لعلَّ أجمل الأحاديث التي يمكن أن يستمتع بها الإنسان هي تلك التي يُجريها مع الطبيعة، فتولّد لديه مساحة التقاء مع الذات. ومع رائحة التراب وحفيف أوراق الشجر يعود إلى الجذور.
وبمناسبة الذكرى الـ13 لتأسيس غاليري «آرت أون 56» في بيروت، يُقام معرض «حوارات مناظر طبيعية (Landscape Conversations)»، فيُدعى من خلاله هواة التشكيل لملاقاة 6 فنانين هم: وسام بيضون، وليلى داغر، وعماد فخري، ومنصور الهبر، وغادة جمال، وإدغار مازجي. يقدّمون من وحي عنوان المعرض مجموعة من أعمالهم التي تُحاكي الطبيعة بكلّ أبعادها.

وغاليري «آرت أون 56» لصاحبته نهى محرم أضاء على مدى 13 عاماً على وجه لبنان الثقافي العريق، فلم يستسلم أمام حروب ونكسات وأزمات شهدتها البلاد، بل قاوم الاستسلام بفعل الاجتهاد والمثابرة، واستمر في تنظيم المعارض لأهم الفنانين التشكيليين. وبرأي صاحبته، فإنّ الفنّ التشكيلي هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع وتمدّنا بالأمل.
«مررنا بأوقات حلوة ومرّة»، تقول محرم لـ«الشرق الأوسط». وتتابع: «لكن طعم المرّ لم يثنِنا عن القيام بواجبنا تجاه بلدنا، بل زوّدتنا الأيام الصعبة بالقوة والصلابة. وأردتُ في هذا المعرض الإشارة إلى الطاقات الإيجابية التي يحتضنها لبنان رغم كلّ شيء. فكلّ فنان مُشارك فيه أبدع بطريقته وأسلوبه، وترجم علاقته بالأرض والطبيعة بريشة تحمل جمال لبنان. وسنكمل هذا المشوار ونرسم له الأفضل على مدار الأيام المقبلة».
الرسامة غادة جمال اختارت مناطق مختلفة من لبنان لتنقل خصوصية طبيعتها بريشة دافئة، فتتنقل بين بلدة بشامون، ومناطق الشوف والمتن والبقاع، مُستخدمة مجموعة ألوان تتدرَّج بين الأخضر والأزرق الليلي. رسمت مَشاهد شروق الشمس كما غروبها، وأسدلت معها الستارة على الطبيعة الخلابة. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذا الغاليري يعني لي كثيراً... أعادني إلى ممارسة فنّ الرسم بعد غياب 8 سنوات. واليوم أصوّر جمال لبنان بريشتي وأحوّله إلى لوحات تشكيلية».

تُكمل زيارة المعرض لتستوقفك أعمال إدغار مازجي، وقد نفَّذها في مدة لم تتجاوز الشهرين ليتمكّن من المشاركة في الاحتفالية. وبين مجموعة رسمها بالفحم وأخرى بتقنية «الأكليريك»، يقدّم مجموعته بعنوان «طبيعتي المبتكرة».
وفي إحداها، تحضر زهرة بيضاء عملاقة تشرح تَعلُّق الفنان بتفاصيل طبيعة لبنان. ويستطرد لـ«الشرق الأوسط»: «عندما أبدأ الرسم، لا فكرة مسبقة تسكنني. كلّ شيء يبدأ بغموض، ومن باب الفنّ التجريدي. ثم تأخذ الفكرة بتكوين عناصرها لتتحوّل إلى لوحة مُتكاملة. ومجموعتي بالأبيض والأسود بدأتها جميعها بلحظة واحدة. وكانت فرشاة الرسم تتنقل بينها لتترك الأثر الموحَّد عليها كلّها. فهذه الطريقة تولّد الانسجام ونوعاً من الاتحاد بين لوحاتي». ويقدّم مازجي في أعماله لحظات مباشرة أمضاها مع الطبيعة، لذلك تتميّز بالتلقائية والعفوية الجذابة.
من ناحيتها، تسرق الفنانة التشكيلية ليلى داغر انتباه رواد المعرض بأعمالها المرتكزة على فن «الميكسد ميديا»... فهي تحيكها وتغزلها بدقة، مستخدمة مجموعة أدوات لتنفيذها. وكما الصوف و«الجوت» والورق والكرتون، تُطرّز لوحاتها بالخيط والإبرة، وتتوّجها بريشة مغموسة بـ«الأكليريك» لتضفي عليها بريقاً فنياً. وتوضح لـ«الشرق الأوسط»: «اتباعي تقنية (الميكسد ميديا) يسمح للوحاتي بأن تخاطب ناظرها، وهي تنقل مساحات حقيقية من طبيعة أرضنا، وتروي القصة تلو الأخرى في رحلة حالمة متعدّدة البُعد».

ازدحام المعرض بلوحات مستوحاة من أصوات الطبيعة وأجوائها يضع زائره في تماس مباشر مع مناطق جبلية من لبنان. هنا يستريح تحت ظلال شجر السرو، وهناك يتفيّأ تحت قرميد منزل قديم يفتح شبابيكه الخشبية لاستقبال أشعة الشمس.
وعندما تصل إلى قسم لوحات الرسام عماد فخري، فلا بد من أن تغمرك نفحة الجبل اللبناني الأصيل. ففي أعماله مرآة حقيقية لصخور وجبال وطبيعة هذه الأرض، اختارها من منطقة البقاع وبلدة دير الأحمر. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذه اللوحات كانت علاجاً نقلني من مرحلة إلى أخرى أكبر هدوءاً. وقد رسمت 9 لوحات شكّلت المجموعة كاملة. فرسمُ الطبيعة يتطلّب الراحة والسكينة، وهو ما نفتقده في بلادنا». ويتابع: «شعرتُ كأنّ يداً ثالثة تشاركني الرسم، فخضتُ تجربة فنّية جديدة خطفتني من الواقع».
في لوحات منصور الهبر نكتشف الطبيعة بقالب مختلف عن باقي الأعمال المعروضة، وقد اختار الفحم ليُصوّر مناظر طبيعية في بلدتَي حمانا والقبّيع. وتتضمَّن لوحاته خطوطاً ورسومات تشكيلية يُعبّر من خلالها عن ريشة حرّة لا تخضع للتصوير العادي. ويستطرد لـ«الشرق الأوسط»: «تقنيتي تتألّف من الفحم والباستيل والأكليريك. ولا يهمني نقل الطبيعة نسخة طبق الأصل. فبعد أن أُشبّع نظري بمشهد ما، أخلد إلى ترجمته ورسمه على طريقتي».
ويردّد دائماً الفنان وسام بيضون أن أفضل لقاء يجمعه بالطبيعة هو في الصباح الباكر. وفي لوحاته المُشارِكة يستحضر صوراً من الفجر والصباح، ويزوّدها بريشة عاطفية تدور في أجواء ألوان فاهية تغمر المتأمل بالراحة والهدوء. الزهري كما الأزرق والأخضر والأصفر تولّد في أعماله التناسق، فتنعكس لحظات سعادة وفرح. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «بساطة التقنية التي أستخدمها ساحرة، فهي تتألّف من اللون المذوّب في الماء. العمل بها دقيق جداً، لكن الأشكال التي تولد منها في لحظات قليلة تبدو رائعة».


