لطالما ظن العلماء أن بعض أجزاء الحمض النووي في أجسامنا ليست سوى بقايا عديمة الفائدة من ماضٍ تطوري بعيد. ولكن دراسة جديدة من جامعة ستانفورد الأميركية قلبت هذه الفكرة رأساً على عقب. فقد تبيَّن أن بقايا فيروسات قديمة مدفونة في جيناتنا ليست خاملة كما كان يُعتقد؛ بل هي ضرورية لبداية الحياة نفسها. ومن دونها لا يمكن للأجنة البشرية أن تتطور.
فيروسات قديمة وإنسان حديث
يُقدِّر العلماء أن نحو 9 في المائة من الجينوم البشري يتكوَّن من شظايا فيروسات قديمة، تُعرف باسم الفيروسات القهقرية الذاتية ERVs) Endogenous Retroviruses) (هو نوع من فيروسات الحمض النووي الريبي «RNA» ترتبط بأمراض مختلفة، بما في ذلك بعض أنواع السرطان، وفيروس نقص المناعة البشرية «الإيدز»). وهذه البقايا هي آثار لعدوى أصابت أسلافنا منذ ملايين السنين. ومع مرور الزمن اندمج الحمض النووي الفيروسي داخل شفرتنا الوراثية، وأصبح جزءاً موروثاً يُنسَخ جيلاً بعد جيل.
وكان الاعتقاد السائد أن هذه البقايا التطورية مجرد «حمض نووي غير مفيد»؛ لكن الدراسة الجديدة المنشورة في مجلة «Nature» بتاريخ 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 أثبتت أن بعض هذه الفيروسات القديمة تلعب دوراً أساسياً في مراحل التكوين الأولى للإنسان.
نافذة على الأيام الأولى للحياة
يواجه العلماء صعوبة في دراسة المراحل الأولى من تكوين الجنين البشري، بسبب القيود الأخلاقية التي تمنع إجراء التجارب المباشرة على الأجنة. ولتجاوز هذا التحدي، استخدم الباحثون ما تُعرف بـالبلاستويدات (Blastoids)، وهي نماذج ثلاثية الأبعاد تُنشأ من الخلايا الجذعية، وتشبِه الأجنة في أسبوعها الأول من الحياة.
وفي هذه المرحلة المعروفة باسم الكيسة الأُرَومِيَّة (Blastocyst) تتشكل كرة صغيرة من الخلايا قادرة على تكوين جميع أنسجة وأعضاء الجسم لاحقاً؛ حيث تسمح هذه التقنية للعلماء بمراقبة بدايات الحياة الأولى في بيئة مخبرية آمنة، دون استخدام أجنة حقيقية، ما يفتح الباب أمام فهم أعمق لأسرار النمو البشري المبكر.
تعطيل الشفرة الفيروسية
وركَّزت الدراسة على عنصر فيروسي محدد يُسمى «HERVK LTR5Hs» دخل إلى الحمض النووي البشري، بعد انفصال الانسان كجنس بيولوجي مستقل في العالم القديم.
واستخدم العلماء أدوات تحرير جيني دقيقة لتعطيل أو حذف هذا الجزء الفيروسي من الخلايا الجذعية، وكانت النتائج مذهلة.
فبمجرد تعطيل هذه التسلسلات فشلت الخلايا في التكوُّن بشكل طبيعي، وتحولت إلى كتل غير منظمة من الخلايا ثم ماتت لاحقاً. وكانت هذه النتيجة دليلاً قاطعاً على أن هذا الحمض النووي الفيروسي ضروري لبداية الحياة.
بمعنى آخر: هذه الشفرة الفيروسية القديمة تُنظِّم التعليمات التي تُوجِّه الخلايا الأولى لكيفية النمو والانقسام والتخصص. فما كان يوماً فيروساً غازياً أصبح اليوم مفتاحاً لبناء الحياة البشرية.
الفيروس الذي يشغِّل الحياة
وأظهرت الدراسة أن بقايا الفيروسات القديمة تعمل كمفاتيح تشغيل قوية، تتحكم في نشاط الجينات المسؤولة عن تكوين الجنين في مراحله الأولى. فعند تعطيلها توقفت الجينات الحيوية؛ خصوصاً تلك التي تُسهم في تكوين الطبقة التي تُشكل لاحقاً جسم الإنسان.
بمعنى آخر: إن هذا الجزء الفيروسي لم يعد خطراً كما في الماضي؛ بل أصبح جزءاً أساسياً يوجِّه الخلايا الأولى نحو بناء الإنسان.
مفتاح رئيسي في حمضنا النووي
ومن بين النتائج اللافتة اكتشاف دور فريد لجين بشري يُدعى «ZNF729»، فقد تبين أن قطعة واحدة من الحمض النووي الفيروسي تعمل كمفتاح رئيسي لتفعيل هذا الجين الذي يتحكم في عمليات حيوية، مثل النمو والأيض. واللافت أن هذا الإدخال الفيروسي لا يوجد إلا عند البشر، وهو ما يشير إلى أن تطورنا كنوع كان سيتخذ مساراً مختلفاً تماماً من دونه.
إنه مثال رائع على قدرة التطور على تحويل فيروس كان يهدد الحياة إلى أداة جينية تحفظها وتبنيها.
إعادة التفكير في معنى أن نكون بشراً
تكشف هذه النتائج أن الحمض النووي البشري ليس «بشرياً خالصاً»؛ بل فسيفساء من جينات الإنسان وشظايا الفيروسات القديمة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ منا عبر ملايين السنين. فقد تحولت هذه الفيروسات التي كانت أعداءً في الماضي إلى عناصر أساسية في تكوين الحياة.
وكذلك تشير دراسات أخرى إلى أن الفيروسات القهقرية القديمة ساهمت في تكوين المشيمة وتنظيم جهاز المناعة، ما يعزز الفكرة بأن هذه البقايا الجينية ليست خردة؛ بل مكونات فاعلة في منظومتنا الحيوية.
من التهديد إلى التحالف
تقول الدكتورة جوانا ويسوكا، عالمة الأحياء التطورية بجامعة ستانفورد، والمؤلفة الرئيسية للدراسة، تُظهر نتائجنا كيف يمكن للعناصر الجينية المنقولة حديثاً أن تكتسب وظائف أساسية في التطور البشري.
أي بعبارة أخرى: الفيروسات التي أصابت أسلافنا أصبحت اليوم جزءاً مما يجعلنا بشراً.
من الماضي إلى الحاضر
تسلِّط هذه الاكتشافات الضوء على علاقة معقدة بين الإنسان وتاريخه الفيروسي. فهي لا تغيِّر فهمنا لأصلنا فقط؛ بل تفتح أيضاً آفاقاً جديدة لعلاج العقم ومشكلات الحمل واضطرابات النمو الجنيني التي قد تنتج من خلل في هذه العناصر الفيروسية.
وفي مفارقة مذهلة، يمكن القول إن الفيروسات التي كادت تُفني أسلافنا أصبحت اليوم من مهندسي الحياة نفسها. وكما تقول ويسوكا: نحن بطريقة ما مصنوعون من الفيروسات التي كانت تحاول القضاء علينا.
ففي داخل كل واحد منا سجلٌّ حي من العدوى القديمة، تحوَّل إلى شفرة للحياة الجديدة. قصة البشرية في جوهرها هي أيضاً قصة الفيروسات التي تحوَّلت من أعداء إلى شركاء في خلقنا.

