شباك التذاكر السعودي... السوق رقم واحد للسينما المصرية

حققت 53 مليون دولار في السعودية مقابل 23.5 مليون فقط داخل مصر

من الفيلم المصري: البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو (فيلم كلينك)⁩
من الفيلم المصري: البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو (فيلم كلينك)⁩
TT

شباك التذاكر السعودي... السوق رقم واحد للسينما المصرية

من الفيلم المصري: البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو (فيلم كلينك)⁩
من الفيلم المصري: البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو (فيلم كلينك)⁩

على مدى عقود، ارتبطت أرباح السينما المصرية بسوقها المحلي، بيد أن السنوات الأخيرة شهدت انقلاباً واضحاً في المعادلة؛ إذ أظهرت بيانات حديثة أن السعودية تحوّلت إلى السوق رقم واحد للفيلم المصري، وذلك حسب ما أظهر تقرير حول اتجاهات صناعة السينما المصرية؛ جاء عرضه ضمن فعاليات «ملتقى القاهرة السينمائي»، التي أقيمت الأسبوع الماضي.

وتؤكد البيانات أن السعودية لم تعد مجرد سوق لعرض الأفلام المصرية، بل تحوّلت إلى المحرك التجاري الأقوى لهذه الصناعة، فنجاح الفيلم المصري اليوم يُقاس بما يحققه في الرياض وجدة والدمام، أكثر مما يُقاس بما يحققه في القاهرة والإسكندرية.

وتشير بيانات التقرير الذي عرضته «فرايتي» الأميركية إلى أن الفيلم المصري يعيش اليوم مرحلتين متباينتين من النجاح: نجاح محدود داخل مصر، ونجاح كبير في الأسواق الخليجية، وفي مقدمتها شباك التذاكر السعودي، فالأفلام التي تحقق إيرادات متوسطة (داخل مصر)، تقفز في الخارج إلى أرقام ضخمة تتجاوز أحياناً 10 أضعاف ما تحققه في موطنها الأصلي.

قفزة الإيرادات الخارجية

ومن أبرز الأمثلة على هذا التحول؛ فيلم «بحبك» الذي جمع أقل من 3 ملايين دولار داخل مصر، لكنه حصد أكثر من 22 مليون دولار في الخارج، والأمر نفسه تكرر مع فيلم «ولاد رزق 3»، الذي بلغت إيراداته المحلية نحو 6 ملايين دولار فقط، بينما تجاوزت أرباحه الخارجية 22 مليون دولار، أما فيلم «وقفة رجالة»، فقد أصبح من بين أعلى الأفلام المصرية تحقيقاً للإيرادات خارج مصر، على الرغم من محدودية إيراداته الداخلية.

وتُظهر هذه الأرقام، وفق التقرير، أنها جزء من نمط متكرر يؤكد أن السوق الخارجية هي التي تحدد اليوم مصير الفيلم المصري، وليس السوق المحلي الذي يعاني أصلاً من تحديات ضعف القوة الشرائية وارتفاع تكلفة الإنتاج وتقلّبات الاقتصاد.

منى زكي في فيلم «رحلة 404» الذي عُرض العام الماضي (فيلم كلينك)

السعودية... السوق رقم واحد

كما أن البيانات التي استعرضها التقرير تكشف بوضوح عن أن السعودية أصبحت السوق الأكبر والأكثر ربحية للأفلام المصرية، فعام 2024 شهد عرض 33 فيلماً مصرياً في دور العرض السعودية، محققة أكثر من 53 مليون دولار، وهو رقم يفوق ضعف إيرادات جميع الأفلام المصرية داخل مصر خلال الفترة ذاتها، التي لم تتجاوز 23.5 مليون دولار.

وهذا التفوق اللافت جعل كثيراً من المنتجين المصريين يعيدون توجيه بوصلتهم نحو السوق السعودية، باعتبارها السوق الحقيقية التي يمكن أن يسترد فيها الفيلم تكلفته وينجح تجارياً، يُضاف لذلك أن الإنتاجات المشتركة -المصرية السعودية- تستفيد من حوافز مالية وضريبية تزيد من جاذبيتها، ومن أمثلتها فيلم «رحلة 404» الذي مثل مصر في سباق الأوسكار للأفلام الدولية.

تعافٍ مصري بطيء

ورغم هذا الازدهار الخارجي، لا يزال السوق المصري يتحرك ببطء نحو التعافي بعد تبعات جائحة كورونا، حيث ارتفع عدد التذاكر المباعة من 12 مليوناً في 2024 إلى نحو 13.8مليون تذكرة متوقع بيعها في 2025، وهي أرقام قريبة من مستويات ما قبل الجائحة، لكنها لا تعكس ازدهاراً حقيقياً، كما أن ارتفاع التضخم وتراجع قيمة الجنيه المصري أضعفا من القيمة الفعلية للإيرادات داخل السوق المحلي عند تحويلها إلى الدولار... وهذه الظروف مجتمعة تجعل السوق المصرية بيئة أقل استقراراً للمنتجين، خصوصاً مع ارتفاع تكاليف الإنتاج واحتدام المنافسة مع المنصات الرقمية.

نجاحات في الخارج

واللافت أيضاً أن مفهوم النجاح للسينما المصرية لم يعد حكراً على الأفلام ذات الميزانيات الكبيرة، حيث حقق فيلم «سيكو سيكو» متوسط الميزانية أكثر من 4 ملايين دولار في مصر، لكنه جمع مبلغاً مماثلاً في السعودية وحدها، ليصبح ثاني أنجح فيلم في تاريخ السينما المصرية. كما برزت مؤشرات أخرى تعكس ارتفاع الاهتمام بالأفلام الفنية؛ إذ حقق فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» أعلى إيراد لفيلم فني في تاريخ السوق المصري. ومع هذا التحوّل، تبدو صناعة السينما المصرية أمام مرحلة جديدة ستؤثر فيها الأسواق الإقليمية، خصوصاً السعودية، في خيارات الإنتاج والتسويق، وربما في طبيعة القصص التي تُروى على الشاشة.


مقالات ذات صلة

بعوض فلوريدا يستعيد مشهداً من «جوراسيك بارك» لكن بلا ديناصورات

يوميات الشرق «جوراسيك بارك» يعود بصيغة علمية (جامعة فلوريدا)

بعوض فلوريدا يستعيد مشهداً من «جوراسيك بارك» لكن بلا ديناصورات

اليوم، يقول باحثون في ولاية فلوريدا إنهم أنجزوا أمراً مُشابهاً لما حدث في فيلم «حديقة الديناصورات» (جوراسيك بارك) الشهير الذي عُرض عام 1993...

«الشرق الأوسط» (فلوريدا)
يوميات الشرق منى زكي وكريم عبد العزيز وعدد من صناع الفيلم في كواليس التصوير - حساب مراد على «فيسبوك»

«الست» يفجر زخماً واسعاً بمصر حول حياة أم كلثوم

فجر فيلم «الست» زخما واسعاً في مصر حول كواليس حياة أم كلثوم، بمراحلها المختلفة وعلاقاتها الشخصية بمن حولها من عائلتها وزملائها، بالإضافة إلى قصص حبها.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق الفنان محمد بكري في لقطة مع أسرته من فيلم «اللي باقي منك» (الشركة المنتجة)

كيف تمكنت 4 أفلام عربية من الوصول لقائمة الأوسكار المختصرة؟

لعلها المرة الأولى التي تنجح فيها 4 أفلام عربية في الوصول لـ«القائمة المختصرة» بترشيحات الأوسكار لأفضل فيلم دولي، وهو ما اعتبره سينمائيون عرب إنجازاً كبيراً.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق  نيفين مندور (صفحتها الرسمية في «فيسبوك»)

وفاة الفنانة المصرية نيفين مندور إثر حريق شبّ في منزلها

تُوفيت الفنانة المصرية نيفين مندور صباح اليوم (الأربعاء)، عن عمر يناهز 53 عاماً، وذلك إثر حريق مفاجئ شبّ في منزلها.

يسرا سلامة (القاهرة)
سينما الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وصولاً إلى عرضه الخاص في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة الأسبوع الماضي، أثار فيلم «صوت هند رجب» نقاشاً واسعاً.

إيمان الخطاف (الدمام)

فنان يوناني يُعيد قراءة الإسكندر الأكبر في معرض بمكتبة الإسكندرية

بورتريه مُتخيَّل للإسكندر تظهر في خلفيته عناصر حداثية (مكتبة الإسكندرية)
بورتريه مُتخيَّل للإسكندر تظهر في خلفيته عناصر حداثية (مكتبة الإسكندرية)
TT

فنان يوناني يُعيد قراءة الإسكندر الأكبر في معرض بمكتبة الإسكندرية

بورتريه مُتخيَّل للإسكندر تظهر في خلفيته عناصر حداثية (مكتبة الإسكندرية)
بورتريه مُتخيَّل للإسكندر تظهر في خلفيته عناصر حداثية (مكتبة الإسكندرية)

تكشف أعمال الفنان اليوناني ماكيس فارلاميس (1942–2016) ملامح سيرة جديدة لحياة أحد أهم القادة التاريخيين في الحضارة اليونانية القديمة، وذلك عبر معرضه «الإسكندر الأكبر... العودة إلى مصر»، الذي تستضيفه مكتبة الإسكندرية حالياً.

يتوغّل فارلاميس في حياة القائد اليوناني، محاولاً استكشاف مشاعره وخيالاته واستبطان دواخله، في لوحات وتماثيل تركزت جميعها على المراحل المختلفة التي مرَّ بها، وغزواته، وعبَّرت عن قيم التسامح واحترام التنوع الثقافي والتعايش الخلّاق والتعاون بين الشعوب، وهي القيم التي ظلَّ حريصاً على إبرازها في كلّ أرض سيطر عليها.

يضمّ المعرض 53 عملاً، من بينها 40 لوحة كبيرة الحجم و12 منحوتة برونزية وخزفية، مزجها الفنان بعناصر حداثية، وركّز في بعضها، خصوصاً البورتريهات، على الألوان الساخنة المعبّرة عن روح الإسكندر المُتقدة. أما في الخلفيات، فقد سادت الألوان الغامقة والرمادية للتعبير عمّا يحيط به من عوالم مجهولة، بالإضافة إلى «بيت بندار»، وهو عمل خشبي أصلي ومبهر يُمثّل واجهة منزل الشاعر اليوناني بندار، وهو شخصية مؤثّرة ومحورية في حياة الإسكندر وكان له دور كبير في تشكيل أفكاره.

تمثال من البرونز يُظهر الإسكندر الأكبر شارداً (مكتبة الإسكندرية)

ولا تُعدّ الصور التي رسمها فارلاميس، وفق مدير إدارة المعارض والمقتنيات الفنية بمكتبة الإسكندرية، الدكتور جمال حسني، مجرّد بورتريهات تقليدية لقائد عسكري أسطوري أقام إمبراطورية ضخمة، بل تُعبّر عن رؤى فنية متنوّعة لحياة الإسكندر طفلاً وقائداً سياسياً عرف بوعي وذكاء كيف يتسلَّل إلى نفوس الشعوب التي انتصر عليها.

وقد صوَّره فارلاميس وهو يرتدي الملابس التي تميَّزت بها كل أرض غزاها، ليقول لسكانها إنه واحد منهم. وجاءت المنحوتات مُعبّرة عن المسارات نفسها، إذ ظهرت تماثيل تشكّلت من رأس الإسكندر، وأقيمت على قواعد من الألومنيوم والبرونز، مُعبّرة عنه في صور مختلفة، يُشير كلّ منها إلى البيئة التي وُجد فيها وظهر بين أبنائها في مصر وبلاد فارس والهند وبلاد الشام.

وأضاف مدير إدارة المعارض لـ«الشرق الأوسط» أنّ «المعرض، الذي بدأ في 13 ديسمبر (كانون الأول) الحالي ويستمر 35 يوماً، عبارة عن لوحات تُقدّم صورة كاملة لشخصية الإسكندر الأكبر، فالرؤية كانت واضحة لدى الفنان، وراح يُعبّر عنها بريشته عبر بورتريهات، منها ما يُصوّر الإسكندر في طفولته وهو يتعلَّم أصول الفروسية مع والده، ومنها ما يُعبّر عن ارتباطه بوالدته أوليمبياس وتأثيرها الكبير في حياته».

افتتاح المعرض في مكتبة الإسكندرية شهد زخماً كبيراً (مكتبة الإسكندرية)

وأشار حسني إلى وجود لوحة للإسكندر بنظرته المتأمّلة وهو شارد في البعيد، تظهر في خلفيتها عناصر معمارية قدَّمها الفنان بشكل حداثي، مُستفيداً من التكعيبية، وقد وُضعت في صدارة المعرض نظراً إلى قيمتها الفنّية الكبيرة.

وكانت قصة الإسكندر وغزوه مصر حاضرة بين المعروضات، من بينها لوحة تُصوّره واقفاً في معبد آمون بواحة سيوة، تُعبّر عن وعيه بكونه سياسياً قادراً على فتح قنوات تواصل مع الشعوب التي غزاها، وتُبيّن حرصه، رغم المسافة الكبيرة التي قطعها في الصحراء، على لقاء الكهنة والتودّد للمصريين. كما ضمَّ المعرض تمثالاً من البرونز نحته الفنان لوجه الإسكندر وهو يرتدي غطاء الرأس العربي، فضلاً عن قناع لوجهه مُكلّلاً بإكليل الغار، فيما تشكّلت التماثيل بطابع فرعوني وآسيوي، وأحياناً حملت سمات سكان بلاد الشام.

وعقب افتتاح المعرض، قال مدير مكتبة الإسكندرية، الدكتور أحمد زايد، إنّ «الإسكندر الأكبر صاحب رؤية ثاقبة ومفهوم شامل للحضارة، عبَّرت عنها أعمال الفنان الراحل فارلاميس، وسعت إلى اكتشافه قائداً وإنساناً وحالماً من زوايا لم نعتد عليها». وأضاف أنّ هذه الأعمال «ربطت بين الإسكندر في الماضي، والإسكندرية في الحاضر، وبين الفنان الذي انطلق في رحلة الحلم، ليكون الاحتفاء ليس فقط بذكرى القائد العظيم، بل أيضاً بأفكار المدينة التي دفعته ليظلَّ رمزاً للتنوّع الثقافي، ويُجسّد وحدة الإنسانية في مسيرتها الطويلة نحو التفاهم والسلام».

بورتريه مُتخيَّل للإسكندر في معرض عن القائد اليوناني (مكتبة الإسكندرية)

ولم تكن هذه المرة الأولى التي تُعرض فيها أعمال فارلاميس في مصر، إذ سبق عرضها، وفق السفير اليوناني نيكولاوس باباجورجيو، في تسعينات القرن الماضي في معرض بالقاهرة، غير أنه عدَّ عرض الأعمال في مكتبة الإسكندرية «استثنائياً لأنه عاد إلى مدينته». وأشار إلى أنه «لم يكن هناك مكان على وجه الأرض أكثر ارتباطاً باليونانيين من الإسكندرية»، واصفاً إياها بأنها «تُمثّل رابطة متينة بدأت منذ القدم مع التفاعل بين اليونانيين والمصريين، وجاء تأسيس المدينة لتعزيز هذه الروابط التي لا تزال قائمة».

والمعرض ثمرة تعاون بين السفارة اليونانية في القاهرة، ووزارات الدفاع، والخارجية والداخلية اليونانية، وجامعة أرسطو في ثيسالونيكي، والأكاديمية الوطنية للعلوم، وبالتعاون بين مكتبة الإسكندرية والمختبر التجريبي في فيرجينا واتحاد البلديات اليونانية والمركز الهيليني لبحوث الحضارة السكندرية والمتحف الفنّي النمساوي.


كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)
إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)
TT

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)
إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

لم تعد الفانتازيا في المشهد الأدبي العربي مجرّد عوالم سحرية للهروب من الواقع، بل تحوَّلت، في تجارب جيل جديد من الكتّاب العرب، إلى أداة فكرية حادّة، تُناقش القضايا الأكثر حساسية: الهوية، والاختلاف، والسلطة، والمنفى، والخوف المعاصر.

في معرض جدة الدولي للكتاب، وتحديداً في جناح مركز الأدب العربي، بدا هذا التحوّل واضحاً، حين التقى كاتبان عربيان شابان جمعتهما الدراسة في الخارج، وحبّ هذا الخط الكتابي، واختلاف الجغرافيا، ووحدة الأسئلة.

الأول هو عبد العزيز السيهاتي، كاتب سعودي قدَّم 8 روايات فانتازية ذات بُعد فلسفي، والثاني الوليف قتيبة قصاب باشي، كاتب سوري مقيم في السويد منذ عام 2015، يكتب الفانتازيا والرعب والفلسفة من قلب تجربة المنفى.

الفانتازيا العربية... لماذا الآن؟

تُشير تقارير هيئة الأدب والنشر والترجمة في السعودية إلى تنامي الإقبال على الأنواع السردية غير التقليدية، وعلى رأسها الفانتازيا والخيال، خصوصاً بين القرّاء الشباب، مع تحوّل هذه الأنواع إلى مساحة لمناقشة قضايا فكرية وإنسانية بعيداً عن المباشرة والخطاب الوعظي. هذا التحوّل لا ينفصل عن اتّساع فرص النشر والدعم الثقافي، وتجربة الابتعاث والدراسة في الخارج، والاحتكاك بثقافات مختلفة أعادت طرح سؤال «مَن نحن؟» بصيغة جديدة.

الفانتازيا كونها حماية للفكرة

في أعمال عبد العزيز السيهاتي، لا تأتي الفانتازيا على هيئة زخرفة سردية، بل آلية واعية لتجريد الفكرة من الاتهام المباشر.

في رواية «تعويذة محرّمة»، يرسم عالماً يُعاقَب فيه كلّ مَن يملك كتاباً، وتُعدم الكتب لكونها خطراً وجودياً. من قلب هذا القمع، تصل إحدى النسخ المنقَذة إلى مكتبة الأكاشا، المكتبة الأسطورية القادرة على إخراج شخصيات الكتب إلى الواقع.

من جلجامش إلى نصوص فلسفية حديثة، ومن الكلاسيكيات إلى أعمال معاصرة، تخرج الشخصيات لتحقيق غايات محدَّدة، في فانتازيا فلسفية تناقش السلطة، والمعرفة، والخوف من الكلمة.

وفي رواية أخرى، «ذات الجناحين القرمزيين»، يختار السيهاتي الرمز بدل الخطاب. فتاة خُلقت بجناحَيْن بلونَيْن مختلفين في عالم تحكمه ألوان محدّدة، لتتحوّل هذه الخصوصية إلى سبب للنبذ.

الجناحان هنا ليسا سوى استعارة عن الاختلاف بكل أشكاله: الديني، واللغوي، والثقافي، والعرقي.

يقول السيهاتي إنّ اختياره للفانتازيا يعود إلى «حرّية الفكرة»، إذ يمكن مناقشة القضايا دون أن تُسقَط على أشخاص أو دول بعينها، وهو توجّه ينسجم مع رؤية وزارة الثقافة السعودية في دعم التنوّع السردي والابتكار الأدبي.

قتيبة قصاب باشي: الفانتازيا مساحة نجاة

على الضفّة الأخرى من التجربة، يكتب قتيبة قصاب باشي من السويد، حيث استقر منذ عام 2015.

تأتي روايته الأشهر «عزير» لكونها عملاً فانتازياً فلسفياً يناقش وضع العرب والمسلمين في المجتمعات الغربية، مُتّكئاً على تجربة شخصية عاشها الكاتب مع عائلته.

في الرواية، تتقاطع قضايا: المرأة العربية في الغرب، ونظرة الشرق الأوسط إلى الغرب والعكس، والمرأة في الأديان، ومفاهيم الخلاص، والعقاب، والهوية.

ويمزج قصاب باشي بين السرد الروائي والفلسفة والدين، مستحضراً شخصيات وأفكاراً من المسيحية والإسلام والتحليل النفسي، من صَلب المسيح إلى فرويد، من دون الوقوع في خطاب تصادمي. وقد لاقت الرواية انتشاراً واسعاً في دول الخليج وأوروبا، لتصبح من أكثر أعماله تداولاً.

إبليس... من السرد الديني إلى الفانتازيا السياسية

في روايته «بروتوكولات حكماء العالم»، يذهب قصاب باشي إلى منطقة أكثر جرأة، فيعيد قراءة قصة إبليس، لا من زاوية آدم وحواء، بل من وجهة نظر إبليس نفسه. الرواية تستند إلى مصادر إسلامية خالصة، مع مقاربة نقدية للإسرائيليات، وتنسج فانتازيا سياسية تتقاطع فيها بدايات الخلق، والتحالفات البشرية، والتنظيمات السرية، والماسونية.

هنا، لا يُقدَّم إبليس بوصفه رمزاً ميتافيزيقياً فقط، بل على أنه فاعل في التاريخ البشري، في عمل فانتازي كامل، يحرص -وفق الكاتب- على عدم الاصطدام مع العقيدة الإسلامية، بل على محاورتها.

الرعب النفسي والكارما الحديثة

في رواية «عشرة ميليغرام»، ينتقل قصاب باشي إلى الرعب النفسي، عبر شخصية طبيب نفسي متخصّص في المخدرات، يعود بعد 20 عاماً للتحقيق في جريمة قديمة بأسلوب انتقام سيكولوجي خالص.

الرواية، ذات الطابع السوداوي، تستلهم الأدب الروسي، لكنها تُعيد صياغته بلسان عربي معاصر، وتناقش الإدمان، والذنب، والعدالة النفسية، بعيداً عن العنف المباشر.

جيل يكتب الخيال بوعي فلسفي

رغم اختلاف السياقَيْن، يلتقي السيهاتي وقصاب باشي عند نقطة مركزية: الفانتازيا ليست هروباً، بل أداة تفكير. السيهاتي يستخدمها لتجريد الفكرة من الاتهام، وقصاب باشي يستخدمها مساحة نجاة وتأمُّل في تجربة المنفى. كلاهما ينتمي إلى جيل عربي درس في الخارج ويكتب من مسافة نقدية، ويرى القارئ شريكاً في التأويل، لا متلقياً سلبياً.

من الورق إلى الشاشة؟

يحظى هذا النوع من الأدب باهتمام متزايد من القرّاء، ومعه تتصاعد المطالب بتحويل هذه الأعمال إلى أفلام أو مسلسلات. وإنما الكاتبان يتفقان على أنّ عوالم الفانتازيا العربية، بما تحمله من عمق رمزي وتعقيد بصري، تحتاج إلى إنتاج واعٍ يحترم النص قبل تحويله إلى صورة.

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة؛ فانتازيا تكتب الخيال، لكنها تفكّر بعمق في الإنسان.


آن ماري جاسر لـ«الشرق الأوسط»: «فلسطين 36» يربط النكبة بالمأساة الجديدة

المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر (مهرجان البحر الأحمر)
المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر (مهرجان البحر الأحمر)
TT

آن ماري جاسر لـ«الشرق الأوسط»: «فلسطين 36» يربط النكبة بالمأساة الجديدة

المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر (مهرجان البحر الأحمر)
المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر (مهرجان البحر الأحمر)

من العرض العالمي الأول في مهرجان «تورنتو» للعرض العربي الأول في النسخة الماضية من مهرجان «البحر الأحمر»، مروراً باختياره في «القائمة المختصرة» لجوائز الأوسكار في دورتها الـ98، التي أُعلنت، الثلاثاء، يواصل الفيلم الفلسطيني «فلسطين 36» رحلته في تسليط الضوء على مرحلة مهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني.

الفيلم المدعوم من «البحر الأحمر» في مراحل إنتاجه، تُعرب مخرجته الفلسطينية آن ماري جاسر، لـ«الشرق الأوسط»، عن سعادتها بوصوله إلى القائمة المختصرة»، مؤكدة أن فيلمها لا ينتمي إلى الماضي بقدر ما يعكس حاضراً يتكرر بلا انقطاع، مشيرة إلى أن الشرارة الأولى للفيلم انطلقت من وعيها بأهمية تلك اللحظة المفصلية في التاريخ الفلسطيني، حين اندلعت الثورة الكبرى في عام 1936 بوصفها أوسع انتفاضة جماعية ضد الاستعمار البريطاني شارك فيها الفلسطينيون من مختلف الطبقات والقرى والمدن، وشكّلت منعطفاً حاسماً في مسار النضال المناهض للاستعمار.

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)

وأضافت أن ما صدَمها على المستوى الشخصي هو إدراكها أن كل تفاصيل حياتها اليومية في فلسطين، اليوم؛ من نظام السيطرة إلى آليات القمع، تعود في جذورها إلى تلك المرحلة، موضحة أن «المخطط الكامل للاحتلال الذي نعيشه اليوم وُضع في زمن أجدادنا على يد البريطانيين، ومن هنا لم أتعامل مع الفيلم بوصفه عملاً تاريخياً منفصلاً عن الراهن، بل كمرآة لواقع لا يزال يعيد إنتاج نفسه».

وتؤكد آن ماري أن علاقتها بالسينما تنطلق أولاً من الحكاية، إذ تصف نفسها بأنها «صانعة أفلام وكاتبة»، لذلك جاءت فكرة الفيلم بوصفها رغبة في تحويل تلك اللحظة التاريخية إلى قصة إنسانية، قبل أن تبدأ عملية البحث التي لحقت الفكرة ولم تسبقها، مؤكدة أن البحث عنصر أساسي في كل أعمالها، لا يقتصر على هذا الفيلم، بل يشكّل جزءاً من ممارستها السينمائية ككل.

وفي سبيل بناء عالم «فلسطين 36»، غاصت جاسر في قراءة الخلفيات التاريخية والسياسية والاجتماعية لتلك الفترة، وعَدّت أن هذه العناصر تُشكّل الأساس الذي تنبني عليه الشخصيات.

احتضن مهرجان تورنتو العرض العالمي الأول للفيلم (الشركة المنتجة)

وتقول إنها قرأت أعمال مؤرخين وأكاديميين من اتجاهات مختلفة؛ بريطانية وعربية ويهودية، إلى جانب المذكرات الشخصية وشهادات الحياة اليومية، ومنها يوميات امرأة كانت تعمل معلّمة في رام الله خلال فترة الانتداب، وهو ما أتاح لها الاقتراب من تفاصيل العيش اليومي بوصفها مادة حية لبناء الفيلم.

وتشير المخرجة الفلسطينية إلى أن أكثر ما فاجأها، خلال البحث، لم يكن معرفة الثورة نفسها، التي كانت حاضرة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، بل حجم العنف الذي مارسه الجيش البريطاني، مؤكدة أن الوقوف على تفاصيل هذا العنف كان صادماً، لافتة إلى أن هناك مجازر ارتُكبت عام 1938؛ أي قبل النكبة بعشر سنوات، وهو ما لا يحظى بالقدر نفسه من التداول في السرديات الشفوية الفلسطينية.

وتوضح أن ما تصفه بتفاصيل الاحتلال في تلك المرحلة يشمل «ممارسات لا تزال مألوفة حتى اليوم، كالعقاب الجماعي، والسيطرة على السكان، ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، وتفجير المنازل، والتعذيب في السجون بطرقٍ لا تترك آثاراً جسدية، وإقامة الحواجز، وحظر الصحف والإعلام، وبناء الجدران العازلة»، وفق قولها، مشيرة إلى أن استعراض هذه التفاصيل داخل الفيلم يخلق إحساساً لدى المشاهد بأنه يرى واقعاً معاصراً أكثر منه حدثاً تاريخياً منقضياً.

وعن الفارق بين الروايات الشفوية الفلسطينية والسجلات الأرشيفية البريطانية، تقول آن ماري إن «الفلسطينيين يتحدثون عن ثورة 1936 بفخر، بوصفها أول انتفاضة جماعية كبرى، ويحتفون بطول الإضراب ونجاحه وروح التمرد على الاستعمار. غير أن ما يُغفل غالباً هو الغوص في تفاصيل العنف والصدمة»، وعَدَّت أن ذلك يعود إلى صعوبة الحديث عن «تروما متوارثة» لا تزال آثارها حاضرة.

وتلفت إلى أن واحداً من كل عشرة فلسطينيين كان في السجن آنذاك، وأن القيادات نُفيت، وأن العنف كان واسع النطاق، وهي جوانب كثيراً ما تمر في الروايات الفلسطينية دون تفصيل.

مع صناع الفيلم خلال عرضه في «البحر الأحمر» (إدارة المهرجان)

وحول قرارها التركيز على الاحتلال البريطاني، بدلاً من الاحتلال الإسرائيلي، توضّح المخرجة الفلسطينية أن «السياق التاريخي للفيلم لا يسمح بغير ذلك، إذ لم تكن هناك دولة إسرائيل في تلك الفترة»، مؤكدة أن «الفيلم يتناول مرحلة جرى تهميشها ومحاولة محوها من الذاكرة، ولا سيما ما يتعلق بوعد بلفور والدور البريطاني في تمهيد الطريق لما تلا ذلك، وإبراز المسؤولية البريطانية جزء أساسي من استعادة السردية التاريخية».

وبشأن غياب الشخصيات الإسرائيلية أو اليهودية عن الفيلم، توضح المخرجة أن الأمر مرتبط بطبيعة الحكاية التي ترويها، «فالفيلم يركز على مجموعة من القرويين وعلاقتهم المباشرة بالقوة المحتلّة التي كانت حاضرة في حياتهم اليومية آنذاك، وهي السلطة البريطانية، فيما يشبه الواقع المعاصر، حيث يكون احتكاك الفلسطيني اليومي مع الجنود والجيش، لا مع المستوطنين بوصفهم أفراداً، بل كقوة تُصادر الأرض من بعيد»، على حد تعبيرها.

وتضيف أن الفيلم لا يدّعي تمثيل كل المجتمعات التي كانت موجودة في فلسطين آنذاك، مثل الأرمن أو البوسنيين أو الشركس، إذ إن الهدف كان الحفاظ على صدق التجربة اليومية للشخصيات، التي لم تكن تتفاعل بشكل مباشر مع تلك الجماعات، بل كانت ترى نتائج المشروع الاستيطاني عبر مصادرة الأراضي المحيطة بها.

وفيما يتعلق باستخدام الأرشيف المصوَّر، تكشف جاسر أن جزءاً كبيراً من الفيلم بُني على مواد أرشيفية أصلية من ثلاثينات القرن الماضي، جرى تلوينها بعناية، مؤكدة أنها عملت عن قرب مع منتجة أرشيف، واستخدمت هذه المواد منذ مراحل البحث الأولى، كما استعانت بها في التحضير البصري مع مصمم الديكور ومصمم الأزياء وفريق العمل الفني بأكمله.