ألبرتو جياكوميتي.. بطولة الحياة اليومية العادية

«ناشونال بورتريت غاليري» في لندن يعرض وجهه الآخر

بورتريه من المعرض


تمثال من المعرض
بورتريه من المعرض تمثال من المعرض
TT

ألبرتو جياكوميتي.. بطولة الحياة اليومية العادية

بورتريه من المعرض


تمثال من المعرض
بورتريه من المعرض تمثال من المعرض

عام 1919 سأل جيوفاني جياكوميتي الرسام السويسري «ما بعد الانطباعي» ابنه البكر ألبرتو «هل تريد أن تصبح رسامًا؟» كان جواب ابنه سؤالاً أيضا، لنفسه وليس لأبيه «رسامًا أم نحاتًا؟».
ميزة المعرض الذي أقامه ناشونال بورتريت غاليري في لندن وبعنوان (الحضور النقي) أنه لا يروي بأسلوب أكاديمي جاف السيرة الفنية لألبرتو جياكوميتي الذي يعد أهم نحاتي القرن العشرين، وكأن الفنان يعيش في عزلة، أو كأن الإبداع الفني لعبة فلسفية سامية بعيدة عن الواقع. وعبر هذا المنظور فإن الزائر سوف يعي أن جياكوميتي بدأ مشواره الفني كواحد من السرياليين أمثال آندريه بريتون، خوان ميرو، بيكاسو، وماكس إرنست الذين تعرض صورهم الشخصية مع جياكوميتي في القاعة الثانية من المعرض المخصصة للصور الفوتوغرافية، لكن جياكوميتي رفض الأفكار السريالية لاحقا وتبنى الأسلوب الرمزي، رغم أنه أبدع منحوتات سريالية مدهشة مثل عمله النحتي المروع (امرأة محزوزة الرقبة/ 1932).
الزائر لهذا المعرض لن يعثر على منحوتات جياكوميتي السريالية أو المرعبة، لكنه سيكتشف وجهًا آخر لهذا الفنان، وقصة أخرى لا تركز على مرحلة باريس التي كان جياكوميتي أبرز رموزها الفنية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية. هذا المعرض يروي سيرة علاقته الحميمة مع أمه وأبيه وإخوانه وزوجته وأصدقائه.
في القاعة الأولى يُعرض أول تمثال له وهو رأس برونزي لأخيه دييغو، نحته حين كان في الثالثة عشرة من عمره. وخلال أربعة عقود سيستمر جياكوميتي بنحت تماثيل لأخيه، ويعرض التمثال النصفي المذهل لدييغو 1955 في القاعة الأخيرة من المعرض، حيث يضع جياكوميتي رأسًا حادًا رقيقًا فوق جزء علوي لجسم نحيل أيضا، لكنه يستعمل الزوايا المضادة في هذا العمل، فالزائر إما سيرى وجهًا بملامح كاملة فوق أكتاف مسطحة أو وجهًا حادًا مثل شفرة سكين فوق أسطوانة الصدر البرونزية الكبيرة. قد يثير هذا العمل الضحك وأيضا قد يثير السؤال والغور في لغز تضاد الزوايا هذا. لا يمكن أن يُختزل فنان ما في عمل واحد لكن جياكوميتي كان يرسم ويخطط وينحت تماثيل لأخيه دييغو طوال حياته كأنه أراد أن يقبض على كينونة أخيه الإنسانية، لكنه كلما شعر بالعجز (أو هكذا خيل إليه) يستمر في نحت ورسم دييغو مرارا وتكرارًا، فالإنسان عصي على التوصيف.
في سنواته الأخيرة 1960 - 1965 كان ألبرتو جياكوميتي مهووسا برسم حبيبته الشابة المتمردة (إيفون بويرادو) التي أطلق عليها في لوحاته اسم كارولين. وعاشت كارولين وسط المجتمع الوجودي والبوهيمي الباريسي مع بائعات الهوى وعصابات الاحتيال والسرقة وموجة السينما الجديدة.
عُلقت لوحات كارولين التي تبدو للزائر كأنها أثرية، مع بعضها في القاعة الأخيرة للمعرض، وتبدو ملامح كارولين كأنها منسوجة بخطوط الفرشاة مثل شبكة عنكبوتية تتدلى منها خيوط متموجة من البني والرمادي، كارولين التي أنقذها جياكوميتي الذي كان في أوج شهرته الفنية حينئذ، من السجن بتهمة السرقة، ولم يتوقف عند هذا الحد بل أسبغ عليها بلوحاته كبرياء وأنفة وصورها كأنها أميرة تائهة في الدهر، أو كأنها ملكة فرعونية مجهولة، كارولين تلك الفتاة المشردة المنسية أخذت مكانها في الخلود مثل المومياء المصرية المحفوظة جيدا عن التحلل، كصورة ورمز مهيب للغز البقاء الذي لا بديل للإنسان عنه.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا مقبرة طازجة لا تزال تربتها هشة من دفن الموتى والأنقاض التي خلفتها الحرب، وفي باريس تحديدا، كان جياكوميتي الفنان الوحيد الذي وجد شيئًا جديدًا لكي يقوله يوازي رعب الموت والفناء، وعبر بفنه عن جسامة الحدث الذي تعرضت له أوروبا في الحرب الثانية. لقد حفر فن جياكوميتي المختلف جوهر الإنسان، بدائيته وغريزته النيئة، ببديهية بسيطة جدا لكنها حيوية ومدهشة، هذه الحيوية الإنسانية المتجلية في منحوتات ألبرتو جياكوميتي، أصبحت بعد سنوات الخراب والحرب تلك، صورة جديدة للأمل المنشود، كأنها فرصة نحيلة أخيرة للنجاة.
من أهم الأعمال المعروضة أيضًا هو تمثال المرأة الطويلة النحيلة المصبوبة من البرونز من مجسم طيني مضفور بخشونة، هذا التمثال الذي فار بمسابقة بينالي فينسيا 1956 والذي لفت الإنتباه لجياكوميتي كفنان مجدد، تقف كأنها تتضرع للسماء بسكون أزلي في مواجهة الزائرين المتفرسين بها من جميع جهاتها.
يكاد لا يخلو متحف من متاحف الفن الحديث من مجسمات جياكوميتي البرونزية هذه، لكن الجميل في هذا المعرض أنه ليس تجميعًا لأعمال جياكوميتي البرونزية من متاحف العالم، بل هو معرض عن جياكوميتي الإنسان والناس الذين أثروا وأثروا بحياته وعن العاطفة والشعور بالانتماء والشغف الإنساني الذي من خلاله استطاع هذا العبقري السويسري خلق رؤيته الملتبسة للجسم البشري.
القاعة الثانية لهذا المعرض خُصصت للفوتوغراف، صورة للبيت الكبير على قمة التل في منطقة الألباين السويسرية، حيث الذي ولد جياكوميتي عام 1901 وتربى وحيث سيعود دائمًا لهذا البيت، صورة أخرى تجمعه بوالديه وأخويه وأخته وهو طفل، صورة لمشغله في باريس قبل الحرب وصورة أخرى تجمعه مع السرياليين. صورة لأمه (أنيت) التي ربطته بها عاطفة قوية جالسة وسط مشغله، كما فعل مع أخيه دييغو، لم يكف جياكوميتي عن رسم ونحت أمه التي أحبها جدا طوال حياته، في البورتريت الذي رسمه لها عام 1947 تبدو كأنها تضمحل وتتلاشى وتنزلق بعيدا عنه إلى عالم غابر، هيئة شبحية وسط محيط من ظلال نحاسية كأنه تنبأ بموتها في هذه اللوحة، وهناك صورة زواجه من موديله وحبيبته (أنيت آرم) عام 1946، صورة أخرى مع عشيقته الباريسية كارولين عام 1962.
فرصة نادرة أتاحتها إدارة ناشونال بوتريت غاليري، للزائر كي يشاهد أعمال ألبرتو جياكوميتي الأولى، منحوتاته الأولى متأثرة بفنان عصر النهضة الإيطالي (دوناتلو 1386 - 1466)، حيث شاهد جياكوميتي تماثيله في زيارة له إلى فلورنسا عام 1920، أما لوحاته الأولى فهي بلا شك متأثرة بأسلوب أبيه الذي ينتمي إلى مرحلة ما بعد الانطباعية.
هذا المعرض يقربنا من جياكوميتي الإنسان بعيدا عن رواد الصرعات الفنية البوهيميين الذين عكس فنهم أفكارهم الباريسية في بداية القرن العشرين. جياكوميتي كان وثيق الارتباط بعائلته، كان يعود دائما إلى سويسرا وإلى البيت الذي ولد فيه، ودائما يرسم اللوحات تلو اللوحات لأفراد عائلته ولأصدقائه مثل الشاعر اليساري لوريس أراغون والكاتب البوهيمي جان جينيه.
كأنه كان مهووسا بعمل فني بسيط جدا وهو تدوين ملامح الناس القريبين عليه، هذا الهوس يجري كنهر من الأعمال الفنية عبر هذا المعرض ومن قاعة إلى أخرى. ليس مهما إذا كان جياكوميتي ينحت تمثالا نصفيا لأبيه الملتحي أو يرسم وجه أخيه الشهواني والصارم في آن واحد. إنه لا يستخدم موديله كأداة لاستعراض إمكانياته الفنية، هو بكل بساطة يحاول أن يكون محايدا وعقلانيًا، وينحاز لفنه فقط.
كأنه كان يملك إيمانًا أو قناعة ما بالشخص موضوع اللوحة أو النحت، ومن هذا الإيمان فإنه يُبدع نوعا من البطولة العادية اليومية. غرابة ورفعة أعماله الفنية تسري في المتلقي كلما أطال النظر في المنحوتات البرونزية التي تبدو سخيفة عمدا مثل تمثال الجزء العلوي البرونزي لموديله وزوجته أنيت.
جياكوميتي يعطي فنه حقه، كما يجب بلا مبالغات أو تقليل شأن بإخلاص وتجرد، وبلا شك فهو مبدع أكثر المجسمات البرونزية صدقا خلال 75 سنة الماضية، وهذه الاستعادة الحميمة لجياكوميتي الإنسان والفنان صاحب البصمة المتفردة في فن النحت هي فرصة نادرة للجمهور البريطاني.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.