مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند يؤكد على دور التراث العالمي في الحوار بين الشعوب

يقام لأول مرة منذ 40 عاماً خارج باريس

جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)
جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)
TT

مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند يؤكد على دور التراث العالمي في الحوار بين الشعوب

جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)
جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)

ليس بعيداً عن ساحة «ريجستان» قلب مدينة سمرقند التاريخي، افتُتحت الخميس، الدورة الـ43 للمؤتمر العام لـ«يونيسكو»، الذي يُقام لأول مرة خارج باريس منذ 40 عاماً، ويستمر حتى 13 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

ويمثل عقد الدورة الحالية لـ«يونيسكو» في سمرقند أهمية الدور المتزايد لأوزبكستان بوصفها مركزاً للحوار الثقافي والعلمي العالمي.

ويبلغ عدد المشاركين في هذا المؤتمر ما بين 4 - 5 آلاف مشارك من 194 دولة، بما في ذلك رؤساء دول، ووزراء، ومندوبون رسميون، وخبراء وشخصيات دولية بارزة.

وفي كلمتها في افتتاح المؤتمر، أكدت أودري أزولاي، المديرة العامة لـ«يونيسكو» على أهمية الحفاظ على التراث الإنساني والدفاع عن التنوع البشري.

وأعلنت أزولاي عن مبادرة تقودها «يونيسكو» بالتعاون مع إيطاليا لإعادة تأهيل متحف حلب، أسوة بالجهود المبذولة لإعادة ترميم متحف دمشق في سوريا، بعد الأحداث التي شهدها هذا البلد.

وأثنت على دور «يونيسكو» في إعادة إعمار المواقع التاريخية في الموصل بالعراق، حيث تعمل «يونيسكو» منذ عام 2018 بالتعاون مع الحكومة العراقية ودولة الإمارات والاتحاد الأوروبي وشركاء آخرين، لإعادة بناء المعالم الثقافية، التي دمرها تنظيم «داعش» الإرهابي، بينها إعادة بناء مسجد النوري المشهور مع مئذنته المائلة ودير الساعة «السيدة العذراء» وكنيسة «الطاهرة» للسريان الكاثوليك، بالإضافة إلى 124 منزلاً قديماً ومسجد الأغوات ومدرسة الإخلاص في المدينة القديمة.

وقالت: أطلقنا في الموصل أكبر عملية في تاريخ المنظمة، شملت جميع قطاعاتها. وتم حشد 115 مليون دولار لإعادة تأهيل المدينة القديمة وأحيائها التاريخية، وخلق آلاف الوظائف، وتعليم 120 ألف تلميذ، وترميم كنيسة الطاهرة ودير الساعة، وإعادة بناء مسجد النوري ومنارته.

واستذكرت المديرة العامة لـ«يونيسكو» أودري أزولاي، في افتتاح الدورة الـ43 للمؤتمر العام لـ«يونيسكو»، وصف الروائي اللبناني أمين معلوف لمدينة سمرقند، بأنها «أجمل وجه أطلّت به الأرض نحو الشمس».

وأضافت أنها مدينة أسطورية، جغرافيتها وتاريخها يمثّلان دعوة إلى الحوار والتبادل، في مواجهة إغراءات الانقسام. ترك الفرس واليونان والعرب والترك والمغول وغيرهم بصماتهم في هذه المدينة التاريخية.

وقالت إن المؤتمر العام يستعد لانتخاب مدير عام جديد سيتولى مهامه خلال أيام.

وأضافت: «في وقت لم تعد فيه قيمة التعددية بديهية، أثبتنا معاً أهمية الحوار والعمل المشترك، وهذه هي أفضل إجابة على الانتقادات التي تواجهها المنظمات الدولية».

وقالت: «خلال ثماني سنوات، زادت موارد (يونيسكو) بنحو 800 مليون دولار، أي أكثر من 82 في المائة، رغم غياب المساهمة الأميركية المؤقتة».

وقالت إن «يونيسكو» طوَّرت برامج لمكافحة العنصرية ومعاداة السامية، ونواصل الكفاح من أجل تعليم الفتيات في أفغانستان، حيث تُحرم الملايين من حق التعلم.

وأضافت: «نخصص اليوم نحو 20 في المائة من ميزانيتنا للمساواة بين الجنسين».

وقالت إن «يونيسكو» دربت 36 ألف قاضٍ و12500 من رجال الأمن في 150 دولة على حرية الصحافة ومكافحة الجرائم ضد الصحافيين.

كما اعتمدت أيضاً توصية «أخلاقيات الذكاء الاصطناعي» عام 2021، وهي اليوم المعيار العالمي الوحيد في هذا المجال.

وأضافت: «نعمل مع نحو 80 دولة لوضع استراتيجيات للذكاء الاصطناعي، منها سلوفاكيا وصربيا».

الرئيس شوكت ميرضيائيف رئيس أوزبكستان وأودري أزولاي المديرة العامة لـ«يونيسكو» قبيل انطلاق المؤتمر (المكتب الإعلامي للرئيس الأوزبكي)

من جانبه، أكد الرئيس شوكت ميرضيائيف، رئيس أوزبكستان، أن المواقع التاريخية ومراكز التراث الإنساني تتعرض لأضرار جسيمة نتيجة الأوضاع المضطربة في أجزاء واسعة من العالم.

كما حذَّر الرئيس الأوزبكي من أن الفارق التكنولوجي بين الدول أوجد انعداماً في تكافؤ الفرص بين الدول لتطوير وصيانة مواقعها التراثية والاستفادة منها.

وأكد على الأولويات الرئيسية للتعاون الدولي في التعليم والثقافة والعلوم.

وأعرب عن استعداد بلاده للعمل تحت رعاية «يونيسكو» لإقامة مشروع نموذجي للذكاء الاصطناعي يسهم في حفظ التراث الثقافي وتعريفه للعالم. مؤكداً ضرورة تعزيز الجهود المشتركة لصون التراث العالمي الإنساني وحفظ عناصر التراث الفريدة، وخاصة الوثائق القديمة.

وفي هذا الصدد، أعلن الرئيس الأوزبكي اقتراح إطلاق يوم 19 نوفمبر من كل عام «يوماً عالمياً للتراث الوثائقي»، مشدداً على أهمية قيام «يونيسكو» بدور فاعل في صيانة الوثائق وحفظها وتسجيلها وتمكين الباحثين من الوصول إليها.

ويعقد مؤتمر اليونيسكو في سمرقند لأول مرة منذ أربعين عاماً؛ ما يمثل اعترافاً كبيراً بأوزبكستان ودورها الحضاري المتنامي في آسيا الوسطى، بصفتها جوهرة طريق الحرير القديم بين أوروبا والشرق الأقصى.

جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)

وتعدّ المواقع التاريخية المسجلة في التراث العالمي، شاهداً على ازدهار سمرقند مركزاً علمياً وتجارياً على طريق الحرير، ومثالاً على تفاعل الثقافات الفارسية والتركية والعربية.

ويناقش المؤتمر قضايا عالمية، مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وحماية التراث الثقافي، ومستقبل التعليم، وتعديل التوصية العالمية الأولى حول أخلاقيات تقنيات الأعصاب. ويتضمن جلسات برلمانية، ولقاءات لجان، ومعارض ثقافية، وفعاليات جانبية، مثل افتتاح «حديقة خضراء» للاستدامة، ومناقشات حول حقوق المرأة والذكاء الاصطناعي في الحفاظ على التراث. ويعقد في مركز «طريق الحرير سمرقند» للمؤتمرات.

ومن المتوقع أن يركز المؤتمر على أهمية التعاون متعدد الأطراف في مواجهة التحديات العالمية، مع تسليط الضوء على دور سمرقند التاريخي، والاحتفاء بسمرقند بصفتها ملتقى للحضارات على طريق الحرير ومركزاً للحوار الثقافي.

نحو 150 مشاركاً شبابياً من أكثر من 140 دولة في فعاليات منتدى الشباب الـ14 لليونسكو في سمرقند (اليونسكو)

وتناقش إحدى جلسات المؤتمر أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، مع التأكيد على أهمية القضايا المتعلقة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؛ تمهيداً لاعتماد توصيات مهمة في هذا المجال.

كما يناقش موضوع التعليم والتنمية المستدامة، مع تأكيد الحاجة إلى تطوير المهارات لمواكبة المستقبل المستدام.

وتُعدَّ سمرقند مدينةَ تراث عالمي لـ«يونيسكو» منذ 2001، الخلفية المثالية لهذا الحدث التاريخي على طريق الحرير، وتشهد هذه الفعاليات مشاركة دولية واسعة، وتُبرز دور أوزبكستان مركزاً للدبلوماسية الثقافية.

وسبق المؤتمر منتدى الشباب الـ14 لـ«يونيسكو»، الذي انطلق يومي 27 - 28 أكتوبر (تشرين الأول)، ويجمع نحو 150 قائداً شبابياً من أكثر من 140 دولة تحت شعار «الفعل المناخي والتأثيرات الاجتماعية، خاصة على الشباب». ويركز على حلول الشباب للتحديات المناخية والتغيير الاجتماعي، ويُعدّ جزءاً أساسياً من التحضير للمؤتمر العام، وإجراء مناقشات حية حول التعاون الدولي والابتكار في مجالات الصحة والتعليم والتكنولوجيا.

كرنفال ثقافي عالمي

ويصاحب انعقاد الدورة الحالية لـ«يونيسكو» فعاليات ثقافية وفنية مصاحبة تحولت خلالها سمرقند «كرنفالاً ثقافياً عالمياً»، ومن الفعاليات البارزة حفل جان ميشيل جار، حيث يحيي الموسيقي الفرنسي العالمي وسفير «يونيسكو» للنوايا الحسنة حفلاً موسيقياً كبيراً في ميدان ريجستان التاريخي في 1 نوفمبر.

كما يقام حفل توزيع جائزة البيروني الدولية، وهي الجائزة الجديدة التي أنشأتها «يونيسكو» وحكومة أوزبكستان لتكريم المساهمات في تطوير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.

ويقام ماراثون سمرقند، الذي يمر عبر شوارع المدينة التاريخية.

يمثل عقد الدورة الحالية لليونسكو في سمرقند أهمية الدور المتزايد لأوزبكستان كمركز للحوار الثقافي والعلمي العالمي (اليونسكو)

‏وأقيم في مركز المؤتمرات عرض موسيقي قدمه المايسترو فلاديمير سبيفاكوف وعازفة البيانو هيلين ميرسييه، ضمن الفعاليات الثقافية في افتتاح المؤتمر.

وتُقام في المساء عروض فنية وثقافية مصاحبة، بما في ذلك حفل موسيقي يحييه المايسترو فلاديمير سبيفاكوف والفنان جوناس كوفمان.

وتمثل هذه الفعاليات مناسبة فريدة لأوزبكستان لعرض تراثها العريق ورؤيتها المستقبلية للعالم.

السياحة الثقافية

وتراهن أوزبكستان، وسط أجواء انفتاح ثقافي واستراتيجي متسارع، على ثقلها الحضاري ومخزونها الإسلامي العريق، لتصبح أحد أبرز المقاصد السياحية الجديدة لزوار العالمين العربي والإسلامي. فبسبعة مواقع مدرجة في قائمة «يونيسكو» للتراث العالمي، ومدن تاريخية أسطورية مثل سمرقند وبخارى وخيوة، تقدم أوزبكستان من خلال آثارها رواية متكاملة عن الذاكرة الإسلامية الحية التي شهدها هذا البلد وموقعه المتميز في آسيا الوسطى.

وابتداءً من عام 2025، تم تضمين سبعة مواقع في أوزبكستان ضمن مواقع للتراث العالمي، وأُدرجت هذه المواقع في قائمة «يونيسكو»، حيث أُدرجت مدينة خيوة بوصفها أول مدينة في هذه القائمة، بالإضافة إلى مواقع أخرى، مثل مدن سمرقند وبخارى وشهرسبز وممر طريق الحرير الذي يسير عبر 3 مناطق في أوزبكستان.

وهناك مواقع طبيعية مثل «ويسترن صن شاين»، التي تم إدراجها في قائمة التراث العالمية.


مقالات ذات صلة

40 مليون دولار دعم سعودي إضافي للتعليم في اليمن بشراكة أممية

العالم العربي توقيع اتفاقية ثلاثية لدعم التعليم في اليمن بتمويل سعودي قدره 40 مليون دولار (سبأ)

40 مليون دولار دعم سعودي إضافي للتعليم في اليمن بشراكة أممية

شهدت الرياض، الخميس، توقيع اتفاقية شراكة ثلاثية بين وزارة التربية والتعليم اليمنية، والبرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، ومنظمة اليونيسكو، بـ40 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق صورة من حساب القنصلية المغربية بباريس على «إكس»

القفطان المغربي… أناقة عبر القرون تتوجها «اليونيسكو» باعتراف عالمي

اعتراف عالمي بثراء التراث المغربي، وبقدرة هذا القفطان العريق على أن يتحول إلى لغة ثقافية عابرة للحدود، تجمع بين الجمال والهوية وتستمر في الإلهام عبر الزمن.

كوثر وكيل (نيودلهي )
يوميات الشرق الكشري من الأكلات الشهيرة بمصر (تصوير: عبد الفتاح فرج) play-circle 02:04

الكشري المصري يُتوِّج مذاقه الفريد بالتسجيل في تراث اليونيسكو

بعد عامين من الجهود المتواصلة لإدراج «الكشري» ضمن القائمة التمثيلة للتراث الثقافي العالمي غير المادي بمنظمة اليونيسكو، نجحت مصر أخيراً، في تسجيل الأكلة الشعبية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق الكشري عبارة عن طبق شعبي واسع الانتشار في مصر من المعكرونة والأرز والعدس والبصل المقلي (بيكسلز)

البشت الخليجي والكشري المصري ضمن 68 ترشيحاً لقائمة اليونيسكو للتراث الثقافي

سينافس البشت الخليجي وطبق الكشري المصري والشعر الموسيقي اليمني ضمن 68 ترشيحاً تنتظر موافقة منظمة اليونيسكو لإضافتها لقائمة التراث الثقافي غير المادي.

«الشرق الأوسط» (باريس - نيودلهي)
يوميات الشرق أعضاء نادي اليودلينغ السويسري يؤدّون عرضاً في كنيسة بلومّيس بالتزامن مع بحث إدراج هذا الفن على قائمة التراث غير المادي لـ«اليونيسكو» (إ.ب.أ)

غناء اليودلية والطبخ الإيطالي مرشحان للانضمام إلى تراث «اليونيسكو» الثقافي

من المقرر أن يبدأ خبراء  في «اليونيسكو» مداولاتهم في الهند، اليوم (الاثنين)، بشأن الممارسات والتقاليد التي يجب إعلانها كتراث ثقافي غير مادي.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي )

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان
TT

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة في ذلك الدرس الأسبوعي الكبير للبروفسور محمد أركون في السوربون. كان دائماً برفقة شخص آخر هو معجب الزهراني. وكنا نرى فيهما الوجه المشرق والمتألق للمملكة العربية السعودية. وما كنا نعرف آنذاك أن معجب سيصبح لاحقاً أحد أشهر المثقفين العرب. وسوف يتبوأ أعلى المناصب في العاصمة الفرنسية: مديراً عاماً لمعهد العالم العربي. كان طالباً عادياً مثلنا لا أكثر ولا أقل. وقد شعرنا بالفخر آنذاك لأن أحد أبناء جيلنا وصل إلى هذا المنصب الرفيع. هذا ناهيك بكونه ناقداً أدبياً وأستاذاً جامعياً لامعاً. وأعتقد أن أحمد أبو دهمان كان فخوراً به إلى أقصى الحدود. كنا مجموعة من الطلاب العرب نحضر تلك الدروس الشهيرة في ثمانينات القرن الماضي وربما تسعيناته. وهي الدروس التي جددت الفكر العربي الإسلامي بشكل غير مسبوق. إنها دروس دخلت التاريخ من أوسع أبوابه بل ودشنت التاريخ العربي ما بعد الأصولي. وقد أصبح بعض طلابه من المشاهير لاحقاً. فبالإضافة إلى الدكتور معجب الزهراني يخطر على بالي الآن شخص آخر نال شهرة واسعة هو الدكتور التونسي محمد الحداد. وهناك حتماً آخرون في مشرق العالم العربي ومغربه ممن خرجهم ذلك الدرس الأكاديمي العبقري الخالد.

فيما بعد توطدت علاقتي بأحمد أبو دهمان عندما تفضل علي واستكتبني في جريدة «الرياض» الغراء. ولم أكن معروفاً آنذاك كثيراً. ولكنها ساهمت في التعريف بي عندما نشرت مقالاتي على صفحاتها الثقافية تحت إشراف الشاعر سعد الحميدين. وكنت أشعر بمتعة كبيرة في تدبيج تلك المقالات وتسليمها له باليد كل أسبوع لكي يرسلها إلى الجريدة. كان يعطيني عادة موعداً في مقاهي باريس القريبة من منزله في الدائرة الخامسة عشرة. وهي منطقة اليونيسكو وبرج إيفل في الواقع: أي من أرقى المناطق الباريسية وأحلاها. وكنا نتحادث كثيراً في المقهى ويجر الحديث الحديث. وما أمتع الحديث مع أحمد أبو دهمان. ما أمتع تلك الأحاديث الباريسية أيام زمان. كم أصبحت الآن بعيداً عنها وعني. وفي عهده الميمون بصفته مسؤولاً عن جريدة الرياض في باريس لم يكتف بنشر مقالاتي المتفرقة على صفحات الجريدة السعودية الكبيرة وإنما كلفني أيضاً بنشر كتابين لا كتاب واحد في سلسلة «كتاب الرياض». وهي سلسلة مشهورة ولها وزنها. وقد كان الكتاب الأول بعنوان: «قراءة في الفكر الأوروبي الحديث»، والثاني بعنوان: «العلم والإيمان في الغرب الحديث». وهما أول كتابين أنشرهما في حياتي. ومن ثمّ فجريدة الرياض لها فضل كبير علي.

ثم ابتدأت في السنوات اللاحقة أنشر أكثر فأكثر على صفحات «الشرق الأوسط» وانقطعت علاقتي مع الرياض تدريجياً. وقد تزامن ذلك مع عودتي إلى المغرب وعودته هو إلى السعودية.

كنا نعرف أحمد أبو دهمان كاتباً حساساً وصحافياً لامعاً لاذع الأسلوب أحياناً. ولكن ما كنا نعرف أنه روائي يستطيع السيطرة على فن القصة من أولها إلى آخرها. وهنا تكمن المفاجأة الأولى لكل من يعرفونه من كثب. يحصل ذلك كما لو أنه خبأ سره أو لعبته زمناً طويلاً حتى انفجرت في آخر لحظة كالقنبلة الموقوتة. ولكن هل كان هو ذاته يعرف أنه قادر على فن السرد الروائي إلى مثل هذا الحد. ألم يكن يحسب نفسه شاعراً، وشاعراً فقط. وقد كان شاعراً بالفعل. وروايته تضج بالشعر. هذا لا يمنع ذاك. في الواقع أن الكاتب (أي كاتب) لا يعرف من هو بالضبط قبل أن يجرب نفسه. من المعلوم أن نجيب محفوظ كان يعتقد في البداية أنه سيصبح مفكراً أو فيلسوفاً على طريقة طه حسين. ولذلك راح يدبج المقالات الفكرية أو الاجتماعية قبل أن يكتشف في حناياه موهبته الضخمة بوصفه روائياً عبقرياً.

أما المفاجأة الثانية في حالة أحمد أبو دهمان فهي أنه يكتب روايته الأولى بالفرنسية وينجح نجاحاً باهراً. ولعله المشرقي الوحيد الذي حقق هذا الاختراق في الساحة الفرنسية إذا ما استثنينا أمين معلوف بالطبع. ولكن أمين معلوف لبناني تعلم الفرنسية منذ نعومة أظفاره وليس على كبر كما هي حالة أبو دهمان وحالتنا جميعاً. وأما المفاجأة الثالثة فهي أن الرواية (رواية الحزام) حظيت بالطبع في أشهر دور النشر الباريسية: غاليمار. ومعلوم كم هو من الصعب الوصول إلى هذه الدار التي لا تنشر عادة إلا لكبار الكتاب المكرسين سابقاً. ثلاث مفاجآت دفعة واحدة كانت كافية لكي تجعل من هذه الرواية السعودية حدثاً ثقافياً على كلا المستويين العربي والفرنسي. ولكن عن أي شيء نتحدث بالضبط؟ ما مضمون هذه الرواية؟

لنقل باختصار شديد إنها سيرة ذاتية مقنعة. بالطبع فإن الكاتب يستطيع أن يختبئ خلف الروائي بطل القصة ويقول: لا تصدقوا ما أقول. هذا كله خيال في خيال. لا تأخذوا الكلام على حرفيته فهناك دائماً مسافة بين الكتابة الروائية والواقع الحقيقي. وهذا صحيح. ولكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا من الاعتقاد بأن الكاتب استوحى أحداث الرواية من حياته الشخصية خاصةً. فهناك توازٍ (إن لم يكن تطابقاً) بين حياة البطل وحياة أحمد أبو دهمان ذاته. ويتجلى هذا التطابق عندما يقول الراوي إنه سيصبح صحافياً لاحقاً، أو عندما يتحدث باستمرار باسم ضمير الشخص الأول، أو عندما يصف مساره من القرية إلى مدينة «أبها» عاصمة الإقليم، إلخ. وهو مسار كلاسيكي معهود لجميع أبناء الريف الفقراء الذين يريدون أن يتعلموا ويخرجوا من هامشيتهم ويصعدوا في المراتب الاجتماعية ويصلوا... وفي هذا الصعود إلى القمة تتجلى لنا ضخامة الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريقهم. ينبغي أن يخترقوا عدة حواجز قبل أن يصلوا. ولا يصل في نهاية المطاف إلا النجباء منهم والذين عانوا الأمرّين وصبروا حتى النهاية. وهكذا تنطبق عليهم كلمة نيتشه الشهيرة: «وحدها الشخصيات الاستثنائية تخترق الظروف».

هناك إذن ثلاث بيئات في الرواية: بيئة القرية الأولى، وبيئة مدينة أبها عاصمة الإقليم، وبيئة العاصمة المركزية الكبرى: الرياض. وقد توقف الكاتب طويلاً عند تصوير البيئة الأولى بكل حجرها وشجرها وبشرها وطبيعتها. وقدم لنا لوحات أخاذة لا تقل جاذبية عن أجمل اللوحات الفنية ورسوم المدرسة الانطباعية الفرنسية. ويبدو أن الكاتب كان يجد متعة كبيرة في استعادتها واستذكارها وهو بعيد عنها في باريس. فهل الرواية عبارة عن تصفية حسابات مع الذات والطفولة بالمعنى الإيجابي للكلمة وليس السلبي؟ دون شك. لنقل إنها مراجعة للذات واستكشاف لهوية الذات وأعماقها على كبر. إنها بحث عن الجذور وحنين جارف إلى الأصول لشخص أراد تخليد قريته وطفولته في عمل أدبي رفيع. وربما لهذا السبب نشرتها غاليمار في سلسلة «الطفولة الأولى». بعد أن كتب هذه الرواية يستطيع أحمد أبو دهمان أن يتنفس الصعداء ويقول: لقد أديت واجبي وسددت ديوني. لقد تصالحت مع نفسي.

هناك مشاهد سينمائية أو شبه سينمائية في الرواية حتى لكأنك تحسها وتراها بأم عينيك. ومنها مشهد ذهاب أمه في منتصف الليل لجمع الحطب مع نساء القرية كما كانت تفعل أمي أنا أيضاً. إنه مشهد يصعب عليك أن تمر عليه مرور الكرام دون أن ترتجف. بالمختصر المفيد ما يلي: كل النساء العائدات وأكوام الحطب على رؤوسهن يمضغن بعض الخبز لتخفيف العناء والتعب والجوع ما عدا أمه التي تعض على الحبل بنواجذها موهمة بأنها تأكل شيئاً مثلهن. لقد قتلني هذا المقطع قتلاً، دمرني تدميراً. ولكنه أحياني وأنعشني في الوقت نفسه لأنه أعادني إلى طفولتي العميقة، طفولتي السحيقة. شكراً أحمد أبو دهمان. ألف شكر. إنه الفقر المدقع، الفقر الأسود، ولكنه الممزوج بالشرف وعزة النفس.

هذه قراءة سريعة وناقصة جداً لرواية أحمد أبو دهمان، التي دخلت التاريخ الآن. وهي تشكل مفخرة ليس فقط له، وإنما للأدب السعودي الحديث كله، بل وللآداب العربية بأسرها. تحية لك يا أحمد. تحية لك كاتباً مبدعاً وفارساً عربياً ترجل. كنا نتمنى لو بقيت معنا فترة أطول.


التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار
TT

التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار

عاد الشتاء وعاد التحديق الموسمي في النار. النار ليست مادة، بل لغز. تاريخياً، لم يكن طهي الطعام والدفء هما الغرضان الوحيدان، بل كان الإنسان يصف صلي عظامه وجروحه بالنار علاجاً لكل أوجاعه التي يعرفها والتي لا يعرفها، كقوة تطهير. من الصداع وأوجاع الظهر إلى عضّات الحيوانات ولسع العقارب والحيّات، كان يعالج كل ذلك بالاصطلاء والكي.

لكن التحديق في النار وفي حركتها الأفعوانية التي لا تستقر على شكل ثابت ولا تعيد نفسها مرتين، يشعر بأن هذا المشهد ليس مجرد رؤية عابرة، بل انجذاب صامت يعلق بالفكر. ثمة شيء في النار يدعو إلى السكون أمام شيء ذي قداسة وهيبة. كأنها تخاطب طبقة أقدم من العقل، طبقة لا تستجيب بسهولة للتفسير. في لحظة التحديق يأبى الذهن بغريزته الأولى، كل محاولة لاختزالها إلى شيء محدد. النار لا تحضر أمامي كجسم، بل كفعل وحركة خالصة. إنها صيرورة تُرى ولا تُمسك. ولهذا يبدو أي تعريف مادي لها ناقصاً منذ البداية، مهما بدا مطمئناً أو دقيقاً.

تقول الفيزياء والكيمياء الحديثة إن اللهب ليس مادة صلبة ولا سائلة، بل مزيج من غازات متوهجة وبلازما ضعيفة ناتجة عن الاحتراق. هذا توصيف دقيق من حيث القياس والتحليل، لكنه لا يلامس جوهر تجربتنا الحية بالنار. إنه يشرح شروط الظهور، لا معنى الحضور. العلم هنا يتعقب الظاهرة، ويفككها إلى عمليات وجسيمات وانتقالات طاقة، لكنه لا يجيب عن السؤال الذي يفرض نفسه، ماذا تكون النار في ذاتها؟ بل لعل هذا الوصف العلمي، بدل أن يحسم المسألة، يزيدها تعقيداً، لأنه يعترف ضمنياً بأن النار ليست شيئاً قائماً بذاته. ما يظهر كمادة ليس إلا وسيطاً تمر عبره النار، لا النار نفسها، ولهذا لا يمكن تثبيتها في مفهوم واحد.

من هذا التوتر بين ما يُعاش وما يُفسَّر، نعود إلى البدايات الأولى للفلسفة، إلى الفلاسفة الأيونيين الذين جرى تصويرهم طويلاً بوصفهم ماديين بدائيين. غير أن هذا التصوير يخفي أكثر مما يكشف. فطاليس حين قال إن الماء هو المبدأ الأول لم يكن يتكلم عن سائل محسوس، بل عن مبدأ حيّ قادر على التحول والتولد. وأنكسيمانس حين جعل الهواء أصلاً لم يكن يقصد هواء التنفس، بل قوة لطيفة تتكاثف وتتخلخل فتنتج الكثرة. أما أنكسيمندر، حين تحدث عن غير المتعين، فقد تجاوز أصلاً فكرة المادة المحددة، ووضع مبدأ لا يُرى ولا يُمسك. سؤالهم لم يكن مما صُنع العالم كجسم، بل كيف يصير، وكيف يتحول، وكيف يمكن للعقل أن يفهم الحركة نفسها.

في هذا السياق تُظهر نار هيراقليطس معناها الحقيقي. فهي ليست عنصر الموقد، ولا مادة فيزيائية، بل صورة فلسفية للصيرورة الدائمة. النار عنده تعبير مكثف عن عالم يقوم على التوتر والصراع والتحول المستمر. إنها تقول إن الوجود لا يُفهم من خلال الثبات، بل من خلال التغير، وإن الحقيقة ليست ما يستقر، بل ما يتبدل. ولهذا لا تكون نار هيراقليطس مبدأً مادياً بالمعنى الحرفي، كما يروج الماديّون، بل لغة فكرية تشير إلى أن العالم فعل وحركة لا جوهر، وأن العقل نفسه لا يستطيع أن يفهم الكون إلا إذا تخلى عن وهم السكون.

هذا الحدس القديم يجد امتداده المعاصر عند غاستون باشلار. ففي كتابه «التحليل النفسي للنار» لا يسعى إلى تقديم نظرية علمية جديدة، بل إلى قلب زاوية النظر رأساً على عقب. إنه يعيد النار من المختبر إلى المخيلة، ويقول إن الخطأ لم يكن في اختيار النار موضوعاً للتفكير، بل في اختزالها إلى مادة. النار، في نظره، صورة نفسية عميقة، تسكن الإنسان قبل أن يفكر فيها علمياً، وتسبق المفهوم والتجربة المعملية معاً. إنها ترتبط بالرغبة والمعرفة والعدوان والألفة في آن واحد، ولهذا تملك هذه القدرة الغريبة على لفت النظر وإيقاف الزمن، فننظر إليها في صمت وإجلال.

يرى باشلار أن التحديق في النار فعل تأملي بدائي، يكشف عن أحلام السيطرة والتحول والتطهير. في النار نحلم بالقوة، لكننا نستحضر الخطر أيضاً، وننجذب إليها بقدر ما نخشاها. إنها تجمع الأضداد النفسية، الدفء والدمار والسكينة والتهديد، ولهذا كانت حاضرة في الأساطير والطقوس وتاريخ السحر وذاكرة الشعر، لا بوصفها عنصراً طبيعياً فقط، بل بوصفها تجربة داخلية كثيفة. والعلم، بحسب باشلار، لم يتقدم إلا حين قطع مع هذه الخيالات النارية الأولى، لكنه حين فعل ذلك ربح الدقة وخسر المعنى، ربح السيطرة وخسر الدهشة.

وهنا لا يدعو باشلار إلى رفض العلم، بل إلى وضعه في موضعه. العلم يفسر الظواهر، لكنه لا يستنفد دلالتها. النار، حتى بعد كل التفكيك الفيزيائي، تظل تجربة تُعاش قبل أن تُحلل، وتظل قادرة على إرباك العقل الذي يريد تحويل كل شيء إلى موضوع يمسك به ويهيمن عليه. ولهذا يحوّل باشلار السؤال مِن: ما النار؟ إلى ماذا تفعل النار في النفس؟ سؤال لا يبحث عن جوهر ثابت، بل عن أثر وعلاقة وصدى داخلي.

عند هذه النقطة يكتمل المسار النظري. تنتقل النار من كونها ظاهرة تُوصَف مادياً إلى كونها مبدأً دلالياً للصيرورة عند الفلاسفة الأيونيين، وتبلغ ذروتها الفلسفية عند هيراقليطس بوصفها لغة للتغير الدائم لا عنصراً فيزيائياً. ثم يأتي باشلار ليعيد توجيه السؤال، فلا يجعل النار موضوعاً للعلم ولا مبدأً كونياً، بل يجعلها مفتاحاً لفهم المخيلة الإنسانية ذاتها. عند هذا الحد تتكشف حدود المادية، لا بعدها خطأ، بل بوصفها أفقاً جزئياً ابتدائياً من أفق الفهم، وتظهر إمكانية تفكير آخر لا يُلغي العلم ولا يناقضه، بل يضعه في موضعه، ويذكّر بأن بعض الظواهر لا تُستنفد حقيقتها بما تتكوّن منه، بل بما تُحدثه في الوعي والخيال.

* كاتب سعودي.


«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني
TT

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

عن مركز أبو ظبي للغة العربية صدرت رواية «سنوات المغر» للكاتبة والشاعرة الإماراتية مريم الزرعوني، وذلك ضمن مشروع «قلم»، الذي «يدعم رعاية الأصوات السردية الإماراتية، لتأخذ فرصتها في منظومة السرد العربي المعاصر».

تقع الرواية في 223 صفحة من القطع المتوسط، وتتناول سيرة شخصية (غريب) المولود في الشارقة في زمن شكل مفترقاً تاريخياً حاسماً في الخليج العربي، حين كانت الهويات تتشكل والحدود ترسم ملامحها الراهنة. وتستعرض رحلة هذا البطل القلق في بحثه عن إثبات ذاته وإنسانيته، بينما تضعه الظروف في مواجهة عالم لا يعترف بالفرد إلا عبر الوثيقة، فتبدو مساراته وكأنها محاولة دائمة لانتزاع الاعتراف بوجوده.

وتنشغل بفكرة العبور بين الأمكنة والهويات، إذ يتحول الزمن إلى مادة قابلة للتأمل، بعيداً عن السيرة أو الشهادة المباشرة. تدخلنا الرواية عالم (غريب) بثقة، ولا ترفع صوتها، إنّما تهمس في وعي القارئ المحبّ، للدخول في حوارٍ إبداعي مع الرواية، بينما تتشكل الشخصية الرئيسة داخل فضاء خليجي متغير، محمّل بأسئلة الانتماء والذاكرة والحدود التي ترسمها التحولات الاجتماعية والسياسية. وتتميز بنبرة هادئة تتجنب الاستعراض، معتمدة على بناء داخلي متماسك، يسمح للشخصيات أن تنمو عبر التفاصيل الصغيرة بعيداً عن المنعطفات الصاخبة، واللغة فيها تتعدّى التوسّل بالحكي؛ لتخلق آليات تسهم في تركيب جديد للمعنى، وتتقدم بحذر، كما تسمح بظهور أشكال سردية محسوبة ومختلفة داخل الفضاء الطباعي، تزجّ بالقارئ في النصّ السيري المتخيّل، فاتحًة آفاقه أمام بناء التجربة الإنسانية من الداخل.

تسعى «سنوات المَغَر» إلى تقديم إجابة محتملة على سؤال الهويّة، ثم تترك الباب موارباً للتأمل في معنى العيش داخل تحولات كبرى. فدون ادعاء تمثيل جماعي، تنحاز الرواية إلى العمق الإنساني الغامض، وتسبر مسؤولية الفرد في تكوّن الهويّة، ومغبّات القرارات التي عليها سيتجلى المصير.

تستنطق الجمادات لتصبح شريكة في رواية الحكاية؛ فتروي شجرة وصخرة ومرآة وأطياف حلمية مقاطع من سيرة (غريب)، مانحة الرواية تعددية صوتية تعكس التوتر بين زمن الشظف وزمن الطفرة، وبين انكسارات الذات وتحولاتها داخل فضاءات الخليج الممتدة، وتنسج الكاتبة عبر هذا التمازج توازياً بين تحول المكان وتحولات الإنسان، في بناء سردي محكم يوثِّق الذاكرة ويستعيد طبقاتها المتراكمة.

تعد «سنوات المغر» العمل الروائي الأول لمريم الزرعوني الموجه للكبار، بعد أن قدمت رواية اليافعين «رسالة من هارفارد».

من أجواء الرواية نقرأ: «مّد يده وأطبقها على الغيمة وابتسم، شعر بدفء يسري من النافذة إلى جسده، أخذ يمرر سبابته على ملامحها ويرسمها حتى اكتملت، تحدّرت من عينيه دمعتان صارتا خيطين شفيفين يتصلان عند ذقنه مشكّلتين قطرة ضخمة تهوي بحرارتها على صدره، نادته المضيفة لتقديم وجبة الغداء، فلم يلتفت... كررت نداءها لكنّه لم يشعر، كان ملتصقاً بالنافذة مغموراً في حِجر سهيلة، يفتح فمه ثم يلوك النبق من يدها، غارقاً في حلاوته».