مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند يؤكد على دور التراث العالمي في الحوار بين الشعوب

يقام لأول مرة منذ 40 عاماً خارج باريس

جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)
جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)
TT

مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند يؤكد على دور التراث العالمي في الحوار بين الشعوب

جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)
جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)

ليس بعيداً عن ساحة «ريجستان» قلب مدينة سمرقند التاريخي، افتُتحت الخميس، الدورة الـ43 للمؤتمر العام لـ«يونيسكو»، الذي يُقام لأول مرة خارج باريس منذ 40 عاماً، ويستمر حتى 13 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

ويمثل عقد الدورة الحالية لـ«يونيسكو» في سمرقند أهمية الدور المتزايد لأوزبكستان بوصفها مركزاً للحوار الثقافي والعلمي العالمي.

ويبلغ عدد المشاركين في هذا المؤتمر ما بين 4 - 5 آلاف مشارك من 194 دولة، بما في ذلك رؤساء دول، ووزراء، ومندوبون رسميون، وخبراء وشخصيات دولية بارزة.

وفي كلمتها في افتتاح المؤتمر، أكدت أودري أزولاي، المديرة العامة لـ«يونيسكو» على أهمية الحفاظ على التراث الإنساني والدفاع عن التنوع البشري.

وأعلنت أزولاي عن مبادرة تقودها «يونيسكو» بالتعاون مع إيطاليا لإعادة تأهيل متحف حلب، أسوة بالجهود المبذولة لإعادة ترميم متحف دمشق في سوريا، بعد الأحداث التي شهدها هذا البلد.

وأثنت على دور «يونيسكو» في إعادة إعمار المواقع التاريخية في الموصل بالعراق، حيث تعمل «يونيسكو» منذ عام 2018 بالتعاون مع الحكومة العراقية ودولة الإمارات والاتحاد الأوروبي وشركاء آخرين، لإعادة بناء المعالم الثقافية، التي دمرها تنظيم «داعش» الإرهابي، بينها إعادة بناء مسجد النوري المشهور مع مئذنته المائلة ودير الساعة «السيدة العذراء» وكنيسة «الطاهرة» للسريان الكاثوليك، بالإضافة إلى 124 منزلاً قديماً ومسجد الأغوات ومدرسة الإخلاص في المدينة القديمة.

وقالت: أطلقنا في الموصل أكبر عملية في تاريخ المنظمة، شملت جميع قطاعاتها. وتم حشد 115 مليون دولار لإعادة تأهيل المدينة القديمة وأحيائها التاريخية، وخلق آلاف الوظائف، وتعليم 120 ألف تلميذ، وترميم كنيسة الطاهرة ودير الساعة، وإعادة بناء مسجد النوري ومنارته.

واستذكرت المديرة العامة لـ«يونيسكو» أودري أزولاي، في افتتاح الدورة الـ43 للمؤتمر العام لـ«يونيسكو»، وصف الروائي اللبناني أمين معلوف لمدينة سمرقند، بأنها «أجمل وجه أطلّت به الأرض نحو الشمس».

وأضافت أنها مدينة أسطورية، جغرافيتها وتاريخها يمثّلان دعوة إلى الحوار والتبادل، في مواجهة إغراءات الانقسام. ترك الفرس واليونان والعرب والترك والمغول وغيرهم بصماتهم في هذه المدينة التاريخية.

وقالت إن المؤتمر العام يستعد لانتخاب مدير عام جديد سيتولى مهامه خلال أيام.

وأضافت: «في وقت لم تعد فيه قيمة التعددية بديهية، أثبتنا معاً أهمية الحوار والعمل المشترك، وهذه هي أفضل إجابة على الانتقادات التي تواجهها المنظمات الدولية».

وقالت: «خلال ثماني سنوات، زادت موارد (يونيسكو) بنحو 800 مليون دولار، أي أكثر من 82 في المائة، رغم غياب المساهمة الأميركية المؤقتة».

وقالت إن «يونيسكو» طوَّرت برامج لمكافحة العنصرية ومعاداة السامية، ونواصل الكفاح من أجل تعليم الفتيات في أفغانستان، حيث تُحرم الملايين من حق التعلم.

وأضافت: «نخصص اليوم نحو 20 في المائة من ميزانيتنا للمساواة بين الجنسين».

وقالت إن «يونيسكو» دربت 36 ألف قاضٍ و12500 من رجال الأمن في 150 دولة على حرية الصحافة ومكافحة الجرائم ضد الصحافيين.

كما اعتمدت أيضاً توصية «أخلاقيات الذكاء الاصطناعي» عام 2021، وهي اليوم المعيار العالمي الوحيد في هذا المجال.

وأضافت: «نعمل مع نحو 80 دولة لوضع استراتيجيات للذكاء الاصطناعي، منها سلوفاكيا وصربيا».

الرئيس شوكت ميرضيائيف رئيس أوزبكستان وأودري أزولاي المديرة العامة لـ«يونيسكو» قبيل انطلاق المؤتمر (المكتب الإعلامي للرئيس الأوزبكي)

من جانبه، أكد الرئيس شوكت ميرضيائيف، رئيس أوزبكستان، أن المواقع التاريخية ومراكز التراث الإنساني تتعرض لأضرار جسيمة نتيجة الأوضاع المضطربة في أجزاء واسعة من العالم.

كما حذَّر الرئيس الأوزبكي من أن الفارق التكنولوجي بين الدول أوجد انعداماً في تكافؤ الفرص بين الدول لتطوير وصيانة مواقعها التراثية والاستفادة منها.

وأكد على الأولويات الرئيسية للتعاون الدولي في التعليم والثقافة والعلوم.

وأعرب عن استعداد بلاده للعمل تحت رعاية «يونيسكو» لإقامة مشروع نموذجي للذكاء الاصطناعي يسهم في حفظ التراث الثقافي وتعريفه للعالم. مؤكداً ضرورة تعزيز الجهود المشتركة لصون التراث العالمي الإنساني وحفظ عناصر التراث الفريدة، وخاصة الوثائق القديمة.

وفي هذا الصدد، أعلن الرئيس الأوزبكي اقتراح إطلاق يوم 19 نوفمبر من كل عام «يوماً عالمياً للتراث الوثائقي»، مشدداً على أهمية قيام «يونيسكو» بدور فاعل في صيانة الوثائق وحفظها وتسجيلها وتمكين الباحثين من الوصول إليها.

ويعقد مؤتمر اليونيسكو في سمرقند لأول مرة منذ أربعين عاماً؛ ما يمثل اعترافاً كبيراً بأوزبكستان ودورها الحضاري المتنامي في آسيا الوسطى، بصفتها جوهرة طريق الحرير القديم بين أوروبا والشرق الأقصى.

جانب من افتتاح مؤتمر «يونيسكو» في سمرقند (الشرق الأوسط)

وتعدّ المواقع التاريخية المسجلة في التراث العالمي، شاهداً على ازدهار سمرقند مركزاً علمياً وتجارياً على طريق الحرير، ومثالاً على تفاعل الثقافات الفارسية والتركية والعربية.

ويناقش المؤتمر قضايا عالمية، مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وحماية التراث الثقافي، ومستقبل التعليم، وتعديل التوصية العالمية الأولى حول أخلاقيات تقنيات الأعصاب. ويتضمن جلسات برلمانية، ولقاءات لجان، ومعارض ثقافية، وفعاليات جانبية، مثل افتتاح «حديقة خضراء» للاستدامة، ومناقشات حول حقوق المرأة والذكاء الاصطناعي في الحفاظ على التراث. ويعقد في مركز «طريق الحرير سمرقند» للمؤتمرات.

ومن المتوقع أن يركز المؤتمر على أهمية التعاون متعدد الأطراف في مواجهة التحديات العالمية، مع تسليط الضوء على دور سمرقند التاريخي، والاحتفاء بسمرقند بصفتها ملتقى للحضارات على طريق الحرير ومركزاً للحوار الثقافي.

نحو 150 مشاركاً شبابياً من أكثر من 140 دولة في فعاليات منتدى الشباب الـ14 لليونسكو في سمرقند (اليونسكو)

وتناقش إحدى جلسات المؤتمر أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، مع التأكيد على أهمية القضايا المتعلقة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؛ تمهيداً لاعتماد توصيات مهمة في هذا المجال.

كما يناقش موضوع التعليم والتنمية المستدامة، مع تأكيد الحاجة إلى تطوير المهارات لمواكبة المستقبل المستدام.

وتُعدَّ سمرقند مدينةَ تراث عالمي لـ«يونيسكو» منذ 2001، الخلفية المثالية لهذا الحدث التاريخي على طريق الحرير، وتشهد هذه الفعاليات مشاركة دولية واسعة، وتُبرز دور أوزبكستان مركزاً للدبلوماسية الثقافية.

وسبق المؤتمر منتدى الشباب الـ14 لـ«يونيسكو»، الذي انطلق يومي 27 - 28 أكتوبر (تشرين الأول)، ويجمع نحو 150 قائداً شبابياً من أكثر من 140 دولة تحت شعار «الفعل المناخي والتأثيرات الاجتماعية، خاصة على الشباب». ويركز على حلول الشباب للتحديات المناخية والتغيير الاجتماعي، ويُعدّ جزءاً أساسياً من التحضير للمؤتمر العام، وإجراء مناقشات حية حول التعاون الدولي والابتكار في مجالات الصحة والتعليم والتكنولوجيا.

كرنفال ثقافي عالمي

ويصاحب انعقاد الدورة الحالية لـ«يونيسكو» فعاليات ثقافية وفنية مصاحبة تحولت خلالها سمرقند «كرنفالاً ثقافياً عالمياً»، ومن الفعاليات البارزة حفل جان ميشيل جار، حيث يحيي الموسيقي الفرنسي العالمي وسفير «يونيسكو» للنوايا الحسنة حفلاً موسيقياً كبيراً في ميدان ريجستان التاريخي في 1 نوفمبر.

كما يقام حفل توزيع جائزة البيروني الدولية، وهي الجائزة الجديدة التي أنشأتها «يونيسكو» وحكومة أوزبكستان لتكريم المساهمات في تطوير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.

ويقام ماراثون سمرقند، الذي يمر عبر شوارع المدينة التاريخية.

يمثل عقد الدورة الحالية لليونسكو في سمرقند أهمية الدور المتزايد لأوزبكستان كمركز للحوار الثقافي والعلمي العالمي (اليونسكو)

‏وأقيم في مركز المؤتمرات عرض موسيقي قدمه المايسترو فلاديمير سبيفاكوف وعازفة البيانو هيلين ميرسييه، ضمن الفعاليات الثقافية في افتتاح المؤتمر.

وتُقام في المساء عروض فنية وثقافية مصاحبة، بما في ذلك حفل موسيقي يحييه المايسترو فلاديمير سبيفاكوف والفنان جوناس كوفمان.

وتمثل هذه الفعاليات مناسبة فريدة لأوزبكستان لعرض تراثها العريق ورؤيتها المستقبلية للعالم.

السياحة الثقافية

وتراهن أوزبكستان، وسط أجواء انفتاح ثقافي واستراتيجي متسارع، على ثقلها الحضاري ومخزونها الإسلامي العريق، لتصبح أحد أبرز المقاصد السياحية الجديدة لزوار العالمين العربي والإسلامي. فبسبعة مواقع مدرجة في قائمة «يونيسكو» للتراث العالمي، ومدن تاريخية أسطورية مثل سمرقند وبخارى وخيوة، تقدم أوزبكستان من خلال آثارها رواية متكاملة عن الذاكرة الإسلامية الحية التي شهدها هذا البلد وموقعه المتميز في آسيا الوسطى.

وابتداءً من عام 2025، تم تضمين سبعة مواقع في أوزبكستان ضمن مواقع للتراث العالمي، وأُدرجت هذه المواقع في قائمة «يونيسكو»، حيث أُدرجت مدينة خيوة بوصفها أول مدينة في هذه القائمة، بالإضافة إلى مواقع أخرى، مثل مدن سمرقند وبخارى وشهرسبز وممر طريق الحرير الذي يسير عبر 3 مناطق في أوزبكستان.

وهناك مواقع طبيعية مثل «ويسترن صن شاين»، التي تم إدراجها في قائمة التراث العالمية.


مقالات ذات صلة

40 مليون دولار دعم سعودي إضافي للتعليم في اليمن بشراكة أممية

العالم العربي توقيع اتفاقية ثلاثية لدعم التعليم في اليمن بتمويل سعودي قدره 40 مليون دولار (سبأ)

40 مليون دولار دعم سعودي إضافي للتعليم في اليمن بشراكة أممية

شهدت الرياض، الخميس، توقيع اتفاقية شراكة ثلاثية بين وزارة التربية والتعليم اليمنية، والبرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، ومنظمة اليونيسكو، بـ40 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق صورة من حساب القنصلية المغربية بباريس على «إكس»

القفطان المغربي… أناقة عبر القرون تتوجها «اليونيسكو» باعتراف عالمي

اعتراف عالمي بثراء التراث المغربي، وبقدرة هذا القفطان العريق على أن يتحول إلى لغة ثقافية عابرة للحدود، تجمع بين الجمال والهوية وتستمر في الإلهام عبر الزمن.

كوثر وكيل (نيودلهي )
يوميات الشرق الكشري من الأكلات الشهيرة بمصر (تصوير: عبد الفتاح فرج) play-circle 02:04

الكشري المصري يُتوِّج مذاقه الفريد بالتسجيل في تراث اليونيسكو

بعد عامين من الجهود المتواصلة لإدراج «الكشري» ضمن القائمة التمثيلة للتراث الثقافي العالمي غير المادي بمنظمة اليونيسكو، نجحت مصر أخيراً، في تسجيل الأكلة الشعبية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق الكشري عبارة عن طبق شعبي واسع الانتشار في مصر من المعكرونة والأرز والعدس والبصل المقلي (بيكسلز)

البشت الخليجي والكشري المصري ضمن 68 ترشيحاً لقائمة اليونيسكو للتراث الثقافي

سينافس البشت الخليجي وطبق الكشري المصري والشعر الموسيقي اليمني ضمن 68 ترشيحاً تنتظر موافقة منظمة اليونيسكو لإضافتها لقائمة التراث الثقافي غير المادي.

«الشرق الأوسط» (باريس - نيودلهي)
يوميات الشرق أعضاء نادي اليودلينغ السويسري يؤدّون عرضاً في كنيسة بلومّيس بالتزامن مع بحث إدراج هذا الفن على قائمة التراث غير المادي لـ«اليونيسكو» (إ.ب.أ)

غناء اليودلية والطبخ الإيطالي مرشحان للانضمام إلى تراث «اليونيسكو» الثقافي

من المقرر أن يبدأ خبراء  في «اليونيسكو» مداولاتهم في الهند، اليوم (الاثنين)، بشأن الممارسات والتقاليد التي يجب إعلانها كتراث ثقافي غير مادي.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي )

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).