هل عاشت غولدا مائير علاقة عاطفية مع عربي؟

رواية «العشيق الفلسطيني» تبني على أسطورة ارتباطها بالفلسطيني ألبرت فرعون

هل عاشت غولدا مائير علاقة عاطفية مع عربي؟
TT

هل عاشت غولدا مائير علاقة عاطفية مع عربي؟

هل عاشت غولدا مائير علاقة عاطفية مع عربي؟

عمل سليم نصيب مؤلف هذه الرواية مراسلاً لصحيفة ليبراسيون الفرنسية خلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان، وقد صدرت بنسختها الإنجليزية المترجمة عام 2007 عن دار «يوروب إيديشينز» ولا أستبعد أن يكون للمترجمة أليسون أندرسون دور في تحقيق انتشار هذه النسخة في العالم الأنجلو-ساكسوني انتشاراً واسعاً، أكثر مما حققته النسخة الفرنسية الأصلية بفضل جزالة لغتها وكثافة جملتها، وبالطبع لصغرها من حيث الحجم فعدد صفحاتها لا يتجاوز المائة والستين، رغم أنها تتناول تاريخاً يمتد ربع قرن تأسست في آخره دولة إسرائيل عام 1948. وفي إعلان «الاستقلال» الذي وقعه 37 شخصية كانت نسبة اليهود القادمين من «روسيا القيصرية» (التي كانت تضم أيضاً أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا) تزيد على التسعين في المائة.

في الروايات المعنية بالسيرة أو التاريخ المعاصر، قد ينطبق عليها أيضاً رأي كارل ماركس القائل إن التاريخ لا يكرر نفسه، وإذا حدث ذلك فإنه سيكون في المرة الأولى تراجيدياً وفي المرة الثانية مهزلة.

فالروائي يتعقب حياة أفراد غادروا عالمنا، ويسعى لإقناعنا بأن النسخة التي يقدمها لنا عنهم سواء فيما قالوه أو فعلوه سراً أو علانية هي فعلاً مطابقة لحياتهم.

سليم نسيب

مع ذلك، فالقارئ قد ينشدّ إلى الرواية إذا استطاع كاتبها إقناعنا بأنه كان محايداً في عرضه، وحقق لنا عبر أسلوبه السردي إمتاعاً يجعلنا مقتنعين بأن واقع الأحداث الأصلي ليس بعيداً عن نسخته.

في هذه الرواية اتبع الروائي سليم نصيب ثلاث تقنيات لتحقيق هذا الهدف: شدّ القارئ حتى الانتهاء منها، من دون الاهتمام بما سيترك من انطباعات في نفسه لاحقاً.

التقنية الأولى استخدام الفعل المضارع في السرد الروائي بدلاً من الفعل الماضي كما هو الحال مع معظم الروايات المكتوبة باللغات الأوروبية، وهذا ما جعل القارئ يتابع أحداثها وكأن ما يقرأه هو سيناريو حولته اللغة الأنيقة المكثفة إلى فيلم تتشكل صوره في المخيلة بعد تحول الكلمات إلى صور.

التقنية الثانية التي ترتبت عن الأولى هي تجنب نقل ما كان يحدث خلال تلك الفترة داخل فلسطين عبر السرد الروائي، وذلك باستخدام الحوار كي يؤدي هذه المهمة، وهنا أصبح الحوار في الكثير من أجزائه مثقلاً بأعباء القص والتنظير والتذكر وتداعي الخواطر، مما جعلته هذه التقنية فاقداً لصفة أساسية فيه، ألا وهي مصداقيته.

لا يمكن استبعاد أن جوهر الحكاية التي نمت حولها رواية «العشيق الفلسطيني» جاءت للكاتب نصيب في هيئة إشاعة انتشرت خلال سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي في لبنان، وتناقلها الأبناء جيلاً بعد جيل.

ففي المقدمة القصيرة التي تصدرت الكتاب أشار الروائي إلى صداقته بفؤاد خوري حفيد الأرستقراطي الفلسطيني الأصل ألبرت فرعون، بطل هذه الرواية، وأشار كذلك إلى مصدر آخر هو نينا، ابنة أخت الأخير، التي أُجبرت في سن مبكرة على الزواج من مصري، وانتقلت بذلك للقاهرة. أما المصادر الإسرائيلية (وبالطبع ساعدت هوية نصيب على التنقل بسهولة داخل إسرائيل فهو نفسه من أصول يهودية حلبية) فلم تشر إلى أي علاقة عاطفية عاشتها غولدا مائير مع عربي، رغم أن كتّاب سيرتها أكدوا خوضها أكثر من علاقة جانبية خلال سنوات ارتباطها بزوجها موريس ميرسون.

لذلك، فإن نصيب تعامل مع مادته التي تجمع الكثير من الحقائق والإشاعات الصغيرة وكأنها «صور مقطعة» (جيكسو) عليه أن يرتبها كي تتكون صورة واحدة موحدة هي نص روايته «العشيق الفلسطيني».

يمكن تقسيم هذه الرواية لأجزاء: الأول يضم أول ستة فصول، وفيها نتعرف على حياة الشاب الأرستقراطي ألبرت فرعون، الذي يعيش في بيروت ويدير بنكاً عائلياً في حيفا، وعلى حياة غولدا مائير، وبنت أخته نينا (التي ستكون كاتمة أسراره لاحقاً)، والقليل عن أفراد أسرته: زوجته آيرين وأخته مارسيل وزوجها الماركيز الكسول جاك دو كرَيْم.

في هذه الفصول الستة الأولى: انتقل ألبرت فرعون إلى حيفا قاطعاً كل صلاته بزوجته وولديه وأخته، حيث أقام في بيت ورثه يطل على البحر. ولعل إجبار ابنة أخته ذات السبعة عشر عاماً على الزواج من كهل مصري ثري كان المحفز على قراره، لكنه كان شديد الملل من زوجته آيرين والجو العائلي الخانق بتصنعه ونفاقه.

في المقابل، نجد غولدا وقد اضطرت إلى ترك الكيبوتز ميرهافيا لمرض زوجها موريس الناجم عن ظروف الإقامة القاسية هناك وانتقالهما إلى القدس، لكنها وبعد إنجاب طفلين شعرت بأن حياتها انحرفت عما أرادت تحقيقه منذ كانت في سن العاشرة: بناء وطن لليهود فقط في فلسطين. لقد أيقظ الشاعر زلمان شازار خلال الاحتفال بعيد العمال عام 1928 هذا الميل الذي خبا لديها بسبب التزاماتها الأسرية للمساهمة الفعالة في تحقيق هذا الحلم بعيد المنال آنذاك: دولة لليهود فقط لا مكان فيها للسكان الأصليين بينهم. تستمع غولدا لخطابه الذي قدمه بطريقة مسرحية مؤثرة أمام أولئك المهاجرين القادم أغلبهم من بلدان روسيا القيصرية قبل ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917: «نحن اُصطفينا من بين جميع الأمم كي نكون شاهدين على وحدانية الرب، لكننا شكّكنا به فعاقبنا لألفي سنة في الشتات، لكن بالنسبة إلينا كيهود جذورنا في الرب وفي الأرض التي اختارها لنا... وإذا كانت لديكم أي شكوك اذهبوا إلى حائط المبكى في القدس، ابقوا هناك لوقت طويل. واجهوا آخِر أثر من معبد الملك سليمان. ثم إنكم لن تروه فقط، بل ستشعرون بسر الحياة الطويلة لشعبنا، لأننا شعب واحد».

سيصبح هذا الحائط أشبه بمسمار جحا. تقول غولدا لصديقها ديفيد رميز: «ذهبت إلى الحائط. أنا لا أؤمن بوجود إله، لكن الحائط حي، أستطيع التحدث معه، وإقامة علاقة معه. هذا الحائط مثل حصن ظل يحرس الأرض الموعودة لإسرائيل».

بفضل ديفيد رميز رئيس اتحاد العمال الصهيوني (الهستدروت) وتشجيعه انتقلت غولدا إلى تل أبيب تاركة أسرتها وراءها، وبفضله حصلت على عمل وسكن وتعرفت على المجموعة الصغيرة القادمة من «نطاقات الاستيطان» في «روسيا القيصرية» المخصصة لليهود إلى فلسطين.

الجزء الآخر من الرواية يضم ستة فصول تبدأ من الفصل السابع المكرس لحفل نظمه «المندوب السامي البريطاني» لفلسطين المنتدبة بمناسبة عيد ميلاد الملك جورج الخامس في القدس.

في هذا الحفل يتعرف ألبرت على غولدا التي حضرت مع المحركين الحقيقيين للماكينة الصهيونية بصفتها مترجمة لهم، فهم لا يتقنون الإنجليزية وليس لهم أواصر قوية بالعالم الأنجلو- ساكسوني بعكس غولدا التي قضت ما يقرب من 15 سنة في مدينة ميلْووكي الأميركية بعد هجرة أبيها النجار موشي مابوفيتش من كييف عام 1903، ثم التحقت أسرته به بعد ثلاث سنوات حين استقر في تلك المدينة التي أصبحت ملاذاً لليهود القادمين من روسيا القيصرية.

نتعرف كذلك خلال الحفل على طبيعة الزعامة الفلسطينية التي تديرها عائلتا الحسيني والنشاشيبي. فعند قدوم أول «مندوب سامي بريطاني» لفلسطين المنتدبة بعد الحرب العالمية الأولى عين الأخير أمين الحسيني مفتياً عاماً لكل البلاد ومنح راغب النشاشيبي سلطة بلدية القدس.

مقابل تركيز السلطة بيد أبناء هاتين العائلتين فقط، نجد توزيعاً للمسؤوليات بين أفراد قلائل في الوكالة اليهودية تقاسموا أدوارهم فيما بينهم وكان عملهم بالدرجة الأولى إنشاء البنيتين التحتية والفوقية بدأب مستميت ابتداء من شراء الأراضي بالدرجة الأولى من مالكيها اللبنانيين الذين ظنوا أنهم أصبحوا فرنسيين بعد انتداب فرنسا لبلدهم.

بالقدر الذي كان الزعماء الفلسطينيون على استعداد للقبول بدولة تضم اليهود المهاجرين كان زعماء الوكالة اليهودية رافضين تماماً لهذه الفكرة.

في هذه الفصول السبعة تنشأ علاقة حميمية سرية بين ألبرت وغولدا. كان لكل واحد منهما أسبابه في هذا الانجذاب إلى الآخر. فهي من جانب وجدت فيه خلال اللقاء الأول الذي جمعها به شبهاً كبيراً بأول شاب أحبته حين كانت في سن المراهقة، لكن غرقه قبل أن تنشأ علاقة بينهما في مدينة ميلْووكي، جعل حضوره قوياً في ذاكرتها.

أما ألبرت فقد وجد فيها شيئاً غير مألوف مقارنة بالنساء اللواتي عرفهن في حياته. نقرأ ما دار في رأسه: «تبدو قوية الإرادة وحادة لكنها في الوقت نفسه لطيفة... ليس فيها ذرة من العالم الدنيوي أو التصنع في العادات... هذه المرأة تعيش تماماً في اللحظة الحالية».

يتعقب الروائي حياة أفراد غادروا عالمنا ويسعى لإقناعنا بأن النسخة التي يقدمها لنا هي فعلاً مطابقة لحياتهم

رغم مساعي الروائي نصيب لإقناعنا بالعلاقة العاطفية السرية التي جمعت بين غولدا اليهودية والفلسطيني ألبرت، فإنها تظل في الجوهر حسية، وربما شدت هذه الفصول السبعة العديد من القراء لأنها تقترب من أن تكون حلماً غير قابل للتحقق، وبالطبع تخللتها تفاصيل عما كان يجري على الأرض من نزاعات بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود نعرف عنها من خلال حواراتهما معاً.

فحادث قتل فتى يهودي على يد أفراد أسرة فلسطينية فقيرة ظناً منهم أنه اعتدى على ابنتهم فجر المواجهات بين حركة جابوتنسكي المتطرفة التي بادرت إلى ضرب عدد كبير من المقدسيين بعصيان البيسبول، وحينما وصلت الأخبار إلى مدينة الخليل قام عدد من المشاغبين العنيفين بقتل 67 يهودياً من أبناء البلدة نفسها. بالمقابل تمكن 400 يهودي من النجاة بفضل المسلمين الذي خبأوهم في بيوتهم هناك. فيما كان الخلاف عمن يدير حائط المبكى نقطة ساخنة فجرت صراعات أخرى.

بين الفصلين الثالث عشر والتاسع عشر تفقد الرواية بريقها، بعد ما تضمنته المشاهد الحميمة الأنيقة بين خصمين لدودين وعاشقين مشدود أحدهما إلى الآخر جسدياً وروحياً. لكنها أعطت القارئ صورة مكثفة عما حدث خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، وما آلت إليه الأمور لظهور دولة كانت لحد عشر سنوات قبل عام 1948 مجرد حلم عسير المنال.

نحن هنا نواجه موجة هجرة جديدة من ألمانيا بعد صعود هتلر إلى الحكم. لكن هؤلاء المهاجرين كانوا يفضلون اعتبارهم ألماناً أولاً، بينما كان زعماء الحركة الصهيونية حريصين على اعتبارهم يهوداً أولاً وآخِراً، وهذا ما دفع الكثير منهم إما إلى السعي لتكوين دولة تضم الفلسطينيين واليهود الغربيين معاً أو مغادرة فلسطين. لكن قدومهم كان متأخراً، فالغضب الفلسطيني بلغ أوجه من الهجرات اليهودية بشكل عام خلال منتصف الثلاثينيات.

يمكن القول إن هذه الرواية أفضل شهادة بهذا النوع الأدبي وأكثرها حيادية عن فترة حاسمة في تاريخ الشعب الفلسطيني، وبالتأكيد كان العشق الذي جمع غولدا مائير وألبرت فرعون مغناطيسها الحقيقي.


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.