هل يصح أن نقارن بين منظرين ونقاد أكاديميين؟

تعقيب على مقالة «دليلك إلى النظرية الأدبية» للطفية الدليمي

د.عبد الله الغذامي
د.عبد الله الغذامي
TT

هل يصح أن نقارن بين منظرين ونقاد أكاديميين؟

د.عبد الله الغذامي
د.عبد الله الغذامي

للروائية والمترجمة القديرة لطفية الدليمي حرصٌ كبيرٌ على إدامة التواصل مع مستجدات الثقافة الغربية. وعادةً ما تسعى في اختيار موضوعاتها نحو الملاحقة الجادة لآخر إصدارات الكتب النقدية والفلسفية، بخاصة تلك الصادرة عن «دار روتلدج». وهو ما ينمُّ عن توق نحو التزويد (بجرعة معرفية تكفي في الأقلّ لشدّ عضد القارئ) كما جاء في مقالتها «دليلك إلى النظرية الأدبية» المنشورة في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 10-9-2025 وفيها سعت إلى وضع «دليل» للنظرية الأدبية هو عبارة عن مجموعة كتب نقدية لمؤلفين غربيين.

وليس لي إلا أن أعبر عن تقديري لجهدها في طرق موضوع شائك مثل النظرية الأدبية، كما أثني على مسعاها في تنوير القارئ العربي الذي تفترض فيه احتياجه إلى قدر معين من الثقافة الموسوعية. ولا أروم في مناقشتي لمقالتها الاستدراك، وإنما المشاركة النقدية التي تثري ميدان النقاش بما هو مناسب ومفيد.

بدءاً تقوم فكرة المقالة على البحث عن كتب تأسيسية، تنضبط بموجبها عملية «المثاقفة» استناداً إلى «القراءات المنتظمة»، وإيماناً بالحاجة إلى «موجّهات دليلية نظرية». وما بين التأسيس والتوجيه، يصبح التمييز مهماً بين فلاسفة وأدباء - مثل سارتر وإليوت - مارسوا التنظير من منطلق تجاربهم في حقل أدبي، هم فيه مبدعون، وبين مفكرين كرسوا أعمارهم باتجاه التخصص في التنظير لأطروحة نقدية خاصة بالأدب مثل رومان جاكوبسون ورولان بارت ونورثروب فراي وهارولد بلوم.

وإذا كانت كتب «الدليل» متفاوتة في قيمتها المعرفية وفي تباعد أزمان تأليفها ومقدار صلتها بما يجري الآن من مستجدات في ساحة النقد العالمي، فإنها جاءت - باستثناء كتاب نظرية الأدب لرينيه ويليك وأوستن وارين - مشتركة في بعدين اثنين؛ الأول أنها تعليمية، معدة لطلاب المدارس والجامعات. وليست التعليمية هي المعتمد الأدبي بوصفه «مجموعة كتب أصلية، ولها تاريخ لا يمكن تجاهله، وهي ذات صيغ راسخة ولها قيمتها وغير مشكوك في صحة نسبتها إلى مؤلفيها»، والبعد الآخر في كتب «الدليل» أنها لمؤلفين ناطقين بالإنجليزية. وتوجهاتهم ومرجعياتهم واحدة تمثلها المدرسة الأنجلوسكسونية، باستثناء ويليك الذي انتمى إلى النقد الجديد، وكتبه اليوم من أهم مراجع المدرسة الأنجلوأميركية.

رولان بارت

وكان لانحياز المقالة موضع التعقيب إلى كتب النقاد الإنجليز والأميركان مع حضور الصيغة التعليمية الإرشادية باستعمال كاف الخطاب، أن جعلا «الدليل» يوحي بحتمية تلاقي «النظرية الثقافية بالنظرية الأدبية أي بمعنى صار هناك توجّه عام لمثاقفة (Acculturation) النظرية الأدبية». والمعروف أن الدراسات الثقافية التي وضعها النقاد الإنجليز هي اتجاه منهجي ليس نهائياً، بيد أن الطابع الإرشادي (دليلك) يجعل القارئ يفهم أن التلاقي بين النظريتين هو توجه حاصل وجارٍ العمل به حالياً على مستوى النقد العالمي. وحقيقة الأمر ليست كذلك، فثمة اتجاهات أخرى كان يفترض بـ«الدليل» أن يتطرق إليها كي يرسم خريطة موضوعية، تضع القارئ العربي في صورة ما يطمح إلى التثقف فيه. وما لا اختلاف حوله أن تتبع تاريخ النظرية الأدبية هو غيره البحث في النظرية الأدبية؛ فالأول لا يقوم به أي باحث بسبب ما يحتاج إليه من نظر نقدي وتكريس للعمر الإبداعي في حين أن التتبع التاريخي أمر يمكن أن يقوم به أي باحث أو دارس يجد في نفسه قدرة على تتبع المسارات ورصد التطورات.

فهل يصح بعد ذلك أن نقارن بين منظرين مثل جاكبسون وجينيت ورينيه ويليك وبين نقاد أكاديميين هم باحثون في تاريخ النظريات وليست لهم أي إضافة نظرية مثل رامان سلدن وهانز بيرتنس. والأخير مغمور على صعيد النقد الغربي، فهو وإن كان أستاذاً فخرياً، وأعيدت طباعة كتابه - وهو على حد علمي الوحيد - عدة مرات، فلا يعني هذا تميزه المعرفي. ولا ذكر لهذا الاسم يرد لدى النقاد العرب المتخصصين وغير المتخصصين لسبب بسيط هو أن كتابه هذا غير مترجم إلى اللغة العربية. ولقد دار نصف مقالة الدليمي حوله، فاستعرضت الفصول الواردة في الطبعة الرابعة ثم عرجت على مميزات هذه الطبعة عن سابقتها الثالثة، علماً بأن الطبعة الأولى كانت عام 2001 ومن الطبيعي أن يضيف المؤلف إليها جديداً، لأن النظريات تتبدل وتتطور باستمرار.

وليس بيرتنس وحده في ميدان كتابة تاريخ النظريات، بل هناك أكاديميون كثر مثل البريطاني تيري إيغلتن بكتابه «نظرية الأدب» والأميركيين رامان سلدن بكتابه «النظرية الأدبية المعاصرة» وجوناثان كولر «النظرية الأدبية: مقدّمة وجيزة»، وليس من العدل أن نصف هذه الكتب بالتأسيسية أو نضاهيها بالكتب المؤسسة مثل «قضايا الشعرية» لجاكبسون، و«لذة النص» و«درس السيمولوجيا» لرولان بارت، و«خطاب الحكاية» لجيرار جينيت و«علم النص» لجوليا كرستيفا، و«بلاغة الخطاب القصصي» لواين بوث، وفيها وضعوا أطروحات نظرية، ساهمت في التأصيل النقدي للأدب. وبسببها تأسست مدارس عتيدة في النقد الأدبي.

ولا يعني تقديم النظرية الأدبية على تاريخ النظرية، التقليل من قيمة ما أُلف في هذا المجال أو انتقاص جهد أصحابها، لكنها فكرة «الدليل» التي تفرض على المتخصص الفصل علمياً بين النظرية والتاريخ، وأيضاً الفصل بين نظرية الأدب والدراسات الثقافية. وهذه الأخيرة عبارة عن اتجاه نقدي لاقى رواجاً منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين ثم خفت صيته مع مطلع القرن الحالي بعد أن صعد نجم الاتجاهات التي تبنتها المدرسة الأنجلو أميركية.

ومن المهم أن نشرح بإيجاز دواعي اجتراح النقاد الإنجليز لهذا الاتجاه المنهجي الذي يجمع الأدب بالثقافة، واصطلحوا على تسميته بالدراسات الثقافية (Cultural studies)، وقد يجد القارئ في الدواعي تعليلاً ضمنياً للأسباب التي حملت النقاد العرب على تبني هذه الدراسات والاحتفاء الكبير بها أيضاً. إذ من المعلوم أن الشكلانيين الروس نجحوا نجاحاً باهراً في تأسيس مدرسة لاقت انتشاراً خلال النصف الأول من القرن العشرين. وتوطدت أركانها بإنجازات نقاد أوروبيين في مجال الأسلوبيات والدراسات الألسنية. وكان لظهور النقاد الجدد ثم البنيويين أن سحب بساط النظرية الأدبية من تحت أقدام الشكلانيين. فنشأت المدرسة الفرانكفونية وهيمنت على عرش النقد الأدبي خلال ستينات وسبعينات القرن نفسه. في هذه الأثناء كان النقاد الإنجليز دائمي البحث عن موطئ قدم لهم ما بين الروس والألمان والفرانكفونيين. واستندوا في مسعاهم هذا إلى كتب نقدية تجمع الممارسة بالنظرية، بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر مثل كتاب «النقد العملي» لأرمستونغ ريتشاردز وكتب جون ستوارت ميل. وبعضها الآخر يعود إلى أدباء ونقاد ظهروا في حدود النصف الأول من القرن العشرين مثل رايموند ليفز بكتابه «الاتجاهات الجديدة في الشعر الإنجليزي» وت. س. إليوت بكتابه «التقليد والموهبة الفردية»، وكانت مساعي الثقافيين موجهة نحو التقوقع على الفكر الإنجليزي من جهة، واتخاذ «الثقافة» من جهة أخرى منهجاً ونظرية وفلسفة في دراسات تقوم على النقد البنَّاء (رايموند وليامز) والنقد المستهجن والساخر (تيري إيغلتون)، والهدف هو الارتقاء بالمدرسة الأنجلوسكسونية لتكون في مصاف المدرستين الفرانكفونية والأنجلوأميركية، لكن الهدف لم يتحقق. فلقد بقيت الدراسات الثقافية مجرد منهجية، لا يزال النقاد الإنجليز يواظبون على الاشتغال بها من دون أن يضعوا نظرية محددة في «الأدب» يمكن وصفها بأنها نظرية أدبية. واستناداً إلى واقع الدراسات الثقافية البريطانية لا تكون كتب إيغلتون وستوارت هول وهانز بيرتنس تأسيسية ولا دليلاً مرجعياً للنظرية الأدبية.

عربياً كان الدكتور عبد الله الغذامي من أوائل المطبقين لهذا الجمع بين الأدب والثقافة، وفات الأستاذة الدليمي الإشارة إلى كتابه «النقد الثقافي» (2000)، وفيه جهد واع وبأفق نظري في الدعوة إلى النقد الثقافي. ولاقت دعوته رواجاً، وتباينت طرائق استيعابها؛ فكثير من نقاد الأدب العربي فهموا الثقافية على أنها دعوة إلى تجاهل النظريات الأدبية بمفاهيمها وأجهزتها الاصطلاحية. وبرأيهم أن ما داموا يعملون تحت يافطة «النقد الثقافي»، فإنهم في منأى من أي مؤاخذات علمية أو تصحيحات مفاهيمية. ووجد غيرهم في الإنشائيات واللعب على مفردات مثل «الأسئلة، الآخر، السرديات» ما يسهل عليهم تدبيج مقالات، هي في تصورهم نقدية، تغني عن عناء المدارسة المكثفة والتكريس المنتظم وقصدية الإحاطة المستمرة في عالم النقد الأدبي.

وكان من متحصلات القراءة السلبية لدعوة الدكتور الغذامي أن صار لدينا نوعان من الناظرين بانتقاص إلى «النقد الأدبي»: النوع الأول يرى أن النقد الثقافي بديل عن النقد الأدبي، والنوع الآخر يرى علم الأدب بديلاً عن النقد الأدبي. وهذا ما أكدته أيضاً مقالة الدليمي، فالنقد الأدبي كان في زمن ماض «ذا سطوة لا يمكن مخاتلتها»، ثم ذهبت السطوة و«خفت النقد الأدبي كثيراً» إلى أن تلاشى هذا النقد و«ظهر الأدب اشتغالاً عاماً لمختصين بالذكاء الاصطناعي والرياضيات والفيزياء، ولم يعُدْ احتكاراً خالصاً»، وكأن ليس النقد الأدبي حقلاً معرفياً عمره من عمر الفلسفة الإغريقية، وكأن ليس له من التخصص والعلمية والعمق التاريخي والأهمية الجمالية ما يؤكد استقلاليته، ويفنِّد أي محاولة لشطبه.

وأشاطر الدليمي مسعاها في البحث عن كتب عربية تصلح أن تكون «موجّهات دليلية نظرية في فضاء الأدب العربي والثقافة العربية»، لكن بشرط أن تكون مواكبة لمستجدات النظرية الأدبية، لا أن تعود بنا إلى ما قبل ثلاثين عاماً بأطروحتين لعبد الله إبراهيم (1996) وسعيد يقطين (1989) الأولى اتبعت في دراسة السرد العربي المنهج البنيوي، والأخرى اتبعت المنهج البنيوي التركيبي. فهل يصح عدّهما تأسيسيتين وفي مجال الدراسات الثقافية؟ بالطبع لا؛ إذ لم تقدما نظرية أدبية، ولا هما نهجتا منهج الدراسات الثقافية.

وما لا شك فيه أنَّ مشروع د. عبد الله الغذامي في اتخاذ النقد الثقافي بديلاً عن النقد الأدبي، كان واضحاً كل الوضوح. ليكون اسم الغذامي الأول في أي دليل عربي يوضع للدراسات الثقافية - وليس النظرية الأدبية - وبغض النظر عن مدى صحة المشروع أو بطلانه.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».