ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

«الآنسة جولي» بالعربية من دون وسيط لأول مرة

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ
TT

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

ترجمة دقيقة ودراسة متأنية لمسرحية ستريندبرغ

أقف أمام «الآنسة جولي» بحلّتها العربية الجديدة، حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن هذه التراجيديا التي تعكس قساوة الواقع المعيش؟ مِن مؤلفها، شكسبير السويد يوهان أوغست ستريندبرغ، الكاتب والدرامي المتعدد المواهب، في المسرح والرواية والشعر والفن التشكيلي وغيرها، والمثير للجدل أيضاً؟ أم أبدأ من النص؟ من هذه المسرحية المشحونة بالمشاعر والصور والمثقلة بالصراعات الاجتماعية والنفسية في مجتمع أفرز «فئات جديدة عاشت فترتها الانتقالية بسرعة هستيرية، أكثر من سابقاتها»، كما كتب ستريندبرغ في مقدمته للمسرحية؟

أم أبدأ من عرض رؤاي حول هذا الحرث الخصب الذي بذل فيه المترجم جهوداً استثنائية، ليكون أكثر قرباً من نَفَس المؤلف في النص المترجم. أو على الأقل تحقيق النسبة الكبرى من نقل ما يُعرف بروح النص بمصداقية عالية وأمانة؟

نحن هنا أمام كتاب لا يبذل جهداً ليغري القارئ؛ فإنك بمجرد أن تمرِّر بصرك على جملته الأولى، أو لكي لا نبالغ القول، على سطره الأول، في المتن حتى تتولد عندك حالة من الشغف لمتابعة القراءة. وعندما تطالعك جملة «ليس الغرض من هذه التوطئة تقديم الكتاب إطلاقاً»، فلا بد من أن تصبح شغوفاً أكثر لمعرفة المزيد. فإذن لماذا هذه «التوطئة للكتاب من قبل المترجم»؟ ولمعرفة الجواب عن ذلك فلا بد لك من مواصلة القراءة. والمسألة هنا لا تتعلق بحب الاستطلاع فحسب، بل يستهويك الأسلوب وسريان مجرى العبارات المنتقاة وتناسقها، فتعرف من خلالها أن المترجم إبراهيم عبد الملك، وهو شاعر أيضاً، لم يكتفِ بنقل الكتاب من لغة إلى أخرى، بل قام بدراسة متأنية للنص المسرحي «الآنسة جولي»، وللمقدمة التي كتبها المؤلف ستريندبرغ، ببحث رصين ومراجعة جادة لبعض الجمل الصعبة في فهم ماهيتها وقصدية قائلها، المؤلف، وقف فيها عبد الملك على مفصليات النص الذي يحتاج إلى كثير من التفسير والدلالات، لأنه قديم، تجاوز عمره الآن مائة وثلاثين عاماً، وفيه كثير من العبارات التي تجبر المترجم على تقصيها وإظهارها بالشكل الذي يليق بمكانة اللغة العربية، وإنصافاً للمؤلف واحتراماً لذوق القارئ. وللدلالة على ذلك، يأخذ المترجم جملة من مقدمة المؤلف، وهي عبارة يتحدث فيها المؤلف أوغست ستريندبرغ عن تحولات مجتمع القرن الثامن عشر، من خلال مسرحيته «الآنسة جولي»، فيصفها بأنها من بقايا صنف النبلاء المحاربين القديم الذي يتنحى الآن «من أجل نبلاء العصب الجدد أو نبلاء العقل الكبار».

لو تُرِك الأمر هكذا، مجرد ترجمة، لما فهمنا أن هذه العبارة بمثابة أرجوحة فلسفية تتدلى منها أرجل اللغة التي استخدم فيها ستريندبرغ اللعب بالكلمات؛ خصوصاً في تلك الجزئية من الجناس بين كلمتي عقل «-hjärn» وصلب «-järn» بالسويدية، كلتاهما تنطق «يرنْ»، التي قصد بها «تورية وسخرية لاذعة»، كما يقول المترجم، الذي لم يتردد في البوح عن بعض الصعوبات التي شخصت أمامه أثناء ترجمة النص، خصوصاً فيما يتعلق بفهم مطبات قصدية العبارة المذكورة، التي ذللها إبراهيم من خلال البحث والتنقيب بعناد في بيئة النص وجذوره، حد اللجوء للاستعانة بصديق موثوق بقدرته الأدبية، ومن بيئة المؤلف ومنشئه الثقافي، لتوضيح الفكرة وما قصده سترينبرغ بـ«نبلاء العصب الجدد، أو نبلاء العقل الكبار»، ليجيبه الشاعر والناقد ماغنوس ويليام بأن ستريندبرغ كان في هذه الجزئية ساخراً، هازئاً من خصومه المثقفين، بل وحتى من المدافعين عن النساء منهم خاصةً. «ففي كلمة (عصب -nerv) إحالة مباشرة إلى ما هو (أنثوي)، لأن النساء، (في ذلك الزمان) انُتقدن لكونهن واهنات العصب ومتوترات، مرتكبات، وغير جديرات بالثقة، تبعاً لذلك. أما تعبير (نبلاء العقل)، وهو اصطلاح ابتدعه المؤلف نفسه لما فيه من تشابه صوتي باللغة السويدية، بين (Hjärn) عقل و(Järn) صُلب، حديد التي تعبر ضمنياً عن الرجولة (الحقيقية)، حسب ما تربت عليه طبقة النبلاء».

وهنا لا بد من التنويه إلى أن ما ذكرناه آنفاً من أن ستريندبرغ كان كاتباً مثيراً للجدل، قصدنا في جانب منه ازدواجية العلاقة مع للمرأة التي كانت مزيجاً من الحب والعنف في آن واحد، وقد أشيع عنه كرهه للنساء وهذا غير صحيح؛ فقد أحب ستريندبري امرأة وتزوج مرة أخرى. وقد انعكس ذلك من خلال أعماله الدرامية وقصصه وكتاباته المختلفة، وشكَّل فيه هذه الازدواجية؛ في إحساسه بالزمن، وثنائية الأنا والآخر، والخير والشر، وغيرها من المتضادات التي جاءت نتيجة لفقدانه المكان والإحساس بالواقع الاجتماعي المرّ الذي عاشه وجعله يترك دراسته الجامعية احتجاجاً على طريقة التدريس، بعدما رفضت الأكاديمية الملكية عرض مسرحية «الأسطة أولوف». وقد ألف ستريندبرغ روايته التي تحمل نفس العنوان عام 1879، وضمّنها حياة النخبة المثقفة من المجتمع السويدي، في تلك الفترة، فاضحاً فيها الظواهر السلبية السائدة في المجتمع، كالبيروقراطية وبيئة الكنيسة النتنة.

لكن روايته اللاحقة التي سماها «الغرفة الحمراء» اعتبرها نقاد الأدب الرواية الواقعية الأولي في تاريخ الأدب السويدي.

ومن مجمل نتاجاته الإبداعية التي تجاوزت الخمسين عملاً ألقت حياة ستريندبرغ بتحولاتها المريرة نفسها ظلالاً على الأحداث والتحولات الاجتماعية التي كان شاهداً عليها، منذ صدور روايته الأولى «الأسطة أولوف» 1879، وانتهاء بـ«الآنسة جولي» التي صدرت في عام 1890، والتي صور فيها واقع المجتمع والتناقضات والصراعات الحادة بين طبقات المجتمع الجديدة المتنامية، والتي تتقد فيها الرغبة لكسر القيود والتقاليد البالية.

وقد نقل لنا المترجم إبراهيم عبد الملك هذه الأحاسيس وتلك المكنونات الراقدة في جذور تربتها بطريقة حافظت على روحيتها وألقها.

هذه ليست الترجمة الوحيدة لمسرحية «الآنسة جولي» إلى العربية، لكنها الأولى التي جاءتنا مباشرة من نصها الأصلي، دون أن تمرّ بمسالك وسيطة قد يتعلق بأردانها بعض غبار اللغات المترجم من خلالها، رغم أن المباشرة لا تعطي صكاً لضمان مصداقية الترجمة وأمانتها؛ فثمة تراجم مهمة نُقلت عبر لغات بسيطة وأدَّت مهمتها، غير أن هذه الأعمال نادرة جداً. وبالمقابل هنالك ترجمات نقلت النص من لغته الأم إلى العربية بصورة مباشرة، لكنها تعثرت في دروب الترجمة الحرفية والترادف أو التماثل، لكنه من دون شك؛ فالنص المترجم من لغته الأصلية مباشرة، يحمل دلالات، لنسمِّها مجازاً المصداقية.

مشكلات الترجمة عديدة ومتنوعة تبدأ من الاختلافات الثقافية واللغوية، التي تتطلب من المترجم معرفتها، بالإضافة إلى بنية الجُمل واختيار العبارات المناسبة، ولا تنتهي بفك طُلّسم المفاهيم والمصطلحات الغامضة في النص. إن ترجمة الكلمات والعبارات بصورة حرفية يؤدي ذلك إلى نص ركيك، أو غير مفهوم. وهذا يخص الترجمة بشكل عام، لكن للترجمة الأدبية استحقاقتها؛ فالمطلوب، وإضافة إلى ما تقدَّم، نقل الروح الجمالية للنص المترجم إليه. وهذه مسألة صعبة، لأن الأدب يشكل مزيجاً من الأساليب والثقافات والتاريخ. وعدم قدرة المترجم الأدبي على اختيار المفردة المناسبة سيوقعه في خطأ نقل المعنى. ومن هنا يحتاج مترجم الأدب إلى مهارات إبداعية في التعامل مع النصوص. وهذا الأمر أساسي لما بات يعرف بأمانة الترجمة أو دقة الترجمة.

وواحد من أهم الأسباب التي أدَّت إلى ضعف الترجمات السابقة لمسرحية «الآنسة جولي»، هي أنها تُرجمت عبر لغات أخرى وسيطة، عن الإنجليزية أو الفرنسية، تحديداً ولم تترجم من السويدية مباشرة. وهذا الأمر دفع إبراهيم عبد الملك إلى ترجمتها من نصها الأصلي، كما كتبه المؤلف الصادر في عام 1888. وهذه مسافة زمنية طويلة نسبياً محاولاً بذلك «إعادة شيء من حق المؤلف المستلب».

كما يرى مشيراً إلى أن تلك «الترجمات، بما في ذلك الترجمة الإنجليزية، استهانت بالمؤلف يوهان ستريندبرغ، حد الانتقاص والتشويه»، كما يقول في مقدمته لترجمة الكتاب. ويوجز هذا الطرح في عدد من النقاط التي تتعلق بإشكاليات هذه الترجمات.

فيبدأ باسم المؤلف. إن اسمه «ستريندبرغ»، وليس ستراندبرغ، كما جاء في التراجم السابقة. والمسرحية عنوانها «الآنسة جولي»، وليس الآنسة جوليا. فـ«جولي» هو اسم «الشخصية» الرئيسية في المسرحية، ويأتي اسمها هكذا باللفظة الفرنسية، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية في السويد تحاكي مظاهر الأبهة الفرنسية، بالملبس والمشرب وفي لفظ الكلمات، وفي تبني الطبقات الأرستقراطية في القرن التاسع عشر بعضاً منها. كما هو الحال في بلدان أوروبية كثيرة أخذت هذا المنحى. ولهذا السبب أبقى المترجم بعض الكلمات والعبارات التي تنطق بها الآنسة جولي بالفرنسية، كما جاء بها النص الأصلي.

النقطة الأخرى التي يثيرها المترجم هي تصنيف هذه الدراما ضمن تيار «الحركة الطبيعية»؛ إذ تعكس نمو وتطور هذه الحركة والمدرسة التي برزت في المسرح والأدب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بهدف محاكاة الواقع بدقة متناهية وخلق وهم بالحياة كما هي.

من خلال تصوير الطبقات الدنيا في المجتمع وتحدياتها، مركزين على العوامل البيئية والوراثية التي تُشكّل مصير الشخصيات، مع تجنُّب التكلّف والتصنّع في الأداء التمثيلي لخلق شخصيات طبيعية قدر الإمكان. وكان من أبرز فرسانها الفرنسي إميل زولا والنرويجي هنريك ابسن والروسي قسطنطين ستانيسلافسكي. وبهذا السياق، يشير المؤلف بأنه «لا يؤمن بالشخصيات المسرحية البسيطة».

أما أحكام المؤلف التلخيصية على البشر، فإنها لحمقاء، وإنها لغاشمة، وإنها لبخيلة... إلخ، واستهجانها لزام على الطبيعيين الذين يدركون مدى غنى نسيج النفس البشرية ويشعرون بأن للوِزر وجهاً آخر أشبه ما يكون بالطّهر، حسب ستريندبرغ.

ملمح آخر جدير بالاهتمام هو ورود عبارة «الطحّان»، في النص الأصلي، في حوار بين بطلي المسرحية يقول فيه جان لجولي «ضعي الطحان في الكيس»، ملمحاً إلى الحكاية المشهورة في السويد «حكاية ابنة الطحان»، ويقصد بها تذكير جولي بأن جدها كان طحاناً، ومن باب المغايرة؛ إذ إن العبرة من هذه الحكاية ما يقال بالترجمة الحرفية عن السويدية: «الصمت أفضل من سيئ الكلام». ولأن ترجمة التلميح إلى اللغة تفتقر إلى العبرة منها في هذا السياق، يتدخل هنا المترجم ليعتمد المثل القائل: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، ويحل هذا الإشكال بعبارة «أكرميني بذَهَبِ سِكوتك».

في هذه الإثارة لتحليل العمل الدرامي المُترجم يوغل إبراهيم عبد الملك، في صلب الفكرة التي أراد لها المؤلف أن ترافق المسرحية؛ فنحن أمام نص مترجم، لمسرحية تجسدت فيها جميع الدلالات اللغوية والحسية ومذاقات الذائقة وإيقاعات المشاعر، بجميع تجلياتها وانحداراتها، وعنفوانها الذي جال بأرواح مهشمة وصولاً إلى نهايتها الدموية. لقد كان نوعاً من التحدي المغامرة في ترجمة هذه المسرحية الشكسبيرية بامتياز، كما وصفها المخرج العراقي جواد الأسدي، حين جاء إلى السويد خصيصاً لإخراجها، في نهاية القرن الماضي، وتحديداً في عام 1998، لجمهورها السويدي ولكن بنكهة عربية، تركت انطباعاً رائعاً لدى رواد المسرح.


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.