إلى السينما وعالمها السحري وما ينطوي عليه من إثارة ومتعة، يأخذنا القاص والروائي «حسين عبد الرحيم» من خلال مجموعته القصصية «زووم إن». فمنذ الوهلة الأولى يطالعك العنوان بمصطلحه السينمائي، فتتهيأ لمشاهدة قصص تغلب عليها الصورة السينمائية، ونراها جليّة في قصة «عبده فلاش» والتي يقول فيها: «دفقات الموج الصاخب تصطدم بالصخور الإسمنتية عند المدينة الساحلية وترتج السماء، ويدوي الرعد ويلمع البرق في المدينة، فترى ألواح الصاج تتطاير من فوق أسطح المنازل، وينزلق رجل وامرأة وطفل صغير أسفل طور الثكنات العسكرية فيرتجف الجندي بزيه الكاكي ويتشبَّث بسلاحه الميري». (ص9). في هذا المقطع تبرز عناصر المشهد السينمائي: الموسيقى «أصوات الأمواج، الرعد، البرق، الرياح والمطر»، الإضاءة «ليل - خارجي»، الشخوص: «الرجل، المرأة، الطفل والجندي»؛ وغيرها من التفاصيل الدقيقة التي يحيلها المشهد إلى لوحة فنية.
فكاتبنا «البورسعيدي»، مدينته الساحلية لا تفارقه، ذكرياته فيها تطارده حتى وإن فارقها بجسده، فهي تصاحبه في كل خطواته. ومن «الإهداء» الذي يتصدر المجموعة يتبيّن لنا أن هذه الشخوص التي سنتعرّف عليها من خلال القراءة، هي شخصيات عرفهم الكاتب واقترب منهم وصادقهم، فهم من واقع عاشه ويحدثنا عنه، وستجدها في قصص: «عبده فلاش» وهي قصة تحمل اسمه وكذلك الكابتن أحمد عمار في قصة «يا حمام الروح»، وياسر مصطفى محمود ابن الحاجة فاطمة بنت الحاج حسن في قصة «وهذا البلد»، وحمادة فوزي في قصة «يوم جمعة».
ومن خلال السرد يطالعنا «حسين عبد الرحيم» بلغة حادة قوية، تشعر فيها وكأنه ينحت حروف كلماتها، ليُخرِج لنا من خلالها صيغة غاية في القوة والرقة في آن واحد، وكذلك اهتمامه بتفاصيل الشخوص وهيئتهم، ويسردها بشاعرية ونعومة، نلمسهما مثلاً في قصة «يا حمام الروح»، التي يقول فيها عن بائع العصافير الذي صادفه في سوق وسط المدينة في القاهرة، والذي رأى فيه صديقه القديم «الكابتن أحمد عمار»: «جلس على كرسي خشب ووضع اليانك الأزرق فوق رأسه وأمسك بطرف حبل مبروم تدلَّت منه عشرات العصافير المذبوحة. وضع ساقًا فوق ساق فبانت أناقته مع ارتدائه الحُلة البحرية الزرقاء في أبيض، والحذاء «الهاف بوت، الكِرب الهافان» ونظارته الشمسية «بيرسول الفامية». (ص14)، كما أن لغة الحوار في قصص المجموعة تنطقها الشخوص ولا يستنطقها المؤلف، ويتبين ذلك جليّا في الحوار بين البطل «جمال الأكيابى» وبائع العصافير في القصة نفسها:
- «انت منين يا ريس»؟!
فرد قائلاً:
- ليه؟ من بورسعيد يا سيدي، وتركتها، ودي شغلتي من خمسين سنة.. هتحقق معايا انت كمان؟» (ص15)
وببراعة مخيلة يمزج الكاتب العاشق للسينما، بين رقص الكابتن أحمد عمار على أنغام السمسمية، وهو يلّوح بيديه ويضرب الأرض بقدميه، وسط الفتيات من الجاليات الأجنبية التي كانت تعيش هناك حينها (عام 1975)، ورقصة «زوربا اليوناني» الشهيرة للممثل «أنتوني كوين» في الفيلم؛ وجعلنا وكأن الصفحة أمامنا شاشة سينما منقسمة إلى قسمين بالتساوي، أحدهما لزوربا «اليوناني» يرقص مختالاً، والنصف الآخر لأحمد عمار «البورسعيدي»، نقلها إلينا بحرفية عالية وبأسلوب ولغة غاية في التحكم والسيطرة عليها من جانبه.
كما يتذكر أيام التهجير بعد عدوان 1967، في القصص التي تحمل عناوين: (جووب موف - طفولة - فهمي الجمال - طيري يا طيارة)، وذكرياته في مدينة «طلخا» ومدرسة (قنصوه الغوري) الابتدائية هناك، و«فهمي الجمال» المهندس السابق في السد العالي العاشق للنيل، ووفاة جمال عبد الناصر وهو مع أسرته أثناء التهجير في قرية «البصراط» النائية التابعة لمحافظة الدقهلية، وكان ساعتها يبلغ من العمر ثلاث سنوات، وفي مشهد غاية في الأسى والحزن ينقل لنا «حسين عبد الرحيم» صورة الجموع الحاشدة من أهل القرية وهي تسير خلف نعش «وهمي» للزعيم الراحل، والذي يصف لنا فيها حالة الطفل (المؤلف ساعتها) فيقول: «كان غطاء التابوت يصعد لأعلى وأنت تعتلي مناكب الرجال طويلي القامة. تبكي، تقفز فوق التابوت، تنزع الغطاء القرمزي، تصرخ ثم تبتسم. ترى وجهًا يحمل البراءة، يذرف الدمع، ينظر للفقراء ويبتسم. يطل على العالم. ينظر إلى السماء. تراه ممددًا بالتابوت، بحلته وشعره المتساوي. وجه كالبدر. قمر في استدارته». (ص60)
تتوالى الذكريات لدى الكاتب، فيحدثنا عن ميلاد ابنته «فرح» في قصته (كم أنت بعيد يا فرح)، التي لم يستطع أن يتخفى كثيرًا وراء اسم «جاسر» الذي اختاره لبطل قصته ليعلنها صراحة: «الدكتور قال بنت يا «جاسر» (والله بنت يا حسين) (ص38)، والتي يقول عنها بقلب الأب الحنون المحب: «فرح صارت ملح الأرض بعد ما زادت كآبتي في أعوامي الأخيرة وأمي الصديقة تقول: كأنك حزين، كأنك مفارق، لماذا تنظر إلى ابنتك هكذا؟!» (ص39)
هنا يأخذنا الكاتب إلى منحى جديد في المجموعة، تبز فيه دلالات الانكسار والقهر في قصة (مشوار)، الوحدة واليأس (قفزة أخرى لطائر وحيد)، القضاء والقدر (طريق) ثم الموت (يوم جمعة).
ففي لوحة سردية مفعمة بالعذوبة نرى «الانكسار والقهر» في أبشع صورهما، في قصة «مشوار»، من خلال لواء الجيش، الذي لم يصرّح الكاتب برتبته، ولكن تكتشفها من خلال (النسر والسيفين المتقاطعين) اللذين سيأتي ذكرهما من خلال السرد. فمن خلال هذه الشخصية التي ترى في أواخر أيامها أن كل ما حاربت ودافعت من أجله، ينهار ويُباع من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1974، وبعدها ما سميت بمعاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي عام 1977 في عهد السادات، ثم ما سُمي «بالخصخصة» في عهد مبارك؛ والتي تم من خلالها تصفية القطاع العام آخر مكاسب ثورة يوليو (تموز) 1952. عند هذه النقطة يكتشف أن حياته على طولها كانت عبثية، النياشين والأوسمة التي حصل عليهما أثناء خدمته عبث، حياته مع زوجته الخالية من الحب والعواطف.. عبث. وببراعة عبّر الكاتب عن حالة القهر التي اجتاحته، وهو يرى حالة الانهيار التي راحت إليها البلاد؛ فيقرر الانتحار ليضع نهاية لهذا المشوار العبثي الذي عاشه طوال سبعة وأربعين عامًا: «انتعل نصفي حذائه الأماميين. توجَّه نحو الشرفة الخالية وهو يترنَّح. حدَّق في عمق السماء. أحس بالنجوم البراقة وهى تتهاوى نحو صفحة النيل». (ص24)
وفي قصة «قفزة أخرى لطائر وحيد»، يحدثنا عن حالات «الوحدة واليأس» التي تنتابنا وتجعلنا ساعتها نشعر بالاختناق، وهو يصفها لنا من خلال بطله «محمود» البالغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا، والتي يعبر بها عن حالة شريحة عامة من الشباب في مثل هذا العمر، ومونولوجه داخل أغوار نفسه: «مخنوق يا محمود.. كبت وحرمان وشقاء ويقظة بلا حدود. الوعي عبء وأنت مثقل بالأنين دومًا». (ص19).
ولكن تأتي اللحظة الفارقة عند هرولته لنجدة الطفل الغريق وإعادته إلى أمه الملهوفة، وساعتها يشعر بالتحرر والانطلاق، خارجًا من شرنقته، ليبدأ بعدها حياة جديدة، ينغمس فيها مع الناس من حوله، يفرح لفرحتهم، ويسارع لإسعادهم، كل هذه المعاني يقول عنها الكاتب بعبارات جزلة: «خرجت سنوات العمر الفائت عبثًا تفر مع الرياح.. خلف طائر النورس الوحيد. هرول راكضًا ليصعد درجات السلَّم المنتصب. تجرد من ملابسه وقفز إلى الأعماق الباردة». (ص21)، في إشارة واضحة إلى انتقاله من حالة الاختناق والوحدة التي كان يعاني منهما، ليعود بعدها مغتسلاً متطهرًا متسقًا مع المجتمع من حوله. وعن «الموت» يقول في قصة «يوم جمعة»؛ وبكلمات موجزة، وبنبرة يشوبها الحزن والحسرة، عند سماعه بخبر وفاة صديقه «حمادة فوزي» كما كان يناديه: «عمري ثلاثون عامًا من عمره، أنا الحزين الذي خصته الأقدار بتوديع الأحباب، عند المغارب، أيام الجُمع، أين سيكون المستقر يا حسن؟» (ص57)
ثم أخيرا في قصة (زووم إن)، التي تحمل اسم المجموعة، يحدثنا الكاتب عن السينما المصرية وعشقه لأسماء بعينها تكررت في الأفلام التي سردها: بشير الديك (سكة سفر) - محمد خان (الحريف - طائر على الطريق) - عاطف الطيب (سواق الأتوبيس - الغيرة القاتلة - الهروب) - خيري بشارة (آيس كريم في جليم)، والتي كان يرى من خلال مشاهدته لهذه الأفلام وكأنه يرى نفسه في أبطالها؛ بكل معاناتهم وإحباطهم.
وفي الختام وفي جملة بليغة، كأنها وقفة مع النفس، يلخص مشوار حياته الطويل وذكرياته ونظرته إلى المستقبل المجهول، قائلا: «آن للحكواتي، ابن عصره وكل العصور قاطبة، أن يفتش في أدراج رياح التحول، بعيدًا عن كابوسية (كافكا) وعبث بوتزاني في (صحراء التتار)، وغنوة ذرياب في حديقة حلمه المجهض، وصوت إيقاع بشارف (حادي الجمال) وهو يدون أثره على الرمال، منصتًا لصوت الأيام في البرية، ذارفًا دمعة أخيرة متحجرة على سريان التلون الميلودي المخترق أذنيه وهو يراقب محطات عمره من أعلى سطح القطار المتجهم الذاهب للمجهول». (ص76)
فضاء الذكريات والانكسارات خلال مسيرة 4 عقود
حسين عبد الرحيم يأخذ السينما لعباءة السرد في مجموعته «زووم إن»
فضاء الذكريات والانكسارات خلال مسيرة 4 عقود
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة