ما الطريقة الصحيحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل؟

نفقات هائلة لتطويره... وتوظيف متدنٍ لاستعماله في الشركات والمؤسسات

خدمات «تريبيون ميديا»
خدمات «تريبيون ميديا»
TT

ما الطريقة الصحيحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل؟

خدمات «تريبيون ميديا»
خدمات «تريبيون ميديا»

إذا استمعتَ إلى الرؤساء التنفيذيين لشركات الذكاء الاصطناعي المرموقة، أو ألقيتَ نظرةً عابرةً على الاقتصاد الأميركي، فمن الواضح تماماً أن الحماس للذكاء الاصطناعي منتشرٌ في كل مكان، كما كتب توماس سميث (*).

إنفاق هائل

وقد أنفقت كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية أكثر من 100 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي حتى الآن هذا العام، ويُشير «دويتشه بنك» إلى أن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي هو العامل الوحيد الذي يُبقي الولايات المتحدة بمنأى عن الركود.

توظيف متدنٍ للذكاء الاصطناعي

ومع ذلك، إذا نظرتَ إلى الشركات غير التقنية المتوسطة، فلن تجد الذكاء الاصطناعي في أي مكان. أما في الشركات الكبيرة فتُشير شركة «غولدمان ساكس» إلى أن 14 في المائة فقط منها قد وظَّفت الذكاء الاصطناعي بطريقةٍ فعّالة.

ما السبب؟ إذا كان الذكاء الاصطناعي بهذه الأهمية حقاً، فلماذا يوجد تفاوتٌ بمليارات الدولارات بين الحماس للذكاء الاصطناعي وبين تأثيره الفعلي على أرض الواقع؟

طريقتان صحيحة وخاطئة لاستخدامه

تُقدم دراسةٌ جديدةٌ من جامعة ستانفورد إجابةً واضحةً. تكشف الدراسة عن وجود طريقة صحيحة وأخرى خاطئة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل. كما تكشف عن عدد مقلق من الشركات تُسيء استخدامه تماماً.

خدمات «تريبيون ميديا»

ماذا يُمكن أن يُقدم لك الذكاء الاصطناعي؟

تتناول الدراسة، التي أجراها معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المُتمركز حول الإنسان ومختبر الاقتصاد الرقمي، والمتاحة حالياً بوصفها نسخةً أوليةً، العادات اليومية لـ1500 عامل أميركي في 104 مهن مختلفة.

وعلى وجه التحديد، تُحلل الدراسة الجوانب الفردية التي يقضي العمال وقتهم في القيام بها. وهذه الدراسة شاملة بشكل مُدهش، حيث تتناول وظائف تتراوح من مهندسي الكمبيوتر إلى طهاة الكافيتريات.

سأل الباحثون العمال بشكل أساسي عن المهام التي يرغبون في أن يُزيلها الذكاء الاصطناعي من أعمالهم، والمهام التي يُفضّلون القيام بها بأنفسهم. وفي الوقت نفسه، حلل الباحثون المهام التي يُمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها بالفعل، والمهام التي لا تزال بعيدةً عن متناول التكنولوجيا.

تصنيف المهام إلى آلية وبشرية

باستخدام هاتين المجموعتين من البيانات، أنشأ الباحثون نظام تصنيف. لقد صنَّفوا المهام إلى «منطقة الضوء الأخضر» إذا أراد العاملون أتمتتها وكان الذكاء الاصطناعي قادراً على القيام بها، و«منطقة الضوء الأحمر» إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على القيام بالعمل ولكن الناس يفضلون القيام به بأنفسهم، و«منطقة الضوء الأصفر» (تقنياً «منطقة فرص البحث والتطوير»، لكنني أسميها «الضوء الأصفر» لأن الاستعارة تستحق التوسيع) إذا أراد الناس أتمتة المهمة ولكن الذكاء الاصطناعي لم يصل إليها بعد.

كما أنشأوا ما تُسمى «منطقة الضوء المحظور» للمهام التي لا يتقنها الذكاء الاصطناعي، والتي لا يريد الناس القيام بها على أي حال.

المهام الممّلة والمتكررة

وكانت النتائج مذهلة؛ إذ يرغب العاملون بأغلبية ساحقة في أن يقوم الذكاء الاصطناعي بأتمتة الأجزاء المملة من وظائفهم.

وقد وجدت دراسة جامعة ستانفورد أن 69.4 في المائة من العاملين يريدون من الذكاء الاصطناعي «توفير الوقت للعمل ذي القيمة الأعلى»، بينما يرغب 46.6 في المائة في أن يتولى المهام المتكررة.

كان التحقق من السجلات بحثاً عن الأخطاء، وتحديد المواعيد مع العملاء، وإدخال البيانات من بين المهام التي عدّها العاملون المهام الأكثر التي يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة فيها.

شراكة... ولكن بإشراف بشري

الأهم من ذلك، أن معظم العمال يقولون إنهم يرغبون في التعاون مع الذكاء الاصطناعي، لكنهم لا يريدون أتمتة عملهم بالكامل. بينما يرغب 45.2 في المائة في «شراكة متساوية بين العمال والذكاء الاصطناعي»، ويريد 35.6 في المائة أن يعمل الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي بمفرده، مع السعي في الوقت نفسه إلى «الإشراف البشري في المراحل الحرجة».

ببساطة، يرغب العمال في أن يُخفف الذكاء الاصطناعي من وطأة المهام المملة، ويترك لهم المهام الشيقة أو الجذابة.

على سبيل المثال، قد يرغب الطاهي في أن يساعده الذكاء الاصطناعي على تنسيق عمليات التوصيل من مورديه، أو مراسلة الزبائن لتذكيرهم بحجز مقبل. أما عند طهي الطعام، فيفضل أن يكون هو مَن يحضِّر المكونات أو يزيِّن كريمة المعجنات.

خطأ الشركات في التطبيق

حتى الآن، لا شيء في استنتاجات الدراسة يبدو مفاجئاً. بالطبع، يرغب العمال في أن يقوم الكمبيوتر بعملهم الشاق!

مع ذلك، فإن الاستنتاج الأكثر إثارة للاهتمام الذي توصلت إليه الدراسة لا يتعلق بتفضيلات العمال، بل بكيفية تلبية الشركات فعلياً (أو بالأحرى، عدم تلبية) تلك التفضيلات اليوم.

وشرع الباحثون، مسلحين بمناطقهم ومعلومات حول كيفية رغبة العمال في استخدام الذكاء الاصطناعي، في تحليل الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تطرحها الشركات الناشئة في السوق اليوم، باستخدام مجموعة بيانات من «Y Combinator»، وهي أداة مسرعة تقنية عريقة في وادي السيليكون.

في جوهرها، وجد الباحثون أن شركات الذكاء الاصطناعي تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل خاطئ تماماً.

ووجد الباحثون أن 41 في المائة من أدوات الذكاء الاصطناعي تركز إما على مهام «منطقة الضوء الأحمر» أو «منطقة الضوء المحدود»، وهي المهام التي يرغب العمال في القيام بها بأنفسهم، أو ببساطة لا يهتمون بها كثيراً في المقام الأول.

تحاول كثير من الأدوات حل المشكلات في «منطقة الضوء الأصفر» – جوانب مثل إعداد ميزانيات الأقسام أو تصميم نماذج أولية لمنتجات جديدة - والتي يرغب العمال في تسليمها للذكاء الاصطناعي، لكن الذكاء الاصطناعي لا يزال سيئاً في القيام بها.

لا تقع سوى أقلية ضئيلة من منتجات الذكاء الاصطناعي اليوم ضمن نطاق «الضوء الأخضر» المرغوب، وهي مهام يجيدها الذكاء الاصطناعي ويرغب العاملون في إنجازها بالفعل. وبينما تُركز كثير من شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة اليوم على إبعاد البشر عن المعادلة، يُفضِّل معظم البشر البقاء، ولو إلى حد ما، مُنخرطين في أعمالهم اليومية.

بمعنى آخر، تُركز شركات الذكاء الاصطناعي على الأمور الخاطئة. فهي إما أن تحل مشكلات لا أحد يُريد حلها، أو أن تستخدم الذكاء الاصطناعي في مهام لا يستطيع إنجازها بعد.

لا عجب إذن أن يكون تبني الذكاء الاصطناعي في الشركات الكبرى منخفضاً جداً. فالأدوات المُتاحة لها مُبتكرة ومُتقنة، لكنها لا تُحل المشكلات الفعلية التي يواجهها العاملون.

كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بكفاءة

تُقدم دراسة ستانفورد، لكل من العاملين وقادة الأعمال كثيراً من الدروس المهمة حول الطريقة الصحيحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل.

إن الذكاء الاصطناعي يعمل بشكل أفضل عند استخدامه لأتمتة الأجزاء المُملة والمُكررة والمُملة للعقل من وظيفتك. وفي بعض الأحيان، يتطلب القيام بذلك أداةً جديدةً تماماً. لكن في كثير من الحالات، يتطلب الأمر تغييراً في المواقف.

أهمية توجيه تعليمات صحيحة

أشارت حلقة حديثة من بودكاست «بلانيت موني» على إذاعة «NPR» إلى دراسة مُنحت فيها مجموعتان من المساعدين القانونيين إمكانية الوصول إلى أداة الذكاء الاصطناعي نفسها. طُلب من أفراد المجموعة الأولى استخدام الأداة «لزيادة إنتاجيتهم»، بينما طُلب من أفراد المجموعة الثانية استخدامها «لأداء المهام التي يكرهونها في عملهم».

بالكاد اعتمدت المجموعة الأولى أداة الذكاء الاصطناعي. أما المجموعة الثانية من المساعدين القانونيين، فقد «ازدهروا». فقد أصبحوا أكثر إنتاجية بشكل كبير، حتى أنهم تولوا أعمالاً كانت تتطلب سابقاً شهادة في القانون.

بعبارة أخرى، عندما يتعلق الأمر باعتماد الذكاء الاصطناعي، فإن التعليمات والنوايا مهمة.

أتمتة المهام المكروهة

إذا حاولت استخدام الذكاء الاصطناعي لاستبدال وظيفتك بالكامل، فمن المحتمل أن تفشل. ولكن إذا ركزت بدلاً من ذلك تحديداً على استخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة «المهام التي يكرهها الناس في عملهم» (أي مهام «الضوء الأخضر» في معيار باحثي ستانفورد)، فستزدهر وستجد نفسك تستخدم الذكاء الاصطناعي في أشياء أكثر بكثير.

أسبقية الشراكة على استقلالية الذكاء الاصطناعي

في السياق نفسه، تكشف دراسة جامعة ستانفورد عن أن معظم العاملين يفضِّلون التعاون مع الذكاء الاصطناعي بدلاً من تسليم العمل بالكامل.

هذا مؤشرٌ واضح. وبينما ركز كثير من شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة اليوم على «الوكلاء» الذين يؤدون العمل بشكل مستقل، فإن بحث جامعة ستانفورد يشير إلى أن هذا قد يكون النهج الخاطئ.

بدلاً من السعي لتحقيق استقلالية كاملة، يقترح الباحثون التركيز على الشراكة مع الذكاء الاصطناعي واستخدامه لتحسين عملنا، وربما تقبّل ضرورة وجود الإنسان دائماً في دائرة العمل.

هذا يُحررنا من نواحٍ عدة. فالذكاء الاصطناعي جيدٌ بالفعل بما يكفي لأداء كثير من المهام المعقدة بإشراف بشري. إذا تقبّلنا ضرورة استمرار مشاركة البشر، فيُمكننا البدء في استخدام الذكاء الاصطناعي في الأمور المعقدة اليوم، بدلاً من انتظار ظهور الذكاء الاصطناعي العام (AGI) أو أي تقنية مستقبلية مثالية مُتخيلة.

وأخيراً، تُشير الدراسة إلى وجود فرص هائلة لشركات الذكاء الاصطناعي لحل مشكلات العالم الحقيقي وتحقيق ثروات طائلة من ذلك، شريطة أن تُركز على المشكلات الصحيحة.

عوائد الذكاء الاصطناعي

* تشخيص الحالات الطبية باستخدام الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أمرٌ رائع. من المرجح أن يُدرّ بناء أداة للقيام بذلك عوائد طائلة من رأس المال المُغامر.

لكن قد لا يرغب الأطباء - والأهم من ذلك، قد لا يستخدمون أبداً - ذكاءً اصطناعياً يُجري أعمالاً تشخيصية. وبدلاً من ذلك، تُشير دراسة ستانفورد إلى أنهم سيميلون أكثر إلى استخدام الذكاء الاصطناعي الذي يُجري مهاماً روتينية؛ مثل نسخ ملاحظات مرضاهم، وتلخيص السجلات الطبية، والتحقق من تفاعلات الأدوية في وصفاتهم الطبية، وجدولة زيارات المتابعة، وما شابه.

أتمتة الأمور المُملة

ليست شعاراً قوياً لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة الرائدة اليوم. لكن هذا النهج هو الذي يُرجّح أن يُدرّ عليها أرباحاً طائلة على المدى الطويل.

فرصة كبرى

وبشكل عام، تُعدّ دراسة ستانفورد مُشجعة للغاية. من ناحية، يُعدّ عدم التوافق بين الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتبنيه أمراً مُحبطاً. هل كل هذا مجرد دعاية؟ هل نحن في خضمّ أمّ الفقاعة؟

تُشير دراسة ستانفورد إلى أن الإجابة هي «لا». إن عدم تبني الذكاء الاصطناعي يُمثّل فرصة، وليس عيباً هيكلياً في هذه التقنية. إذ يمتلك الذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة لتحسين جودة العمل، وزيادة الإنتاجية، وجعل الموظفين أكثر سعادة. ليس الأمر أن هذه التقنية مُبالغ في الترويج لها، بل إننا نستخدمها بشكل خاطئ.

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

حقائق

أكثر من 100

مليار دولار مقدار ما أنفقت كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية على الذكاء الاصطناعي حتى الآن هذا العام


مقالات ذات صلة

من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

تحليل إخباري الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرحبا بالأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض (أ.ف.ب) play-circle

من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

تحالف سعودي - أميركي ينتقل من النفط إلى الرقائق والذكاء الاصطناعي، مستفيداً من الطاقة منخفضة التكلفة لنقل التقنية وتوطين الحوسبة وبناء اقتصاد المستقبل.

د. يوسف القوس
الاقتصاد لافتة تحمل عبارة «الذكاء الاصطناعي» خلال المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي في شنغهاي (أرشيفية - رويترز)

الذكاء الاصطناعي يرسخ مكانته في صميم استراتيجيات الاستثمار لعام 2026

مع دخول الأسواق العالمية عصر «الاقتصاد المعرفي»، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد قطاع تقني عابر أو ظاهرة مؤقتة، بل أصبح محركاً رئيسياً يُعيد تشكيل النظام المالي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ…

د. عميد خالد عبد الحميد (لندن)
الاقتصاد علم الصين فوق لوحة إلكترونية تحمل شعار «صنع في الصين» (رويترز)

الذكاء الاصطناعي الصيني يجذب المستثمرين وسط مخاوف «فقاعة وول ستريت»

يزيد المستثمرون العالميون من رهاناتهم على شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، متوقعين نجاح نماذج عدة قادمة على غرار «ديب سيك».

«الشرق الأوسط» (نيويورك-هونغ كونغ)
تكنولوجيا ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

خبراء يدعون إلى مقاطعة شرائها

كريس ستوكل - والكر (واشنطن)

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.