في الفيلم الوثائقي «حكايات الأرض الجريحة» تعود الفنانة التشكيلية اللبنانية نور بلوق للوقوف أمام الكاميرا بعدسة زوجها المخرج العراقي عباس فاضل الذي وثّق حياتهما خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، فعلى مدار أكثر من ساعتين نتابع تفاصيل كثيرة من حياة الفنانة اللبنانية وطفلتها وزوجها، من بينها لحظات صعبة في خلفيتها أصوات الانفجارات، وتفاصيل النزوح من الجنوب اللبناني والعودة بعد وقف إطلاق النار.
الفيلم الذي حصد عنه فاضل جائزة أفضل مخرج في النسخة الماضية من مهرجان «لوكارنو السينمائي» وشارك في مهرجان «الجونة السينمائي»، الشهر الماضي، يواصل جولته بعدد من المهرجانات السينمائية من بينها مهرجان «باري» في إيطاليا الشهر الجاري.
تقول نور بلوق لـ«الشرق الأوسط» إن «فكرة الفيلم لم يكن مخططاً لها منذ البداية، لكون المشروع وُلد من قلب الحرب الإسرائيلية على لبنان، حين اضطرت العائلة للنزوح المفاجئ تحت القصف الكثيف، ولم يكن في مقدورهم سوى أخذ بعض الثياب القليلة معهم، تاركين خلفهم الكاميرات وعدّة التصوير في المنزل»، مشيرة إلى أنها بعد نحو شهر من النزوح، قررت العودة بمفردها إلى البيت رغم المخاطر الكبيرة، لتجلب الكاميرات بنفسها.

شعرت الفنانة التشكيلية اللبنانية بأن عليهم توثيق ما يحدث لهم، فلم تكن تعلم ما الذي سيفعلونه، وفق قولها، واستدركت: «لكن كان ضرورياً أن نُسجّل الواقع الذي نعيشه لحظة بلحظة، وفور عودتي بالكاميرات بدأ زوجي المخرج عباس فاضل التصوير ليوثّق كل ما حولنا من تفاصيل الحرب والنزوح، لينطلق العمل الفعلي عقب إعلان وقف إطلاق النار الذي كان أشبه بالوهم مع استمرار القصف».
ترى نور بلوق أن تلك الفترة أتاحَت لهم العودة إلى منزلهم واستئناف التصوير بصورة مكثّفة، وفوجئت عندما أخبرها زوجها برغبته في تصويرها هي وابنتهما ضمن أحداث الفيلم، لكنها تقبّلت الأمر سريعاً لأنها اعتادت المشاركة معه في أعمال سابقة، لكن هذه المرة جرى التصوير بظروف شديدة القسوة والخطورة، «فالقصف لم يكن يتوقف، وكثيراً ما اضطررنا إلى التوقف فجأة والاحتماء داخل البيت خوفاً من سقوط القذائف»، على حد تعبيرها.
تستذكر الفنانة اللبنانية أجواء التصوير بالقول: «كنا نخرج للتصوير، وفجأة نسمع صوت الانفجارات قريبة جداً، فأطلب من عباس العودة إلى الداخل خشية أن يصيبنا شيء، لقد عشنا الخطر بكل تفاصيله»، مؤكدة أن التصوير بعد الحرب لم يكن أقل خطراً؛ إذ زاروا مناطق مدمّرة مليئة بالألغام والزجاج المكسور، وكانت ابنتها ترافقهما طوال الوقت، وتابعت: «كنت أراقبها وأحذرها في كل لحظة؛ لأن المكان كان لا يزال يحمل آثار الدمار والحرائق ورائحة الصواريخ».
وعن أصعب اللحظات التي عاشتها أثناء التصوير، قالت نور بلوق إنها كانت تخشى كثيراً على ابنتها، خصوصاً في المشاهد التي صُوّرت بين المقابر، موضحة أن «تلك اللقطات كانت شديدة الوقع عليها نفسياً، كانت ابنتي صغيرة ولا تدرك ما يجري حولها، ورؤيتها تسير بين القبور كانت لحظة قاسية عليّ كأم، لكنها في الوقت ذاته كانت لقطة فنية قوية تعكس التناقض بين الحياة والموت، وبين البراءة والدمار».

وأكّدت أن «الفيلم لم يكن عملاً تلفزيونياً أو تقريراً إخبارياً، بل تجربة إنسانية حيّة»، مستطردة: «نحن لم نكن نغطي الحدث من الخارج، بل كنّا جزءاً منه، نعيشه بكل تفاصيله، المخرج أراد أن يُظهر الوجع الإنساني قبل أي شيء آخر، لا الإحصاءات ولا الأرقام، بل مشاعر الناس ومعاناتهم الحقيقية؛ لأن هذه اللغة وحدها قادرة على لمس المتفرّج».
وأشارت إلى سعي الفيلم لتقديم صورة داخلية عن الحرب، بعيدة عن النظرة الإعلامية الباردة، موضحة أن «فاضل ركّز في لقطاته على وجوه الناس وانفعالاتهم، وجعلهم يروون حكاياتهم بأنفسهم؛ لأن الكلمة الصادقة تنبع من التجربة لا من التحليل».
أما عن تركيز الفيلم على رصد تدمير البنية الثقافية والمدنية في لبنان، فأوضحت نور أن «هذا الجانب كان حاضراً بقوة في رؤية العمل؛ إذ حرصنا على إظهار أن أهداف الحرب لم تكن عسكرية فحسب، بل طالت الإنسان في جوهره، واستهدفت ذاكرته وثقافته وهويته، وأن القصف لم يميز بين بيت وآخر، فالفنانون والمكتبات والمنازل كانت جميعها في مرمى الدمار، فالحرب لم تكتفِ بتدمير الحجر، بل سعت إلى طمس الروح الثقافية التي تشكّل جوهر المجتمع اللبناني».
وعن اللحظة التي شعرت فيها أن الفيلم اكتمل، لفتت إلى أن عباس فاضل يميل عادة إلى الأفلام الطويلة؛ لذلك حاولوا جعل هذه التجربة أكثر اختصاراً، «لكن حجم المادة المصوّرة كان هائلاً، فاستقرّ الفيلم على نحو ساعتين»، وفق قولها.
وأوضحت: «كل شخصية كانت تحمل وجعها الخاص، فهناك الفنان الذي خسر أعماله، والمثقف الذي فقد مكتبته، وكل بيت في الجنوب كان يحكي قصة ألم إنساني مختلفة».
ورغم أنها ليست من الأشخاص الذين يفضّلون الظهور أمام الكاميرا، لكنها شعرت في هذا الفيلم بأن وجودها ضرورة إنسانية وفنية في آنٍ واحد، مستذكرة عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان «لوكارنو» بدورته الماضية بعدما شاهدت الفيلم للمرة الأولى بالسينما في لحظة وصفتها بـ«الصعبة والعاطفية».
تقول نور: «رغم أنني عشت تلك الأحداث لحظة بلحظة، فإن رؤيتها مجدداً كانت مؤلمة؛ لأن كل مشهد يعيد إليك الرعب والحنين معاً»، معتبرة أن فكرة الهجرة من لبنان لم تكن مطروحة بالنسبة لهما رغم امتلاك زوجها جنسية فرنسية، مضيفة: «النزوح الداخلي كان أهون من الهجرة؛ لأنك تبقى قريباً من أهلك وبيتك، أما البعد في الخارج فهو أشد قسوة، فقد جربت الغربة من قبل وعرفت كم هي مؤلمة؛ لذلك اخترنا أن نبقى في لبنان مهما كان الثمن».


