في العام الماضي، حصل أرديم باتابوتيان على وشمٍ خاص، إذ رسم أحد الفنانين شريطاً متشابكاً على ذراعه اليمنى يُجسّد رسماً تخطيطياً لبروتين يُسمّى «بيزو». وكان باتابوتيان، عالم الأعصاب في معهد سكريبس للأبحاث في سان دييغو، قد اكتشف هذا البروتين عام 2010، وفاز عام 2021 بجائزة نوبل عن هذا الاكتشاف. وبعد 3 أعوام، قرّر تخليد ذكرى «بيزو» عبر هذا الوشم.
واكتشف باتابوتيان أن «بيزو» يسمح للنهايات العصبية في الجلد بالشعور بالضغط، ما يساعد على خلق حاسة اللمس. وهو يتذكر قائلاً: «كان من المذهل الشعور بالإبرة وهي تحفر بروتين (بيزو) الذي كنت أستخدمه للشعور به»، أي بعمله.
«الإدراك الداخلي»... الحاسة الداخلية «السادسة»
لم يعد باتابوتيان يدرس كيف يُخبرنا «بيزو» (Piezo) عن العالم الخارجي ومؤثراته، وبدلاً من ذلك، اتجه إلى الداخل لدراسة تدفق الإشارات التي تنتقل من داخل الجسم إلى الدماغ. ويُعد بحثه جزءاً من جهد جديد وكبير لرسم خريطة لهذه الحاسة السادسة، الحاسة الداخلية، المعروفة باسم «الإدراك الداخلي» أو «الحسّ الداخلي» (interoception).
ويكتشف العلماء أن الحس الداخلي يزود الدماغ بصورة غنية للغاية عمّا يحدث في جميع أنحاء الجسم، وهي صورة غالباً ما تكون خافية عن وعينا.
تشكيل العواطف والسلوك... والاضطرابات
تُشكل هذه الحاسة الداخلية عواطفنا وسلوكنا وقراراتنا، وحتى طريقة شعورنا بالمرض عند الإصابة بنزلات البرد. وتُشير كمية متزايدة من الأبحاث إلى أن العديد من الحالات النفسية، بدءاً من اضطرابات القلق، وصولاً إلى الاكتئاب، قد تكون ناجمة جزئياً عن أخطاء في إدراكنا لبيئتنا الداخلية.
قد يصبح من الممكن يوماً ما علاج هذه الحالات، من خلال إعادة ضبط حاسة الشخص الداخلية، لكن أولاً، كما قال باتابوتيان، يحتاج العلماء إلى فهم راسخ لكيفية عمل الإدراك الداخلي. وأضاف «لقد تعودنا على جسدنا».
دراسة الإدراك الداخلي
لدى كل شخص وعي أساسي بالإدراك الداخلي، سواء أكان شعوراً بتسارع دقات قلبك، أم امتلاء مثانتك، أم شعوراً بالخفقان في معدتك. ولطالما اعترف علماء الأعصاب بالإدراك الداخلي بوصفه إحدى وظائف الجهاز العصبي.
ويمتلك العلماء الآن أدوات فعّالة لدراسة الإدراك الداخلي. ويقول ديفيد ليندن، عالم الأعصاب في جامعة جونز هوبكنز، الذي يُؤلّف كتاباً عن الإدراك الداخلي: «في السنوات الخمس الماضية فقط، حُلّت ألغاز جوهرية ظلّت قائمة منذ مائة عام».
وعلى سبيل المثال، ولدراسة بروتين «بيزو» داخل الجسم، قام باتابوتيان وزملاؤه بإدخال فيروسات مُعدّلة وراثياً في عضو لفأر؛ حيث تدخل الفيروسات النهايات العصبية التي تُسبب توهج الخلايا العصبية في العضو. وقد كشف الفحص الدقيق عن أن النهايات العصبية تستخدم بروتينات «بيزو» للكشف عن تغيرات الضغط في العديد من الأعضاء.
استشعار الضغط في كل أعضاء الجسم
ويقول باتابوتيان: «يوجد استشعار الضغط في كل مكان في الجسم». ففي الشريان الأورطي، على سبيل المثال، تستشعر بروتينات «بيزو» ضغط الدم، وفي الرئتين تُسجّل كل نفس شهيق. كما تستشعر تمدد المثانة عند امتلائها بالبول.
وتنتمي العديد من النهايات العصبية المليئة بالبروتينات الكهروكيميائية إلى العصب المبهم، وهو سلك من 100000 خلية عصبية يتسلل إلى العديد من الأعضاء. ويستشعر العصب المبهم الضغط، ولكنه يحتوي أيضاً على مستقبلات تسجل تغيّرات أخرى، مثل تقلبات درجة الحرارة والحموضة. في الأمعاء، يستشعر العصب المبهم جزيئات السكر والدهون في الطعام الذي نتناوله، حتى بعض العناصر الغذائية المحددة، مثل الزنك.
وعندما نستنشق مثلاً، فان البروتينات الكهروكيميائية تستشعر تمدد رئتينا. إلا أن الدماغ يستجيب لذلك بمنع الاستنشاق لئلا يؤدي إلى تمدد بطانة الرئتين الرقيقة. أما إذا اكتشف العصب المبهم وجود سم في أمعائنا، فيمكنه إرسال إشارة إلى الدماغ تؤدي سريعاً إلى التقيؤ.
في أي لحظة، يقوم الدماغ بغربلة ودمج الإشارات من جميع أنحاء الجسم الداخلية. كيف يفعل ذلك، وماذا يفعل بهذه المعلومات، لا يزال غامضاً إلى حد كبير. وقال ليندن: «إنه أمرٌ مُرهِقٌ حقاً، وفهمنا للأمر ضعيفٌ جداً في الوقت الحالي».
الإحساس الداخلي بالمرض... بفضل الدماغ
وأخيراً، أحرز العلم تقدماً في حل لغزٍ واحد على الأقل: كيف يُشعرنا الإحساس الداخلي بالمرض. وقالت كاثرين دولاك، عالمة الأعصاب في جامعة هارفارد التي تدرس المرض: «عندما تشعر بالمرض، تفقد طاقتك، وتفقد شهيتك، وتشعر بتوعك، وتقول: (يا إلهي، هذا جرثومةٌ مزعجة تُسبب لي المرض)... ويتضح أن الدماغ هو مَن يفعل ذلك بك».
في الواقع، يُراقب الدماغ الجسم باستمرار بحثاً عن علامات العدوى. عندما يصطدم مُسبب المرض بنهايات عصبية مُبهمة مُعينة، فإنها تُرسل إشارات إلى الدماغ. وتستطيع النهايات العصبية الأخرى التعرّف على إشارات الإنذار التي تُرسلها الخلايا المناعية لبعضها. ثم يُكوّن الدماغ تصوراتٍ ذهنيةً لهذه العدوى، ويستخدمها لمُقاومتها. قد يرفع ذلك درجة حرارة الجسم، ما يُمكّن الخلايا المناعية من مُحاربة الجراثيم بفاعلية أكبر. وقد يُوقف دورة النوم والاستيقاظ مؤقتاً، مُبقياً إياك في السرير للحفاظ على طاقتك، بل يمكنه إرسال إشارات تُغيّر هجوم الجهاز المناعي على مسببات الأمراض -تكثيف الهجوم هنا، وكبحه هناك- لتقليل الأضرار الجانبية.
لكن الدماغ لا يكتفي بالتفاعل مع الإحساس الداخلي؛ فهو يتعلّم من هذا الإحساس الداخلي، ثم يُقدّم تنبؤات تُحسّن فرص بقائنا.
وقالت كاميلا نورد، عالِمة الأعصاب في جامعة كامبردج: «نحن لا نريد فقط معرفة اللحظة التي ينفد فيها الأكسجين؛ بل نريد أن نعرف متى سيبدأ النفاد... إننا نرغب في امتلاك حاسّة استباقية».
الخلايا الحسّية تتفاعل مع الدماغ
عندما تأكل شيئاً جديداً، على سبيل المثال، تُخبر الخلايا الحسية في أمعائك دماغك ما إذا كان الطعام مصدراً جيداً للمغذيات، وهذه المعلومات قد تُولّد رغبة في تناول مزيد منه في المستقبل. وبالمثل، تُعلّم إشارات المرض الداخلي الدماغ توقع أمراض لم تبدأ بعد. كما أن مجرد رؤية شخص مريض قد يكون كافياً لتحفيز دماغ المُشاهد على تعزيز جهاز المناعة.
الإدراك الداخلي والاضطرابات المَرضية
وعلى الرغم من أهمية الإدراك الداخلي لبقائنا، يُشتبه نورد وباحثون آخرون في أنه مسؤول أيضاً عن عدد من الاضطرابات، فإذا أساء الدماغ تفسير إشارات الجسم، أو إذا كانت هذه الإشارات خاطئة، فقد يُرسل الدماغ أوامر تُسبب الضرر.
ويتزايد اعتقاد الباحثين بإمكانية علاج بعض الاضطرابات النفسية مثل اضطرابات أساسها الحس الداخلي. وتُشير أدوية إنقاص الوزن، مثل أوزيمبيك، بالفعل إلى مدى فاعلية هذا النوع من العلاج، إذ إن هذه الأدوية المعروفة باسم أدوية «GLP-1»، تُحاكي الإشارات التي تُرسلها الأمعاء إلى الدماغ عند تناول الطعام، ما يؤدي إلى فقدان الشهية.
وبالإضافة إلى محاكاة إشارات الجسم، قد يستلزم علاج اضطراب الإدراك الداخلي إعادة ضبط مناطق الدماغ لتفسير الإشارات بشكل مختلف.
أطلس الإدراك الداخلي
لكن باتابوتيان حذّر من صعوبة تحويل الإدراك الداخلي إلى أدوات يمكن التحكم بها قبل أن يتم فهمه بشكل أفضل. ويأمل هو وزملاؤه في مركز «سكريبس» للأبحاث أن يوفّروا أساساً لهذه التطورات، من خلال إنشاء أطلس للإدراك الداخلي في جميع أنحاء الجسم.
وفي اكتشاف حديث، وجدوا أن الدهون مخترقة بنهايات عصبية تستشعر الضغط باستخدام بروتينات «بيزو».
وقال باتابوتيان: «يبدو أن الأمر مهم هنا، لكننا ما زلنا لا نعرف ما الذي تستشعره؟ هل عندما تنمو الدهون، تصبح أكثر كثافة وتزيد الضغط على الأعصاب؟ هل عندما تنمو الدهون، يزداد تدفق الدم، وهذا ما يتم استشعاره؟ ببساطة، لا نعرف الإجابة».
يأمل باتابوتيان أن يساعد أطلسه للإدراك الداخلي العلماء على فهم أعمق لما تستشعره أعصابنا، ليس فقط في الدهون، بل في جميع أنحاء أجسامنا.
* خدمة «نيويورك تايمز».

