كيف يعيد «الذكاء الاصطناعي المحيطي» تعريف اللمسة الإنسانية في الرعاية الصحية؟

خوارزميات صامتة... بتأثيرات صاخبة

كيف يعيد «الذكاء الاصطناعي المحيطي» تعريف اللمسة الإنسانية في الرعاية الصحية؟
TT

كيف يعيد «الذكاء الاصطناعي المحيطي» تعريف اللمسة الإنسانية في الرعاية الصحية؟

كيف يعيد «الذكاء الاصطناعي المحيطي» تعريف اللمسة الإنسانية في الرعاية الصحية؟

في الوقت الذي تتسابق فيه العناوين العالمية لتمجيد الروبوتات الجراحية، وخوارزميات التشخيص، وتقنيات التنبؤ بالأمراض، تنمو بهدوء في الخلفية ثورةٌ من نوع مختلف؛ ثورة لا تعتمد على الأضواء الساطعة ولا على شاشات ضخمة، بل على ذكاء يعمل في صمت... لكنه يُحدث أثراً عميقاً في صميم العلاقة بين الطبيب والمريض. إنها ثورة «الذكاء الاصطناعي المحيطي».

الذكاء الاصطناعي المحيطيمفهوم «الذكاء الاصطناعي المحيطي» لا يتحدث عن أجهزة مبهرة أو أدوات مستقبلية لامعة، بل عن أنظمة ذكية خفية تنصت للحوار الدائر في العيادة أو غرفة المستشفى، وتحوّله في اللحظة نفسها إلى نص طبي منسّق، وتستخلص منه البيانات المهمة، وتقوم بتحديث السجل الطبي الإلكتروني بدقة، من دون أن يشعر المريض بأي تدخل، ومن دون أن يُضطر الطبيب إلى الانشغال بلوحة مفاتيح أو شاشة.

تخيّل أن الطبيب يستطيع التركيز الكامل في عيني مريضه، يطرح الأسئلة ويصغي إلى الإجابات، بينما تقوم خوارزميات غير مرئية بتوثيق كل شيء، وتحليل السياق، وترتيب المعلومات في الخلفية بدقة لا تعرف التعب. إن ما كان يستنزف وقت الطبيب وجهده الإداري، بات يُدار تلقائياً، لتعود اللمسة الإنسانية إلى قلب الممارسة الطبية من جديد.

هذه التقنية الناشئة ليست خيالاً مستقبلياً، بل بدأت تدخل بالفعل إلى عيادات ومؤسسات طبية عالمية. وقد وصفها بعض الخبراء بأنها «الذكاء الاصطناعي الذي لا تراه، لكنه يغيّر كل شيء»، لأنها لا تفرض نفسها على الطبيب أو المريض، بل تندمج في البيئة المحيطة بهدوء، فتجعل من التكنولوجيا شريكاً صامتاً يعزز التواصل بدلاً من أن يقطعه.

إنها ثورة لا تُقاس بضجيج الأجهزة، بل بمدى قدرتها على إعادة الإنسان إلى مركز المشهد الطبي. وفي عالم يزداد فيه الاعتماد على الآلة، يبرز الذكاء الاصطناعي المحيطي كجسر ناعم بين التقنية والإنسان، بين الصمت الرقمي واللمسة البشرية.

الذكاء المحيطي يقلل الإرهاق ويعزز الرعاية

في الثاني من مايو (أيار) عام 2025، نشرت مجلة «الشبكة الأميركية للطب المفتوح» (JAMA Network Open) دراسة محورية قادتها الدكتورة شيريل ستولتس من معهد «ساتر هيلث» في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة، ركزت على قياس الأثر العملي لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المحيطي في العيادات الطبية اليومية. وقد كشفت النتائج عن تحول ملموس في طريقة عمل الأطباء وجودة تفاعلهم مع المرضى.

أبرز ما أظهرته الدراسة أن الذكاء المحيطي ساعد على توفير الوقت وتحسين الكفاءة، إذ انخفض متوسط زمن كتابة الملحوظات الطبية بعد كل زيارة من 6 دقائق وثلث تقريباً إلى خمس دقائق وثُلث، وهو فارق يبدو بسيطاً لكنه ينعكس بشكل كبير عند تراكمه يومياً في المستشفيات والعيادات، مما يتيح للأطباء وقتاً إضافياً للتواصل والرعاية المباشرة.

كما ساهمت التقنية في تخفيف العبء الذهني والنفسي عن الأطباء. فبدلاً من انشغال الطبيب بتدوين الملحوظات أثناء المقابلة، أصبح بإمكانه التركيز الكامل على المريض دون تشتت، الأمر الذي رفع مستوى الراحة الذهنية والقدرة على اتخاذ قرارات طبية أدق.

أما على مستوى العلاقة مع المرضى، فقد رصدت الدراسة تحسناً واضحاً في جودة التواصل الإنساني، إذ لاحظ المرضى أن أطباءهم أصبحوا أكثر حضوراً وتعاطفاً، وأن اللقاء الطبي بات أقرب إلى حوار إنساني مباشر منه إلى جلسة يغلب عليها الانشغال بالتوثيق الإلكتروني.

الدكتورة فينا جونز، الرئيسة التنفيذية للمعلومات الطبية في «ساتر هيلث»، لخّصت ذلك بقولها إن الذكاء المحيطي لا يسعى إلى استبدال الطبيب، بل إلى منحه المساحة الزمنية والتركيز ليكون بكليّته مع مريضه، بينما تتولى الخوارزميات الصامتة الأعمال الروتينية في الخلفية. إنها، على حد وصفها، خطوة حقيقية نحو رعاية صحية أكثر إنسانية، تدعمها تقنيات غير مرئية.

من الحوار إلى العلاجتخيّل طبيباً سعودياً في عيادته الحديثة بالرياض، يجلس أمام مريضه وجهاً لوجه، بلا لوحة مفاتيح تفصله عنه، ولا أوراق تشتّت انتباهه. لا أصوات نقر على الحاسوب ولا التفاتة إلى شاشة. المشهد يبدو بسيطاً، لكنه يحمل في طياته تحولاً عميقاً في ممارسة الطب. فالذكاء الاصطناعي المحيطي يعمل في الخلفية بصمت، يستمع بدقة إلى الحوار الدائر، ويفرغه لحظياً إلى نص طبي منسّق، ويستخلص منه العبارات المفتاحية، ويحوّلها إلى تشخيص مبدئي وخطة علاجية، ثم يحدّث السجل الصحي الإلكتروني بدقة تفصيلية، دون أن يقطع الطبيب لحظة تواصله مع مريضه.

في هذه اللحظة، يعود الطب إلى جوهره الأول: الإنصات إلى الإنسان قبل اتخاذ القرار العلاجي. يصبح الطبيب منصتاً بحق، ينظر إلى المريض، يتأمل ملامحه، يقرأ نبرة صوته، ويطرح الأسئلة بناءً على ما يسمعه ويفهمه، لا بناءً على ما يُمليه عليه نظام إلكتروني معقد. وفي المقابل، يشعر المريض أن الطبيب حاضر معه بكامل تركيزه، يصغي إليه كما لو كان الوحيد في العيادة.

هذا السيناريو ليس خيالاً مستقبلياً، بل صورة واقعية لمستقبل قريب بدأت ملامحه تتشكل بالفعل في مؤسسات طبية عالمية، ويمكن أن تتحقق في المنطقة العربية في ظل التحول الرقمي السريع الذي تشهده المملكة العربية السعودية ضمن «رؤية 2030». إنها عودة الطب إلى أصالته، ولكن هذه المرة بمساعدة خوارزميات ذكية تعمل في صمت، لتمنح الطبيب ما فقده في خضم الرقمنة: الوقت، التركيز، والاتصال الإنساني الحقيقي.

تحديات أخلاقية مع كل ابتكار كبير، تبرز مسؤوليات أكبر. فبينما يعمل الذكاء الاصطناعي المحيطي في صمت خلف الكواليس، فإن هذا الصمت لا يعفيه من أسئلة أخلاقية عميقة تمس جوهر العلاقة بين الطبيب والمريض، والثقة التي تُبنى عليها الممارسة الطبية. إنها ليست مجرد قضايا تقنية، بل قضايا إنسانية وثقافية تتطلب وعياً وتنظيماً دقيقاً.

> الموافقة الواعية: أول هذه التحديات هو الموافقة الواعية. فحين يجلس المريض أمام طبيبه، قد لا يدرك أن كل كلمة تُقال في الغرفة يجري تسجيلها وتحليلها في الوقت الحقيقي. هل تكفي لوحة صغيرة على الجدار لإعلامه؟ أم يجب تطوير آليات واضحة وشفافة تضمن أن المريض يعلم تماماً ما يحدث، ويوافق على ذلك بحرية دون ضغط أو التباس؟ إن مفهوم «الموافقة» في هذا السياق لا يمكن أن يكون شكلياً، بل يجب أن يكون قائماً على فهم حقيقي لطبيعة التقنية وحدودها.

> مسألة الخصوصية: وهي أكثر حساسية في البيئات العربية التي تتميز غالباً بحضور أفراد الأسرة في الجلسات الطبية، سواء بدافع الدعم أو المشاركة في اتخاذ القرار. كيف يمكن حماية الحوار الطبي من التسرب أو إساءة الاستخدام في مثل هذه الأجواء؟ وما هي الضمانات التي تضمن أن التسجيلات والبيانات الحساسة لن تُستخدم خارج إطار الرعاية الصحية؟ هذه الأسئلة تزداد أهمية في ظل التحول الرقمي السريع، حيث تصبح البيانات الطبية هدفاً ثميناً لا يمكن التفريط فيه.

• اللغة والثقافة؛ أما التحدي الثالث فيتعلق باللغة والثقافة. فالأنظمة المطوّرة غالباً ما تُصمّم بلغات أجنبية ولهجات محددة، فهل تستطيع هذه الخوارزميات فهم اللهجات العربية المتنوعة، من الخليج إلى المغرب، والتقاط الإيحاءات الثقافية والنبرة العاطفية التي تشكل جزءاً أساسياً من الحوار الطبي؟ إن عدم دقة الفهم أو سوء تفسير تعبيرات المريض قد يؤدي إلى قرارات طبية غير دقيقة، أو يضعف التواصل الإنساني الذي يفترض أن التقنية جاءت لتعزيزه لا أن تشوّهه.

إن التعامل مع هذه التحديات الأخلاقية ليس ترفاً، بل ضرورة لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي المحيطي وسيلة تمكين للرعاية الصحية لا مصدراً للالتباس أو فقدان الثقة. فبين الصمت الرقمي وصوت المريض، يجب أن تبقى الأخلاقيات هي الموجّه الأعلى.

المنزل الذكي امتداد هادئ للرعايةلا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي المحيطي على العيادات والمستشفيات، بل بدأ يتسلل بهدوء إلى البيئة المنزلية، ليحوّل البيت إلى مساحة رعاية ذكية تواكب احتياجات كبار السن والمرضى المزمنين على مدار الساعة. ففي العديد من الدول، أصبحت المنازل مزوّدة بأنظمة قادرة على رصد الحركات الدقيقة، والتنبه إلى أي خلل في النمط اليومي، وإرسال إشعارات فورية لمقدمي الرعاية أو فرق الطوارئ عند حدوث أي طارئ مثل السقوط أو فقدان الوعي.تخيل منزلاً يحتضن والدة مسنّة تعيش في الطابق الأرضي، مجهزاً بأجهزة استشعار ذكية مدمجة في الجدران والأرضيات، تراقب خطواتها من دون كاميرات أو تدخل مزعج، وتتعرف على إيقاع مشيها اليومي. وفي إحدى الليالي، ترصد الخوارزمية تغيراً مفاجئاً في خطواتها يتبعه سقوط، فترسل إشعاراً فورياً إلى الأبناء وإلى أقرب وحدة إسعاف. وفي الوقت ذاته، تنشط الإضاءة تلقائياً لتجنّب مزيد من الإصابات، ويُفتح خط تواصل صوتي مباشر مع أحد مقدمي الرعاية. كل ذلك يحدث في ثوانٍ، من دون صراخ ولا فوضى، في مشهد يختصر كيف يمكن للتقنية أن تحيط الإنسان برعاية غير مرئية.

وفي مثال آخر، يمكن لهذه الأنظمة متابعة المؤشرات الحيوية اليومية مثل معدل ضربات القلب، وضغط الدم، والتنفس، ورصد أي تغيرات مقلقة على المدى الطويل، بل والتنبؤ بالحالات الخطرة قبل تفاقمها. بالنسبة للأسر السعودية، هذا يعني إمكانية تقديم رعاية إنسانية حانية داخل المنزل، تتيح للمسنين العيش في بيئتهم المألوفة محاطين بأحبائهم، بدلاً من الانتقال إلى مؤسسات الرعاية التقليدية التي قد تفتقر إلى الدفء العائلي.

بهذه الطريقة، يصبح المنزل الذكي امتداداً طبيعياً للمستشفى، حيث تمتزج الرحمة بالتقنية، وتتحول الجدران الصامتة إلى حارس لطيف يراقب بصمت، ويتدخل بحكمة عند الحاجة.

دعوة إلى ابتكار عربي

لقد آن الأوان لأن يخوض المبتكرون والمشرّعون والأكاديميون العرب غمار هذه التقنية، لا بوصفها أداة مساعدة فحسب، بل باعتبارها فلسفة جديدة للرعاية الصحية تقوم على الإنصات، والفهم، والاحترام العميق للثقافة المحلية. نحن بحاجة إلى أنظمة ذكاء اصطناعي محيطي تُنصت بتعاطف، وتُسجّل بأمانة، وتفهم لهجاتنا، وتقدّر قيمنا الاجتماعية، فتكون امتداداً للإنسان لا بديلاً عنه.

هذه ليست مجرد فرصة تقنية، بل فرصة حضارية لإعادة صياغة ملامح مستقبل الطب من منظور عربي أصيل. فبدلاً من استيراد النماذج الجاهزة، يمكن للعالم العربي أن يقدّم إسهامه الخاص، مستفيداً من تراكم خبراته الطبية والتعليمية ورؤاه المستقبلية، وفي مقدمتها التحول الرقمي الذي تقوده المملكة العربية السعودية ضمن «رؤية 2030»، لبناء منظومات رعاية ذكية تنبض بلغتنا وتفهم ثقافتنا.

وكما قال وليم شكسبير: «استمع أكثر مما تتكلم، فالأذنان لم تُخلقا عبثاً».

وكما عبّر جبران خليل جبران: «قد يكون في صمتنا ما يغنينا عن ألف كلمة، وفي إنصاتنا حياة لروح الآخر».

فلْتكن الثورة القادمة في الطب هادئة الصوت... لكنها عربية اللسان والرؤية، ثورة لا تكتفي بتبني التقنيات، بل تصوغها وفق احتياجاتنا ومبادئنا، لتعيد للطب معناه الإنساني العميق: الإصغاء قبل التشخيص، والحضور قبل التقنية. إنها دعوة للابتكار لا تنتظر، بل تُبادر لتكتب فصلاً عربياً مؤثراً في قصة الطب العالمي القادمة.


مقالات ذات صلة

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

علوم الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025. الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي نحن نغرق في بحر من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
تكنولوجيا القفل الذكي «نوكي«

أفضل الأقفال الذكية

• القفل الذكي «نوكي» Nuki. يتميز القفل الذكي «نوكي» بمكونات عالية الجودة، وقدرات تكامل سلسة، وتصميم أنيق، كما تصفه الشركة. يعتبر هذا القفل المبتكر جديداً على ال

غريغ إيلمان (واشنطن)
علوم تعرف على معلم الذكاء الاصطناعي الجديد... الخاص بك

تعرف على معلم الذكاء الاصطناعي الجديد... الخاص بك

أصبحت تطبيقات المساعدة المعتمدعلى الذكاء الاصطناعي، اليوم، أكثر من مجرد أجهزة للرد الآلي. وفي واقع الأمر، يعدّ كل من «وضع الدراسة» الجديد من «تشات جي بي تي»،

جيرمي كابلان (واشنطن)
الخليج المهندس أحمد الصويان وأنطونيو غوتيريش يبحثان الموضوعات المشتركة وسُبل التعاون (هيئة الحكومة الرقمية)

غوتيريش يشيد بتقدم السعودية النوعي في الحكومة الرقمية

أشاد أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بما حققته السعودية من تقدم نوعي في مجال الحكومة الرقمية، عادّاً ما وصلت إليه نموذجاً دولياً رائداً.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
تكنولوجيا تكشف البيانات أن المستخدمين يلجأون للمساعد لطرح أسئلة صحية وعاطفية وفلسفية وليس فقط لحلول تقنية أو عملية (شاترستوك)

كيف يتحول «مايكروسوفت كوبايلوت» من أداة عمل إلى رفيق يومي للمستخدمين؟

يكشف التقرير أن «كوبايلوت» لم يعد مجرد أداة إنتاجية بل أصبح شريكاً رقمياً يلجأ إليه المستخدمون للعمل والقرارات اليومية بما يطرح تحديات ثقة ومسؤولية للمطوّرين.

نسيم رمضان (لندن)

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
TT

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا

في خطوة علمية قد تغيِّر أسلوب فهمنا لسرطان البروستاتا وتشخيصه وعلاجه، كشف باحثون من معهد «آرك» وجامعة «كاليفورنيا»، ومركز «فريد هاتشينسون للسرطان» في واشنطن بالولايات المتحدة، عن منظِّم غير متوقع لمسار مستقبل الأندروجين، وهو بروتين لم يحظَ سابقاً بكثير من الاهتمام، وكان يُعتقد أنه مجرد إنزيم بسيط ضمن مسار تصنيع البروستاغلاندين (prostaglandin).

وجاء هذا الكشف الذي نُشر في مجلة «Nature Genetics» في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، نتيجة فحص شامل للجينوم باستخدام «تقنية كريسبر»، وأعاد تعريف الدور البيولوجي لبروتين «PTGES3» كما فتح الباب أمام فئة جديدة محتملة من العلاجات لسرطان البروستاتا المقاوم للعلاج الهرموني.

نافذة على بيولوجيا الورم

يعتمد سرطان البروستاتا على نشاط مفرط لمستقبِل الأندروجين، وهو بروتين ينظِّم نمو الخلايا استجابة لهرمونات الذكورة.

ولفهم الجينات التي تُبقي هذا المستقبِل نشطاً، طوَّر الباحثون نموذجاً متقدماً لخلايا سرطانية يحمل وسماً فلورياً (fluorescent tag) (هو جزيء مرتبط كيميائياً للمساعدة في اكتشاف جزيء حيوي، مثل البروتين أو الأجسام المضادة أو الأحماض الأمينية) يضيء تبعاً لكمية مستقبِل الأندروجين داخل الخلية، ما سمح بتتبُّعه بدقة لحظة بلحظة.

وبالاستفادة من «تقنية كريسبر» عطَّل العلماء آلاف الجينات واحداً تلو الآخر لاكتشاف الجينات التي يعتمد عليها مستقبِل الأندروجين ليبقى مستقراً وموجوداً داخل الخلية.

ثم جاءت النتائج لتؤكد دور جينات معروفة، مثل HOXB13 وGATA2 لكنها كشفت أيضاً مفاجأة كبيرة في PTGES3 وهو بروتين لم يكن محسوباً ضمن قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذا المسار.

* لماذا يُعد PTGES3 اكتشافاً مهماً؟ على خلاف البروتينات المماثلة له لم يكن تأثير PTGES3 مرتبطاً بوظيفته المفترضة كإنزيم. بل ظهر أنه يؤدي دوراً مزدوجاً في دعم مستقبل الأندروجين؛ إذ إنه يعمل كمرافق بروتيني Co-chaperone داخل السيتوبلازم ما يساعد على استقرار مستقبل الأندروجين ويمنع تدهوره. ويعمل أيضاً كعامل مساعد داخل النواة؛ حيث يعزز قدرة المستقبل على الارتباط بالحمض النووي وتشغيل الجينات التي تغذي نمو الورم.

وهذا الدور الثنائي يجعل هذا البروتين كأحد «محركات» سرطان البروستاتا التي تعتمد عليها الخلايا السرطانية لمواصلة النمو والانتشار.

آفاق جديدة لعلاج السرطان

• من المختبر إلى المرضى: عند تحليل بيانات مئات المرضى وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات PTGES3 يرتبط بانخفاض فعالية العلاج الهرموني، وهو مؤشر مبكر على مقاومة الورم.

وعند اختبار تعطيل هذا البروتين في فئران مصابة بسرطان البروستاتا انخفضت مستويات مستقبل الأندروجين، وتباطأ نمو الورم بشكل كبير، وهو دليل إضافي على دوره الحاسم واستحقاقه أن يكون هدفاً دوائياً جديداً.

ويقول الباحث الرئيسي لوك غيلبرت (وهو باحث رئيسي في معهد «آرك» وأستاذ مشارك في جراحة المسالك البولية في كلية الطب بجامعة «كاليفورنيا») إن هذا العمل يبرهن على قوة الفحص الجيني غير المنحاز عبر «تقنية كريسبر» وقدرتنا على اكتشاف وظائف جديدة لبروتينات ظنَّ العلماء أنهم يعرفونها جيداً.

• تطوير أدوية علاجية: تستهدف العلاجات الحالية مستقبل الأندروجين مباشرة؛ سواء بتقليل الهرمونات الذكرية أو بحجب قدرة المستقبِل على الوصول إلى الحمض النووي.

لكن النتائج الجديدة تقدِّم استراتيجية مختلفة تكمن بالتدخل في استقرار مستقبل الأندروجين نفسه، عبر التأثير على البروتينات التي تحميه وترافقه ومن ضمنها PTGES3.

ويقول الباحث الأول هاولونغ لي من مركز «فريد هاتشينسون للسرطان» وقسم علاج الأورام بالإشعاع بجامعة «كاليفورنيا»: «نتوقع أن يساعد هذا النهج في فهم عوامل نسخ أخرى مهمة في سرطانات تعتمد على الهرمونات، وليس سرطان البروستاتا فقط».

ويعمل الفريق حالياً على فهم البنية الدقيقة لتفاعل PTGES3 مع مستقبل الأندروجين، تمهيداً لتطوير أدوية تستهدف هذا الارتباط، بما في ذلك تقنيات تفكيك البروتينات مثل PROTACs التي حققت نجاحاً في تجارب سريرية لأهداف دوائية أخرى.

ويمثل اكتشاف PTGES3 كمنظم رئيسي لمستقبل الأندروجين تحولاً مهماً في فهم سرطان البروستاتا؛ خصوصاً لدى المرضى الذين يعانون من مقاومة للعلاج الهرموني.

وإلى جانب كشف آليات جديدة وراء نمو الورم يقدِّم هذا الاكتشاف مساراً واعداً لعلاجات أكثر فعالية ودقة قد تغيِّر مستقبل الرعاية للمرضى المصابين بأحد أكثر السرطانات شيوعاً بين الرجال.

إنه مثال حي على كيف يمكن لتقنيات الجينوم الحديثة -كالفحص الشامل باستخدام «كريسبر»- أن تعيد كتابة قواعد علم الأورام وتفتح آفاقاً علاجية لم تكن متاحة من قبل.


نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
TT

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025.

الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي

نحن نغرق في بحر من المحتوى المُنمّق وغير المنطقي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، كما تتحدث الكاتبة أنالي نيويتز، صاحبة عمود «هذا يُغيّر كل شيء»، عن كيفية انتشار المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عام 2025.

لا شك أن 2025 سيُذكَر بوصفه عام المحتوى المُنمّق. وهذا المصطلح الشائع يُطلق على المحتوى غير الصحيح والغريب، بل والقبيح في كثير من الأحيان، الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، وقد أفسد تقريباً كل منصة على الإنترنت... إنه يُفسد عقولنا أيضاً.

لقد تراكمت كميات هائلة من هذا المحتوى المُنمّق خلال السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن العلماء باتوا قادرين على قياس آثاره على الناس بمرور الوقت.

• نشاط دماغي أقل لدى المستخدمين. وجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأشخاص الذين يستخدمون نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مثل تلك التي تقف وراء برنامج «تشات جي بي تي»، لكتابة المقالات، يُظهرون نشاطاً دماغياً أقل بكثير من أولئك الذين لا يستخدمونها.

• آثار سلبية على الصحة النفسية. ثم هناك الآثار السلبية المحتملة على صحتنا النفسية، حيث تشير التقارير إلى أن بعض برامج الدردشة الآلية تُشجع الناس على تصديق الأوهام أو نظريات المؤامرة، بالإضافة إلى حثّهم على إيذاء أنفسهم، وأنها قد تُسبب أو تُفاقم الذهان.

• تقنية التزييف العميق. أصبحت تقنية التزييف العميق شائعة؛ ما يجعل التحقق من الحقيقة على الإنترنت أمراً مستحيلاً. ووفقاً لدراسة أجرتها «مايكروسوفت»، لا يستطيع الناس التعرف على مقاطع الفيديو التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي إلا في 62 في المائة من الحالات.

وأحدث تطبيقات شركة «اوبن ايه آي» هو «سورا» Sora، وهي منصة لمشاركة الفيديوهات تُنشأ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي - باستثناء واحد. يقوم التطبيق بمسح وجهك وإدراجك أنت وأشخاص حقيقيين آخرين في المشاهد المزيفة التي يُنشئها. وقد سخر سام ألتمان، مؤسس الشركة، من تبعات ذلك بالسماح للناس بإنشاء فيديوهات يظهر فيها المستخدم وهو يسرق وحدات معالجة الرسومات ويغني في الحمام.

• تقليل الإنتاجية. لكن ماذا عن قدرة الذكاء الاصطناعي المزعومة على جعلنا نعمل بشكل أسرع وأكثر ذكاءً؟ وفقاً لإحدى الدراسات، عندما يُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مكان العمل، فإنه يُقلل الإنتاجية، حيث أفادت 95 في المائة من المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بأنها لا تحصل على أي عائد ملحوظ على استثماراتها.

مذنب "سوان" الى يمين تجمّع من النجوم

تدمير الأرواح والوظائف

إن الفساد يُدمر الأرواح والوظائف، ويُدمر تاريخنا أيضاً. أنا أكتب كتباً عن علم الآثار، ويقلقني أن ينظر المؤرخون إلى وسائل الإعلام من تلك الحقبة ويكتشفوا زيف محتوانا، المليء بالخداع والتضليل.

إن أحد أهم أسباب تدويننا الأمور أو توثيقها بالفيديو هو ترك سجل لما كنا نفعله في فترة زمنية محددة. وعندما أكتب، آمل أن أسهم في إنشاء سجلات للمستقبل؛ حتى يتمكن الناس اللاحقون من إلقاء نظرة على حقيقتنا، بكل ما فيها من فوضى.

إن برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تُردد كلماتٍ بلا معنى؛ فهي تُنتج محتوًى لا ذكريات. ومن منظور تاريخي، يُعدّ هذا، من بعض النواحي، أسوأ من الدعاية. على الأقل، إن الدعاية من صنع البشر، ولها هدف محدد، وهي تكشف عن الكثير من سياساتنا ومشاكلنا. أما الزيف فيمحونا من سجلنا التاريخي؛ إذ يصعب استشفاف الغاية منه.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي بالفن؟ كيف سنتعامل مع عالمٍ تندر فيه الوظائف، ويتصاعد فيه العنف، ويتم فيه تجاهل علوم المناخ بشكل ممنهج؟

الحفاظ على صحة الدماغ

كيف تعلمتُ الحفاظ على صحة دماغي؟ تتحدث هيلين تومسون، كاتبة عمود في علم الأعصاب، عن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً في صحتها هذا العام.

• غذاء صحي: لقد تعلمت أن أعيش بنمط حياة صحي. كل صباح، أضيف ملعقة من الكرياتين إلى الماء، وأشربه مع الفيتامينات المتعددة، ثم أتناول بعض الزبادي العادي الغني بالبكتيريا. ويتناول أطفالي حبوب الإفطار المنزلية، ويشربون الكفير، ويحاولون التحدث بالإسبانية باستخدام تطبيق «دولينغو». وبعد توصيلهم إلى المدرسة، أغطس في بركة ماء باردة، ثم أستريح في الساونا قبل العمل. لاحقاً، أضيف دائماً ملعقة من مخلل الملفوف إلى غدائي، ولا أفوّت فرصة للمشي قليلاً في الحديقة.

حياتي الجديدة المفعمة بالرضا هي نتيجة مباشرة لقضاء عام كامل في البحث عن طرق مثبتة علمياً للحفاظ على صحة الدماغ - من تعزيز الاحتياطي المعرفي إلى تنمية ميكروبيوم صحي. الآن، وأنا أُقيّم الوضع، أرى أن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً.

• تجربة طبية. جاء أحد أبسط الدروس من جو آن مانسون في مستشفى بريغهام والنساء في ماساتشوستس، التي أرسلت إلي تفاصيل تجربة واسعة النطاق على كبار السن تُظهر أن تناول الفيتامينات المتعددة يومياً يُبطئ التدهور المعرفي بأكثر من 50 في المائة. وعندما سألت خبراء آخرين عن المكملات الغذائية، إن وُجدت، التي قد تُعزّز صحة الدماغ، برز الكرياتين في ذهني - فهو يُزود الدماغ بمصدر طاقة عندما يكون في أمس الحاجة إليه. لكن التغيير حدث في سلة مشترياتنا الأسبوعية؛ إذ أقنعتني محادثاتي مع علماء الأعصاب وخبراء التغذية بأهمية العناية المستمرة بميكروبيوم الأمعاء. لذا؛ بدأت عائلتي بتطبيق ذلك: تناول ثلاثة أنواع من الأطعمة المخمرة يومياً بناءً على نصيحة عالم الأوبئة تيم سبيكتور، والامتناع عن تناول الأطعمة فائقة المعالجة في وجبة الإفطار، والحرص على إدخال مزيج متنوع من الأطعمة الكاملة في نظامنا الغذائي.

• التواصل مع البيئة. كما أن التعرّض للبرد والحرارة يُمكن أن يُقلل من الالتهابات والتوتر، ويُعزز التواصل بين الشبكات الدماغية المسؤولة عن التحكم في العواطف واتخاذ القرارات والانتباه؛ ما قد يُفسر ارتباطها بتحسين الصحة النفسية. كما أصبح الخروج إلى الطبيعة أولويةً عائلية. فقد تعلمتُ أن البستنة تُعزز تنوع بكتيريا الأمعاء المفيدة، بينما قد يُفيد المشي في الغابات الذاكرة والإدراك، ويُساعد على الوقاية من الاكتئاب.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو سرعة ظهور النتائج. فبينما تُعدّ بعض العادات استثماراً طويل الأمد في الصحة الإدراكية، إلا أنني مقتنعة بأن عادات أخرى كان لها تأثير فوري: أطفال أكثر هدوءاً، وتحسن في التركيز، وطاقة أكبر. ربما يكون تأثيراً وهمياً، لكن هناك ما يُجدي نفعاً.

مذنبات كونية متألقة

أما شاندا بريسكود - وينشتاين، كاتبة عمود في مجلة «سبيس - تايم»، فقد قدمت ملاحظات ميدانية حول كيفية تصدّر المذنبات عناوين الأخبار في عام 2025.

• المذنب «ليمون» لقد كان عام 2025 حافلاً بالمذنبات. فقد اكتُشف المذنب ليمون Lemmon في يناير (كانون الثاني) الماضي، وظلّ حديث الساعة لمدة تسعة أشهر. كانت صور ذيل ليمون الطويل والجميل، الناتج من تسخين الشمس للمذنب، تخطف أنفاسي في كل مرة.

• المذنب «سوان». ثم كان هناك اكتشاف المذنب C/2025 R2 (سوان) في سبتمبر (أيلول)، وهو مذنب شديد السطوع لدرجة أنه حتى عندما كان قريباً من القمر في عيد «الهالوين»، كان لا يزال مرئياً بوضوح للمراقبين. وكان هناك أيضاً المذنب 3I/أطلس، الذي اشتهر بعد أن أعلن عالم فلك في جامعة هارفارد، متخصص في علم الكونيات، أنه مسبار فضائي.

إن رحلتنا مع المذنبات هذا العام ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من ردود فعل البشر تجاه الأجرام السماوية الغامضة التي تظهر في السماء. وبينما نستذكر العام الماضي، شهدنا أحداثاً كثيرة مخيفة ومُحبطة؛ ما قد يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المذنبات ربما نذرت بنهاية العالم كما نعرفه.

«إنسان دينيسوفان»

«إنسان دينيسوفان» قلب مفاهيمنا عن الإنسان القديم رأساً على عقب. وهنا يستعرض مايكل مارشال، كاتب عمود «قصة الإنسان»، أهم اكتشافات «إنسان دينيسوفان» لهذا العام.

يصادف هذا العام مرور 15 عاماً على اكتشافنا «إنسان دينيسوفان»، وهي إنسان من مجموعة من البشر القدماء الذين عاشوا في ما يُعرف اليوم بشرق آسيا قبل عشرات آلاف السنين. وقد أثار هذا الإنسان فضولي منذ ذلك الحين؛ لذا سررتُ هذا العام برؤية سلسلة من الاكتشافات المثيرة التي وسّعت فهمنا لمكان عيشهم وهويتهم.

• أدلة من جزيئات إصبع. كان «إنسان دينيسوفان» أول أشباه البشر الذين تم اكتشافهم بشكل أساسي من خلال الأدلة الجزيئية. وكانت أول أحفورة معروفة عبارة عن عظمة إصبع من كهف دينيسوفا في سيبيريا، التي كانت صغيرة جداً بحيث لا يمكن التعرف عليها من خلال شكلها، ولكنها أسفرت عن تحليل الحمض النووي في عام 2010. وأشارت النتائج الجينية إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان مجموعة شقيقة لـ«إنسان نياندرتال»، الذي عاش في أوروبا وآسيا. كما أظهرت النتائج أيضاً أنهم تزاوجوا مع الإنسان الحديث.

واليوم، يمتلك سكان بعض مناطق جنوب شرقي آسيا، مثل بابوا غينيا الجديدة والفلبين، أعلى نسب الحمض النووي لـ«إنسان دينيسوفان» في جينوماتهم.

ومنذ ذلك الحين، سعى الباحثون جاهدين للعثور على المزيد من الأمثلة على «إنسان دينيسوفان»، لكنّ هذه الجهود كانت بطيئة. ولم يظهر مثال ثانٍ إلا في عام 2019: عظم فك من كهف بايشيا كارست في شياخه على هضبة التبت.

• اكتشافات جديدة. ثم جاء عام 2025 وتدفقت الاكتشافات الجديدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، تأكد وجود «إنسان دينيسوفان» في تايوان. وأكد الباحثون هذا الاكتشاف الآن باستخدام البروتينات المحفوظة داخل الأحفورة. ثم في يونيو (حزيران) الماضي عُثر على أول وجه لإنسان، حيث وُصفت جمجمة من مدينة هاربين شمال الصين عام 2021، وسُميت نوعاً جديداً.

حتى الآن، تبدو هذه النتائج منطقية للغاية. كما أنها رسمت صورة متكاملة لـ«إنسان دينيسوفان» كإنسان ضخم البنية.

وكان الاكتشافان الآخران في عام 2025 مفاجأتين كبيرتين. ففي سبتمبر، أُعيد بناء جمجمة مهشمة من يونشيان في الصين. ويبدو أن جمجمة يونشيان 2 تعود إلى «إنسان دينيسوفان» مبكر، وهو اكتشاف مثير للاهتمام؛ نظراً لقدمها التي تبلغ نحو مليون عام. ويشير هذا إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان موجوداً مجموعةً منفصلة منذ مليون عام على الأقل، أي قبل مئات آلاف السنين مما كان يُعتقد سابقاً. كما يدل هذا على أن السلف المشترك بيننا وبين «إنسان نياندرتال»، والمعروف باسم السلف العاشر، قد عاش قبل أكثر من مليون عام.

• استخلاص جينوم من سن وحيدة. بعد شهر واحد فقط، أعلن علماء الوراثة عن ثاني جينوم عالي الجودة لـ«إنسان دينيسوفان»، والذي استُخرج من سنّ عمرها 200 ألف عام في كهف دينيسوفا. الأهم من ذلك، أن هذا الجينوم كان مختلفاً تماماً عن الجينوم الأول المُبلغ عنه، والذي كان أحدث عهداً، كما أنه كان مختلفاً عن الحمض النووي للـ«دينيسوفان» لدى البشر المعاصرين.

ويُشير هذا إلى وجود ثلاث مجموعات على الأقل من الـ«دينيسوفان»: مجموعة مبكرة، ومجموعة لاحقة، ومجموعة تزاوجت مع جنسنا البشري. هذه المجموعة الثالثة، من الناحية الأثرية، تظل لغزاً محيراً.

* مجلة «نيو ساينتست» - خدمات «تريبيون ميديا»


حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
TT

حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد

لم يعرف الطبّ، في أغلب تاريخه، كيف يرى الإنسان كاملاً، إذ كان يرى أجزاءً متناثرة من الحكاية: صورة أشعة معزولة، تحليل دم بلا سياق، تقريراً سريرياً يُقرأ سريعاً ثم يُطوى. وهكذا تفرّق الجسد إلى ملفات، وتحوّل المريض إلى أرشيف بيانات، وغابت الصورة الكاملة خلف زحمة التفاصيل.

كان ابن رشد سيصف هذا المشهد بلا تردّد: حيثما غاب الربط، تكسّرت الحقيقة. فالعِلّة لا تُفهم دون معلولها، والمرض لا يُقرأ دون سياقه، والإنسان لا يُختزل في رقم أو صورة.

الذكاء الاصطناعي التعددي

اليوم، ومع صعود ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي التعدّدي (Multimodal AI)، يقف الطبّ أمام لحظة استثنائية تُعيد للإنسان وحدته المفقودة. لم تعد الخوارزمية تكتفي بقراءة صورة أو تحليل أو نصّ منفرد، بل باتت قادرة على دمج الإشارات الحيوية، والصور الشعاعية، والسجلات السريرية، وحتى اللغة التي يصف بها المريض ألمه... لتصوغ فهماً أقرب إلى ما كان يفعله الطبيب الحكيم بالفطرة: رؤية المريض ككائن واحد، لا كمجموعة بيانات مبعثرة.

ولا ينتمي هذا التحوّل إلى الخيال العلمي، بل إلى مختبرات البحث المتقدّمة. ففي دراسة حديثة صادرة عن جامعة بنسلفانيا، نُشرت في فبراير (شباط) 2025 في مجلة «npj Digital Medicine» (الطبّ الرقمي – إحدى مجلات مجموعة «نيتشر» العلمية)، قدّم الباحثون إطاراً جديداً يسمح بدمج الصور الطبية، والسجلات السريرية، والبيانات الحيوية، والنصوص الطبية، لقراءة المريض بوصفه وحدة متكاملة لا ملفات منفصلة محفوظة في ذاكرة الحاسوب.

هنا يبدأ التحوّل الحقيقي: من طبّ يقرأ البيانات... إلى طبّ يفهم الإنسان.

• العلم الذي جمّع ما فرّقته السجلات.

تستقبل الخوارزمية الحديثة، في اللحظة نفسها، صور الأشعة، ونتائج التحاليل المخبرية، والإشارات الحيوية، والنصوص الطبية، وحتى البيانات القادمة من الساعات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء. ثم لا تكتفي بقراءتها، بل تُعيد نسجها في صورة واحدة متكاملة، أشبه بخريطة حيّة للجسد والزمن معاً.

لم يعد التشخيص تفسيراً لصورة ثابتة، بل هو فهم لمسار حياة كاملة.

وهنا تكمن القفزة: فالنظام الصحي التقليدي اعتاد العمل بمنطق «الوسيط الواحد»؛ طبيب الأشعة يرى الصورة، طبيب القلب يقرأ التخطيط، وطبيب المختبر يلاحق المؤشرات. غير أن المرض لا يحترم هذه الحدود، إذ لا يولد في عضو واحد، ولا يتقدّم في مسار منفصل، بل يعلن عن نفسه من خلال تفاعل خفي بين الإشارات.

بهذا المعنى، لا يجمع الذكاء الاصطناعي التعدّدي البيانات فحسب، بل يعيد للطب لغته الأصلية: لغة الترابط.

• من رؤية اللحظة إلى رؤية الزمن. في إحدى التجارب السريرية المتقدّمة، استطاع نموذج ذكاء اصطناعي توقّع احتمالية ظهور مرض قلبي قبل نحو ثماني سنوات من تشخيصه السريري. ولم يلتقط علامة واحدة حاسمة فقط، بل التقط شبكة دقيقة من التغيّرات الصغيرة التي تبدو — كلٌّ على حدة — بلا معنى، لكنها حين تُقرأ معاً ترسم بداية الخلل الصامت.

هنا يتغيّر جوهر الذكاء نفسه. فالخوارزمية لا تقرأ صورة آنية، ولا تحاكم رقماً معزولاً، بل تُنصت إلى الزمن وهو يعمل داخل الجسد. إنها ترى المرض بوصفه مساراً لا حادثة، وتفهم العلّة بعدّها عملية تراكم لا لحظة انفجار. وبهذا التحوّل، يتبدّل دور الطبيب: من «باحث عن المرض» إلى «قارئ للزمن».

تغير عيادة المستقبل

• إنقاذ المريض وإنقاذ الطبيب.

تشير تقارير صادرة عن «Harvard Medical School» في ديسمبر ( كانون الأول) 2025 إلى أن الطبيب يقضي أكثر من ثلاث ساعات يومياً في كتابة الملاحظات وتوثيق السجلات، وقتاً يفوق أحياناً زمن الإصغاء للمريض نفسه. وهنا لا يكون الإرهاق مهنياً فقط، بل يكون إنسانياً أيضاً. أما حين تُدمج البيانات تلقائياً داخل نموذج ذكي واحد، فسوف يتحرّر الطبيب من عبء الورق والتكرار، ويستعيد جوهر مهنته: اللقاء، الإصغاء، والفهم. فالخوارزمية تحسب وتربط، لكنها لا تعرف القلق في عين المريض، ولا التردّد في صوته. الآلة تُحلّل والإنسان يُنصت.

• كيف ستتغيّر العيادة؟ لم تعد العيادة الحديثة مجرّد مكان للفحص، بل نقطة التقاء لأنواع متعددة من الذكاء؛ حيث يعمل الذكاء الاصطناعي التعدّدي في الخلفية على دمج الصور، والتحاليل، والسجلات، والسلوك الصحي اليومي في نموذج واحد، يرافق المريض والطبيب معاً، ويُعيد تشكيل القرار الطبي من جذوره. وهكذا نلاحظ:

- اختفاء «المريض المُجزّأ».

- التشخيص يصبح تفسيراً للعلاقات.

- العلاج يصبح شخصياً بأعلى درجاته.

- انخفاضاً كبيراً في الأخطاء الطبية.

• من ورق العيادة إلى خريطة الإنسان

لا يقدّم الذكاء الاصطناعي التعدّدي تقنية جديدة فحسب، بل فلسفة مختلفة في فهم الإنسان. فالمرض لا يظهر فجأة، بل يُكتب ببطء في النوم، وفي القلب، وفي القلق، وفي تفاصيل لا يلتفت إليها أحد... قبل أن يتجسّد يوماً في صورة أشعة أو نتيجة تحليل. هنا يتحوّل سجلّ العيادة من أوراق تُملأ بعد وقوع الحدث، إلى خريطة حيّة تُقرأ قبل اكتمال القصة.

فرصة عربية يجب ألا نفوّتها

هذا التحوّل ليس ترفاً غربياً، بل فرصة عربية حقيقية، تتزامن مع تسارع التحوّل الرقمي في السعودية والإمارات وقطر، وظهور السجلات الطبية الموحّدة، ورؤى واضحة للصحة الرقمية ضمن «رؤية السعودية 2030».

إذا نجحنا في بناء نموذج عربي للذكاء الاصطناعي التعدّدي، يمكن للطب أن يقفز من التشخيص المتأخّر إلى الوقاية الاستباقية، ومن علاج المرض إلى منعه قبل أن يولد. وكما كتب ابن سينا قبل ألف عام: (أفضلُ الطبّ ما منع العلّة قبل حدوثها).

إن العنوان «حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة» — ليس توصيفاً تقنياً لابتكار جديد، بل إعلان تحوّلٍ عميق في معنى الطبّ نفسه. تحوّل يعيد للإنسان وحدته بعد أن بعثرتها السجلات، ويعيد للجسد منطقه بعد أن اختُزل في أرقام وصور. فالمرض لا يولد في عضو واحد، بل يتشكّل داخل شبكة معقّدة من الزمن والحياة والسلوك. وحين يتعلّم الذكاء الاصطناعي قراءة هذه الشبكة — لا ليحلّ محل الطبيب بل ليحرّره — يصبح القرار الطبي أكثر دقة... وأكثر رحمة في آنٍ واحد.

هنا، يستعيد الطبّ توازنه المفقود: آلةٌ تُحلّل بلا إرهاق، وطبيبٌ يُنصت بلا استعجال.

وعند هذا الحدّ الفاصل بين الحساب والحكمة، يعود الطبّ إلى جوهره الأول: معرفة الإنسان قبل معالجة المرض، ورؤية الحياة كاملة... قبل مطاردة أعراضها المتفرّقة.