا الفائض المالي عُرف باسم «البترودولار Petrodollar». وعاد جزء من هذه الدولارات إلى البنوك الخاصة ما همّش دور البنوك المركزية وخلق فائضًا من السيولة في أيدي هذه البنوك فسهّل عملية الإقراض للدول النامية وأدى لأزمة الديون فيما بعد عندما لم تستطع هذه الدول الوفاء بأقساط الديون وخدمتها.
أدت هذه التطورات لتضافر جهود الدول الغربية واليابان للسيطرة على آثار هذه الأزمات المتتالية، فعقد اجتماع رامبوييه الشهير في بلدة رامبوييه قرب العاصمة الفرنسية باريس عام 1975 بمشاركة الدول السبع الكبرى بهدف السيطرة على التضخم والتعامل مع البترودولارات وحالة الكساد التي بدأت تظهر على المستوى الدولي. وكان هذا الاجتماع هو بداية ظهور «مجموعة السبع G7». وتحققت الموافقة على إقرار التعديل الثاني لبنود صندوق النقد الدولي وإلغاء نظام القيادة الواحدة للنظام الدولي، ومعها إلغاء قاعدة الذهب والاستعاضة عنها بحقوق السحب الخاصة كأساس للاحتياطي النقدي. وكان هذا إقرارًا بالأمر الواقع لفشل منظومة الإدارة النقدية الدولية التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية، وتحويل هذه الإدارة من أداة للتثبيت إلى أداة للإدارة وفقًا للمتغيرات الدولية. وبالتالي، كانت هذه هي بداية النظام النقدي الدولي الذي نعرفه اليوم الذي أصبح يسير وفقًا لمقتضيات العرض والطلب ويكتفي بدور دولي لتنسيق السياسات ومواجهة الأزمات.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».