لطالما اتخذ الدكتور صلاح الأنصاري على عاتقه مسؤولية مقاومة الفكر المتطرف. وحرص الداعية المصري من خلال خطبه في مساجد بريطانيا، وعلى رأسها مسجد بالمرز غرين، ومن خلال عمله محاضرًا للدراسات الإسلامية في جامعة لندن، نشر هذا الخطاب التوفيقي الفتيل بين القيم الإسلامية والحضارة الغربية وتسليط الضوء على الوئام بينهما. وبعد مسيرة بدأت من قلب جامعة الأزهر بمصر، جرى ابتعاث الشيخ إلى بريطانيا من قبل وزارة الأوقاف المصرية. وثبت الدكتور الأنصاري قدميه أخيرًا في مؤسسة «كويليام» البريطانية لمكافحة التطرف ليصبح من محاربي الإرهاب والفكر البائس من الصفوف الأولى، إلا أن التهديدات المتكررة من بعض أفراد الجالية المسلمة أجبرت الأنصاري على التنازل عن منصبة كإمام والتركيز على عمله بالمؤسسة ككبير الباحثين في المواد الإسلامية المعاصرة.
«الشرق الأوسط» التقت الأنصاري في مقر مؤسسة «كويليام» لمكافحة التطرف بالعاصمة البريطانية وحول قراره للانضمام لها قال إنها «لفتت انتباهي منذ نشأتها بعد تفجيرات لندن في السابع من يوليو (تموز) 2005، وجذبتني بالدراسات الأكاديمية المتعلقة بأحوال المسلمين الخاصة بالتطرف والجماعات الإسلامية بصفة خاصة». وأضاف: «كان من بين الكتب الأوائل التي صدرت في ذلك الوقت هو كتابي مؤسسي كويليام ماجد نواز وإيد حسين: كتاب نواز (راديكال) تكلم عن التطرف، أما كتاب إيد حسين تكلم عن فكر الجماعات الإسلاموية». ومن ثم تم ترشيحه للعمل كباحث في مجال الدراسات الإسلامية ومكافحة التطرف وقبل الوظيفة.
ولكن فور إعلان الأنصاري الالتحاق بكويليام اشتعلت حملة شعواء في الإنترنت ومنابر التواصل الاجتماعي وانهمرت اتصالات هاتفية لمسجد بالمرز غرين، الذي يؤم به، تغلغلت فيها تهديدات. ووصلت إلى حد التكفير، بحسب الإمام السابق.
وقال موضحًا: «في نظر البعض أصبحت مرتدًا وبناء على تلك التهديدات التي قد تولد خطرًا علي وعلى عائلتي، قررت الانسحاب من هذا المشهد». ونوه الأنصاري بأن مؤسسي المسجد ومجلس الأمناء رحبوا بقرار انضمامه للمؤسسة، وطلبوا منه الاستمرار بوظيفته كإمام بالمسجد الذي يعتبر معتدلاً ويتبع المنهج الوسطي، إلا أن التهديدات من خارج إطار المؤسسين ومن قبل بعض مرتادي المسجد أجبروه على الانسحاب.
وعن عمله في مؤسسة مكافحة التطرف، قال الأنصاري إن دوره الأساسي سيكون كبير الباحثين في المواد الإسلامية المعاصرة والمشاركة في الندوات والحوارات البحثية داخل وخارج المملكة المتحدة والتواصل مع الإعلام والجمعيات الإسلامية. والجامعات والمدارس، إلى جانب التعاون مع السجون في بريطانيا بعض الأحيان. ومن خلال تعليمه الأزهري من بداية أيام الدراسة الإعدادية وحتى الدراسة الجامعية التي تلته رتبة الماجستير والدكتوراه في الدراسات الإسلامية والتخصص بمجال التوفيق بين الإسلام والحداثة في فكر الشيخ محمد أبو زهراء أحد أعلام ورواد التجديد في القرن العشرين، سيكون بمقدور الأنصاري الإضافة والإثراء لبحوث كويليام. وحول هذا، قال: «الخلفية الإسلامية والخبرة التي اكتسبتها في العمل مع المسلمين في خلال العشر سنوات في المركز الإسلامي البريطاني وفي مساجد أخرى في أماكن متفرقة بالمملكة المتحدة ستمكنني من تقديم نموذج يسهم في محاربة التطرف عن طريق العودة إلى أصول الفقه والاجتهاد، إلى جانب النظر للنصوص الجزئية في إطار القواعد الكلية ومقاصد الشريعة، وفي إطار السياق الاجتماعي الحضاري، وخصوصًا حقوق الإنسان ومفهوم المواطنة، الذي هو أساس التجديد لأنه هو سياق تفسير الإسلام المعاصر». وأضاف شارحًا: «لا بد من إعادة النظر في هذه التفسيرات مرة، فبالتالي كثير من النصوص يحتاج المسلم إلى أن يعيد النظر فيها في إطار حقوق الإنسان والسياق الحضاري الحديث».
إلى ذلك، اعتبر الدكتور المصري أن منهج الإسلام المعتدل هو أحد أهم مفاتيح محاربة التطرف في بريطانيا اليوم وقال إن «جزءًا معقدًا من مشكلة التطرف هو الجانب الآيديولوجي وهي مشكلة فكرية بالأساس». ووفقا للأنصاري فإن «الخطاب المعتدل الذي ينطلق من منطلقات إسلامية بحتة سوف يساعد في محاربة التطرف، ولكن لا بد أن يعتمد على الأصول الشرعية وليس من خارجها».
ومن المقرر أن يوظف الأنصاري تلك المبادئ من خلال الأبحاث لتقديم أفكار تنقد وتهاجم الأفكار المتطرفة وتقدم خطابًا بديلاً وتبين الضعف والتناقض هذا الخطاب المتطرف. وأكد أنه سيواظب على التواصل مع أبناء الجالية المسلمة في الجامعات والمدارس. ومن الممكن أيضًا تنظيم مناظرات مع رموز أصحاب الخطاب المتطرف لفضح مخططهم وضعف منهجهم.
في سياق متصل، اتفق الأنصاري على أن بعض خطب المساجد في بريطانيا تميل لخطاب عدائي قد يؤول للتطرف. إذ قال: «بعض الخطب في بريطانيا وخصوصًا ما بين التيارات الإسلاموية لا يمكن وصفها بأنها تدعو إلى العنف مباشرة لكن من شأنها وفي فترة من الفترات أن تؤدي للعنف». وأضاف: «خطابها يدعو للانعزالية والشعور بالفخر واحتقار وأغلبها وعظي لا يمثل ولا يقدم أي معنى أو قيمة حضارية أو معنى ثقافي يتسق مع الحاضر الذي نعيشه». وعلل السبب بأن «الإمام نفسه عاجز عن تقديم حلول لأن تقديم الحلول يأتي عن طريق البحث والقراءة والتفاعل والاحتكاك وفرضية إعادة تفسير النصوص. أما إن ورث الإنسان تفاسير معينة لنصوص بعينها ويكررها فلا جدوى من ورائها».
وحول مقترح توحيد الخطب في مساجد البلاد للحد من هذه المشكلة قال إن «موضوع توحيد الخطب الدينية في إطار دولة علمانية حديثة كبريطانيا تقف على المسافة نفسها من كل الأديان يصعب تطبيقه على أرض الواقع». وأضاف: «ليس هنالك في بريطانيا وزارة أوقاف لتوحيد الخطاب وهنا يبات هذا الأمر صعبًا». ورأى الأنصاري أن الحل يكمن «بتقديم توعية وتدريب للأئمة في تطوير خطابهم الديني ليتواكب مع العصر الحديث، بعيدا عن البؤس والتطرف».
وعن مثاله الأعلى في الدعوة قال الأنصاري إنه «في الوقت الحالي برأيي الشيخ الشعراوي يقدم رسالة روحانية ممتازة ولكنني أختلف مع القرضاوي جملة وتفصيلا». وشرح بقوله إن «الخطاب الذي نرنو إليه لا يمثله طرف دعوي حاليًا، وجزئيا الشيخ محمد عبده أحد النماذج المجددة في بداية القرن التاسع عشر، ولكن أيضًا لا بد من نقله لتفسيراته. الأقرب لروحه هو الشيخ عبد الله بن بيه».
وأكد الأنصاري في حديثه أن توافد الشباب البريطانيين لسوريا والعراق للالتحاق بتنظيم داعش الإرهابي بات «مأساة نعايشها اليوم ومن أهم مسبباتها الخطاب البائس». ولمحاربة هذا الخطاب يخطط الداعية من خلال عمله مع كويليام أن يعيد تصحيح هذه الصورة الذهنية لمفهوم الدولة بالأخص.
واعتبر الأنصاري مقترح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الأخير للعائلات المسلمة حول مراقبة أبنائهم إذا ابدوا أية قابلية للانسياق للتطرف، وحتى التبليغ عنهم للسلطات، واجبًا أخلاقيًا على كل مسلم. وشرح بقوله: «التطرف مثل المرض هو عرض فكري مثله مثل الفيروس لا أعراض، ويمكن علاجه بالانتباه والتنبه لعلاماته». واستطرد: «لا يعني هذا التجسس على الأبناء، بل مساعدتهم لعدم الانزلاق في فخ التطرف الخطر لعيهم وعلى أسرتهم». وينهي كلامه بالاستشهاد بالآيات الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين»، يعني أن الله يدعو الإنسان لاتخاذ موقف العدل ولو كان هذا الشخص هو الأقرب إليه ما دام يرتكب أعمال ظلم، وبهذا يجوز الوقوف ضده.
داعية مصري في قلب مكافحة الإرهاب بلندن
الأنصاري لـ {الشرق الأوسط}: منهج الإسلام المعتدل أحد أهم مفاتيح محاربة التطرف في بريطانيا اليوم
داعية مصري في قلب مكافحة الإرهاب بلندن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة