ما الطريقة الصحيحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل؟

نفقات هائلة لتطويره... وتوظيف متدنٍ لاستعماله في الشركات والمؤسسات

خدمات «تريبيون ميديا»
خدمات «تريبيون ميديا»
TT

ما الطريقة الصحيحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل؟

خدمات «تريبيون ميديا»
خدمات «تريبيون ميديا»

إذا استمعتَ إلى الرؤساء التنفيذيين لشركات الذكاء الاصطناعي المرموقة، أو ألقيتَ نظرةً عابرةً على الاقتصاد الأميركي، فمن الواضح تماماً أن الحماس للذكاء الاصطناعي منتشرٌ في كل مكان، كما كتب توماس سميث (*).

إنفاق هائل

وقد أنفقت كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية أكثر من 100 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي حتى الآن هذا العام، ويُشير «دويتشه بنك» إلى أن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي هو العامل الوحيد الذي يُبقي الولايات المتحدة بمنأى عن الركود.

توظيف متدنٍ للذكاء الاصطناعي

ومع ذلك، إذا نظرتَ إلى الشركات غير التقنية المتوسطة، فلن تجد الذكاء الاصطناعي في أي مكان. أما في الشركات الكبيرة فتُشير شركة «غولدمان ساكس» إلى أن 14 في المائة فقط منها قد وظَّفت الذكاء الاصطناعي بطريقةٍ فعّالة.

ما السبب؟ إذا كان الذكاء الاصطناعي بهذه الأهمية حقاً، فلماذا يوجد تفاوتٌ بمليارات الدولارات بين الحماس للذكاء الاصطناعي وبين تأثيره الفعلي على أرض الواقع؟

طريقتان صحيحة وخاطئة لاستخدامه

تُقدم دراسةٌ جديدةٌ من جامعة ستانفورد إجابةً واضحةً. تكشف الدراسة عن وجود طريقة صحيحة وأخرى خاطئة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل. كما تكشف عن عدد مقلق من الشركات تُسيء استخدامه تماماً.

خدمات «تريبيون ميديا»

ماذا يُمكن أن يُقدم لك الذكاء الاصطناعي؟

تتناول الدراسة، التي أجراها معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المُتمركز حول الإنسان ومختبر الاقتصاد الرقمي، والمتاحة حالياً بوصفها نسخةً أوليةً، العادات اليومية لـ1500 عامل أميركي في 104 مهن مختلفة.

وعلى وجه التحديد، تُحلل الدراسة الجوانب الفردية التي يقضي العمال وقتهم في القيام بها. وهذه الدراسة شاملة بشكل مُدهش، حيث تتناول وظائف تتراوح من مهندسي الكمبيوتر إلى طهاة الكافيتريات.

سأل الباحثون العمال بشكل أساسي عن المهام التي يرغبون في أن يُزيلها الذكاء الاصطناعي من أعمالهم، والمهام التي يُفضّلون القيام بها بأنفسهم. وفي الوقت نفسه، حلل الباحثون المهام التي يُمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها بالفعل، والمهام التي لا تزال بعيدةً عن متناول التكنولوجيا.

تصنيف المهام إلى آلية وبشرية

باستخدام هاتين المجموعتين من البيانات، أنشأ الباحثون نظام تصنيف. لقد صنَّفوا المهام إلى «منطقة الضوء الأخضر» إذا أراد العاملون أتمتتها وكان الذكاء الاصطناعي قادراً على القيام بها، و«منطقة الضوء الأحمر» إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على القيام بالعمل ولكن الناس يفضلون القيام به بأنفسهم، و«منطقة الضوء الأصفر» (تقنياً «منطقة فرص البحث والتطوير»، لكنني أسميها «الضوء الأصفر» لأن الاستعارة تستحق التوسيع) إذا أراد الناس أتمتة المهمة ولكن الذكاء الاصطناعي لم يصل إليها بعد.

كما أنشأوا ما تُسمى «منطقة الضوء المحظور» للمهام التي لا يتقنها الذكاء الاصطناعي، والتي لا يريد الناس القيام بها على أي حال.

المهام الممّلة والمتكررة

وكانت النتائج مذهلة؛ إذ يرغب العاملون بأغلبية ساحقة في أن يقوم الذكاء الاصطناعي بأتمتة الأجزاء المملة من وظائفهم.

وقد وجدت دراسة جامعة ستانفورد أن 69.4 في المائة من العاملين يريدون من الذكاء الاصطناعي «توفير الوقت للعمل ذي القيمة الأعلى»، بينما يرغب 46.6 في المائة في أن يتولى المهام المتكررة.

كان التحقق من السجلات بحثاً عن الأخطاء، وتحديد المواعيد مع العملاء، وإدخال البيانات من بين المهام التي عدّها العاملون المهام الأكثر التي يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة فيها.

شراكة... ولكن بإشراف بشري

الأهم من ذلك، أن معظم العمال يقولون إنهم يرغبون في التعاون مع الذكاء الاصطناعي، لكنهم لا يريدون أتمتة عملهم بالكامل. بينما يرغب 45.2 في المائة في «شراكة متساوية بين العمال والذكاء الاصطناعي»، ويريد 35.6 في المائة أن يعمل الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي بمفرده، مع السعي في الوقت نفسه إلى «الإشراف البشري في المراحل الحرجة».

ببساطة، يرغب العمال في أن يُخفف الذكاء الاصطناعي من وطأة المهام المملة، ويترك لهم المهام الشيقة أو الجذابة.

على سبيل المثال، قد يرغب الطاهي في أن يساعده الذكاء الاصطناعي على تنسيق عمليات التوصيل من مورديه، أو مراسلة الزبائن لتذكيرهم بحجز مقبل. أما عند طهي الطعام، فيفضل أن يكون هو مَن يحضِّر المكونات أو يزيِّن كريمة المعجنات.

خطأ الشركات في التطبيق

حتى الآن، لا شيء في استنتاجات الدراسة يبدو مفاجئاً. بالطبع، يرغب العمال في أن يقوم الكمبيوتر بعملهم الشاق!

مع ذلك، فإن الاستنتاج الأكثر إثارة للاهتمام الذي توصلت إليه الدراسة لا يتعلق بتفضيلات العمال، بل بكيفية تلبية الشركات فعلياً (أو بالأحرى، عدم تلبية) تلك التفضيلات اليوم.

وشرع الباحثون، مسلحين بمناطقهم ومعلومات حول كيفية رغبة العمال في استخدام الذكاء الاصطناعي، في تحليل الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تطرحها الشركات الناشئة في السوق اليوم، باستخدام مجموعة بيانات من «Y Combinator»، وهي أداة مسرعة تقنية عريقة في وادي السيليكون.

في جوهرها، وجد الباحثون أن شركات الذكاء الاصطناعي تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل خاطئ تماماً.

ووجد الباحثون أن 41 في المائة من أدوات الذكاء الاصطناعي تركز إما على مهام «منطقة الضوء الأحمر» أو «منطقة الضوء المحدود»، وهي المهام التي يرغب العمال في القيام بها بأنفسهم، أو ببساطة لا يهتمون بها كثيراً في المقام الأول.

تحاول كثير من الأدوات حل المشكلات في «منطقة الضوء الأصفر» – جوانب مثل إعداد ميزانيات الأقسام أو تصميم نماذج أولية لمنتجات جديدة - والتي يرغب العمال في تسليمها للذكاء الاصطناعي، لكن الذكاء الاصطناعي لا يزال سيئاً في القيام بها.

لا تقع سوى أقلية ضئيلة من منتجات الذكاء الاصطناعي اليوم ضمن نطاق «الضوء الأخضر» المرغوب، وهي مهام يجيدها الذكاء الاصطناعي ويرغب العاملون في إنجازها بالفعل. وبينما تُركز كثير من شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة اليوم على إبعاد البشر عن المعادلة، يُفضِّل معظم البشر البقاء، ولو إلى حد ما، مُنخرطين في أعمالهم اليومية.

بمعنى آخر، تُركز شركات الذكاء الاصطناعي على الأمور الخاطئة. فهي إما أن تحل مشكلات لا أحد يُريد حلها، أو أن تستخدم الذكاء الاصطناعي في مهام لا يستطيع إنجازها بعد.

لا عجب إذن أن يكون تبني الذكاء الاصطناعي في الشركات الكبرى منخفضاً جداً. فالأدوات المُتاحة لها مُبتكرة ومُتقنة، لكنها لا تُحل المشكلات الفعلية التي يواجهها العاملون.

كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بكفاءة

تُقدم دراسة ستانفورد، لكل من العاملين وقادة الأعمال كثيراً من الدروس المهمة حول الطريقة الصحيحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمل.

إن الذكاء الاصطناعي يعمل بشكل أفضل عند استخدامه لأتمتة الأجزاء المُملة والمُكررة والمُملة للعقل من وظيفتك. وفي بعض الأحيان، يتطلب القيام بذلك أداةً جديدةً تماماً. لكن في كثير من الحالات، يتطلب الأمر تغييراً في المواقف.

أهمية توجيه تعليمات صحيحة

أشارت حلقة حديثة من بودكاست «بلانيت موني» على إذاعة «NPR» إلى دراسة مُنحت فيها مجموعتان من المساعدين القانونيين إمكانية الوصول إلى أداة الذكاء الاصطناعي نفسها. طُلب من أفراد المجموعة الأولى استخدام الأداة «لزيادة إنتاجيتهم»، بينما طُلب من أفراد المجموعة الثانية استخدامها «لأداء المهام التي يكرهونها في عملهم».

بالكاد اعتمدت المجموعة الأولى أداة الذكاء الاصطناعي. أما المجموعة الثانية من المساعدين القانونيين، فقد «ازدهروا». فقد أصبحوا أكثر إنتاجية بشكل كبير، حتى أنهم تولوا أعمالاً كانت تتطلب سابقاً شهادة في القانون.

بعبارة أخرى، عندما يتعلق الأمر باعتماد الذكاء الاصطناعي، فإن التعليمات والنوايا مهمة.

أتمتة المهام المكروهة

إذا حاولت استخدام الذكاء الاصطناعي لاستبدال وظيفتك بالكامل، فمن المحتمل أن تفشل. ولكن إذا ركزت بدلاً من ذلك تحديداً على استخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة «المهام التي يكرهها الناس في عملهم» (أي مهام «الضوء الأخضر» في معيار باحثي ستانفورد)، فستزدهر وستجد نفسك تستخدم الذكاء الاصطناعي في أشياء أكثر بكثير.

أسبقية الشراكة على استقلالية الذكاء الاصطناعي

في السياق نفسه، تكشف دراسة جامعة ستانفورد عن أن معظم العاملين يفضِّلون التعاون مع الذكاء الاصطناعي بدلاً من تسليم العمل بالكامل.

هذا مؤشرٌ واضح. وبينما ركز كثير من شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة اليوم على «الوكلاء» الذين يؤدون العمل بشكل مستقل، فإن بحث جامعة ستانفورد يشير إلى أن هذا قد يكون النهج الخاطئ.

بدلاً من السعي لتحقيق استقلالية كاملة، يقترح الباحثون التركيز على الشراكة مع الذكاء الاصطناعي واستخدامه لتحسين عملنا، وربما تقبّل ضرورة وجود الإنسان دائماً في دائرة العمل.

هذا يُحررنا من نواحٍ عدة. فالذكاء الاصطناعي جيدٌ بالفعل بما يكفي لأداء كثير من المهام المعقدة بإشراف بشري. إذا تقبّلنا ضرورة استمرار مشاركة البشر، فيُمكننا البدء في استخدام الذكاء الاصطناعي في الأمور المعقدة اليوم، بدلاً من انتظار ظهور الذكاء الاصطناعي العام (AGI) أو أي تقنية مستقبلية مثالية مُتخيلة.

وأخيراً، تُشير الدراسة إلى وجود فرص هائلة لشركات الذكاء الاصطناعي لحل مشكلات العالم الحقيقي وتحقيق ثروات طائلة من ذلك، شريطة أن تُركز على المشكلات الصحيحة.

عوائد الذكاء الاصطناعي

* تشخيص الحالات الطبية باستخدام الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أمرٌ رائع. من المرجح أن يُدرّ بناء أداة للقيام بذلك عوائد طائلة من رأس المال المُغامر.

لكن قد لا يرغب الأطباء - والأهم من ذلك، قد لا يستخدمون أبداً - ذكاءً اصطناعياً يُجري أعمالاً تشخيصية. وبدلاً من ذلك، تُشير دراسة ستانفورد إلى أنهم سيميلون أكثر إلى استخدام الذكاء الاصطناعي الذي يُجري مهاماً روتينية؛ مثل نسخ ملاحظات مرضاهم، وتلخيص السجلات الطبية، والتحقق من تفاعلات الأدوية في وصفاتهم الطبية، وجدولة زيارات المتابعة، وما شابه.

أتمتة الأمور المُملة

ليست شعاراً قوياً لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة الرائدة اليوم. لكن هذا النهج هو الذي يُرجّح أن يُدرّ عليها أرباحاً طائلة على المدى الطويل.

فرصة كبرى

وبشكل عام، تُعدّ دراسة ستانفورد مُشجعة للغاية. من ناحية، يُعدّ عدم التوافق بين الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتبنيه أمراً مُحبطاً. هل كل هذا مجرد دعاية؟ هل نحن في خضمّ أمّ الفقاعة؟

تُشير دراسة ستانفورد إلى أن الإجابة هي «لا». إن عدم تبني الذكاء الاصطناعي يُمثّل فرصة، وليس عيباً هيكلياً في هذه التقنية. إذ يمتلك الذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة لتحسين جودة العمل، وزيادة الإنتاجية، وجعل الموظفين أكثر سعادة. ليس الأمر أن هذه التقنية مُبالغ في الترويج لها، بل إننا نستخدمها بشكل خاطئ.

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

حقائق

أكثر من 100

مليار دولار مقدار ما أنفقت كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية على الذكاء الاصطناعي حتى الآن هذا العام


مقالات ذات صلة

ماسك يلتقي قادة الإمارات لبحث فرص الذكاء الاصطناعي

الاقتصاد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات وإيلون ماسك خلال اللقاء في أبوظبي بحضور الشيخ حمدان بن محمد بن راشد (وام)

ماسك يلتقي قادة الإمارات لبحث فرص الذكاء الاصطناعي

بحث الملياردير الأميركي إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركات تعمل في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مع قيادة دولة الإمارات آفاق التعاون في الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
تحليل إخباري الكمبيوتر العملاق «أندروميدا» من شركة «سيريبراس سيستمز» في مركز للبيانات في سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا الأميركية (رويترز)

تحليل إخباري العولمة الجديدة وخطر السقوط في هاوية الاستبداد

خفت كثيراً وهج التعدد والتمايز، وصارت مجتمعات عديدة تتشابه إلى حد «الملل» مع ضمور العديد من العادات والتقاليد إلى حد تهديد الهويات.

أنطوان الحاج
تكنولوجيا يورينا نوغوتشي البالغة من العمر 32 عاماً تتحدث مع كلاوس شريكها في الذكاء الاصطناعي عبر تطبيق «شات جي بي تي» خلال تناول العشاء في منزلها بطوكيو (رويترز)

خبراء: الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يقلل من نشاط الدماغ

أفاد تقرير بأن تفويض بعض المهام إلى الذكاء الاصطناعي يقلل من نشاط الدماغ؛ بل وقد يضر بمهارات التفكير النقدي وحل المشكلات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد متداولون يعملون في بورصة نيويورك (أ.ب)

«وول ستريت» ترتفع بعد تقرير التضخم الأميركي المشجع

ارتفعت الأسهم الأميركية يوم الخميس بعد صدور تقرير مُشجع بشأن التضخم، ما قد يتيح لمجلس الاحتياطي الفيدرالي مزيداً من المرونة في خفض أسعار الفائدة العام المقبل.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم البابا ليو الرابع عشر يخاطب الناس في ساحة القديس بطرس بمدينة الفاتيكان يوم 17 ديسمبر 2025 (إ.ب.أ)

بابا الفاتيكان ينتقد توظيف الدين لتبرير العنف والنزعة القومية

انتقد البابا ليو الرابع عشر، بابا الفاتيكان، اليوم الخميس، الزعماء السياسيين الذين يستغلون المعتقدات الدينية لتبرير الصراعات أو السياسات القومية.

«الشرق الأوسط» (الفاتيكان)

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
TT

اكتشاف علمي لأحد «محركات» سرطان البروستاتا... يمهد لعلاجات أكثر دقة

طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا
طبيب يتناقش مع مريض حول صحة البروستاتا

في خطوة علمية قد تغيِّر أسلوب فهمنا لسرطان البروستاتا وتشخيصه وعلاجه، كشف باحثون من معهد «آرك» وجامعة «كاليفورنيا»، ومركز «فريد هاتشينسون للسرطان» في واشنطن بالولايات المتحدة، عن منظِّم غير متوقع لمسار مستقبل الأندروجين، وهو بروتين لم يحظَ سابقاً بكثير من الاهتمام، وكان يُعتقد أنه مجرد إنزيم بسيط ضمن مسار تصنيع البروستاغلاندين (prostaglandin).

وجاء هذا الكشف الذي نُشر في مجلة «Nature Genetics» في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، نتيجة فحص شامل للجينوم باستخدام «تقنية كريسبر»، وأعاد تعريف الدور البيولوجي لبروتين «PTGES3» كما فتح الباب أمام فئة جديدة محتملة من العلاجات لسرطان البروستاتا المقاوم للعلاج الهرموني.

نافذة على بيولوجيا الورم

يعتمد سرطان البروستاتا على نشاط مفرط لمستقبِل الأندروجين، وهو بروتين ينظِّم نمو الخلايا استجابة لهرمونات الذكورة.

ولفهم الجينات التي تُبقي هذا المستقبِل نشطاً، طوَّر الباحثون نموذجاً متقدماً لخلايا سرطانية يحمل وسماً فلورياً (fluorescent tag) (هو جزيء مرتبط كيميائياً للمساعدة في اكتشاف جزيء حيوي، مثل البروتين أو الأجسام المضادة أو الأحماض الأمينية) يضيء تبعاً لكمية مستقبِل الأندروجين داخل الخلية، ما سمح بتتبُّعه بدقة لحظة بلحظة.

وبالاستفادة من «تقنية كريسبر» عطَّل العلماء آلاف الجينات واحداً تلو الآخر لاكتشاف الجينات التي يعتمد عليها مستقبِل الأندروجين ليبقى مستقراً وموجوداً داخل الخلية.

ثم جاءت النتائج لتؤكد دور جينات معروفة، مثل HOXB13 وGATA2 لكنها كشفت أيضاً مفاجأة كبيرة في PTGES3 وهو بروتين لم يكن محسوباً ضمن قائمة اللاعبين الرئيسيين في هذا المسار.

* لماذا يُعد PTGES3 اكتشافاً مهماً؟ على خلاف البروتينات المماثلة له لم يكن تأثير PTGES3 مرتبطاً بوظيفته المفترضة كإنزيم. بل ظهر أنه يؤدي دوراً مزدوجاً في دعم مستقبل الأندروجين؛ إذ إنه يعمل كمرافق بروتيني Co-chaperone داخل السيتوبلازم ما يساعد على استقرار مستقبل الأندروجين ويمنع تدهوره. ويعمل أيضاً كعامل مساعد داخل النواة؛ حيث يعزز قدرة المستقبل على الارتباط بالحمض النووي وتشغيل الجينات التي تغذي نمو الورم.

وهذا الدور الثنائي يجعل هذا البروتين كأحد «محركات» سرطان البروستاتا التي تعتمد عليها الخلايا السرطانية لمواصلة النمو والانتشار.

آفاق جديدة لعلاج السرطان

• من المختبر إلى المرضى: عند تحليل بيانات مئات المرضى وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات PTGES3 يرتبط بانخفاض فعالية العلاج الهرموني، وهو مؤشر مبكر على مقاومة الورم.

وعند اختبار تعطيل هذا البروتين في فئران مصابة بسرطان البروستاتا انخفضت مستويات مستقبل الأندروجين، وتباطأ نمو الورم بشكل كبير، وهو دليل إضافي على دوره الحاسم واستحقاقه أن يكون هدفاً دوائياً جديداً.

ويقول الباحث الرئيسي لوك غيلبرت (وهو باحث رئيسي في معهد «آرك» وأستاذ مشارك في جراحة المسالك البولية في كلية الطب بجامعة «كاليفورنيا») إن هذا العمل يبرهن على قوة الفحص الجيني غير المنحاز عبر «تقنية كريسبر» وقدرتنا على اكتشاف وظائف جديدة لبروتينات ظنَّ العلماء أنهم يعرفونها جيداً.

• تطوير أدوية علاجية: تستهدف العلاجات الحالية مستقبل الأندروجين مباشرة؛ سواء بتقليل الهرمونات الذكرية أو بحجب قدرة المستقبِل على الوصول إلى الحمض النووي.

لكن النتائج الجديدة تقدِّم استراتيجية مختلفة تكمن بالتدخل في استقرار مستقبل الأندروجين نفسه، عبر التأثير على البروتينات التي تحميه وترافقه ومن ضمنها PTGES3.

ويقول الباحث الأول هاولونغ لي من مركز «فريد هاتشينسون للسرطان» وقسم علاج الأورام بالإشعاع بجامعة «كاليفورنيا»: «نتوقع أن يساعد هذا النهج في فهم عوامل نسخ أخرى مهمة في سرطانات تعتمد على الهرمونات، وليس سرطان البروستاتا فقط».

ويعمل الفريق حالياً على فهم البنية الدقيقة لتفاعل PTGES3 مع مستقبل الأندروجين، تمهيداً لتطوير أدوية تستهدف هذا الارتباط، بما في ذلك تقنيات تفكيك البروتينات مثل PROTACs التي حققت نجاحاً في تجارب سريرية لأهداف دوائية أخرى.

ويمثل اكتشاف PTGES3 كمنظم رئيسي لمستقبل الأندروجين تحولاً مهماً في فهم سرطان البروستاتا؛ خصوصاً لدى المرضى الذين يعانون من مقاومة للعلاج الهرموني.

وإلى جانب كشف آليات جديدة وراء نمو الورم يقدِّم هذا الاكتشاف مساراً واعداً لعلاجات أكثر فعالية ودقة قد تغيِّر مستقبل الرعاية للمرضى المصابين بأحد أكثر السرطانات شيوعاً بين الرجال.

إنه مثال حي على كيف يمكن لتقنيات الجينوم الحديثة -كالفحص الشامل باستخدام «كريسبر»- أن تعيد كتابة قواعد علم الأورام وتفتح آفاقاً علاجية لم تكن متاحة من قبل.


نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
TT

نظرة إلى الذكاء الاصطناعي... وصحة الدماغ في 2025

الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته
الانسان ضائع في عصر الذكاء الاصطناعي وهلوساته

إليكم ما يقوله أربعة من الاختصاصيين في حول الجوانب العلمية التي أثارت اهتمامهم في عام 2025.

الذكاء الاصطناعي: محتوى منمق وغير منطقي

نحن نغرق في بحر من المحتوى المُنمّق وغير المنطقي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، كما تتحدث الكاتبة أنالي نيويتز، صاحبة عمود «هذا يُغيّر كل شيء»، عن كيفية انتشار المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في عام 2025.

لا شك أن 2025 سيُذكَر بوصفه عام المحتوى المُنمّق. وهذا المصطلح الشائع يُطلق على المحتوى غير الصحيح والغريب، بل والقبيح في كثير من الأحيان، الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي، وقد أفسد تقريباً كل منصة على الإنترنت... إنه يُفسد عقولنا أيضاً.

لقد تراكمت كميات هائلة من هذا المحتوى المُنمّق خلال السنوات القليلة الماضية، لدرجة أن العلماء باتوا قادرين على قياس آثاره على الناس بمرور الوقت.

• نشاط دماغي أقل لدى المستخدمين. وجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الأشخاص الذين يستخدمون نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مثل تلك التي تقف وراء برنامج «تشات جي بي تي»، لكتابة المقالات، يُظهرون نشاطاً دماغياً أقل بكثير من أولئك الذين لا يستخدمونها.

• آثار سلبية على الصحة النفسية. ثم هناك الآثار السلبية المحتملة على صحتنا النفسية، حيث تشير التقارير إلى أن بعض برامج الدردشة الآلية تُشجع الناس على تصديق الأوهام أو نظريات المؤامرة، بالإضافة إلى حثّهم على إيذاء أنفسهم، وأنها قد تُسبب أو تُفاقم الذهان.

• تقنية التزييف العميق. أصبحت تقنية التزييف العميق شائعة؛ ما يجعل التحقق من الحقيقة على الإنترنت أمراً مستحيلاً. ووفقاً لدراسة أجرتها «مايكروسوفت»، لا يستطيع الناس التعرف على مقاطع الفيديو التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي إلا في 62 في المائة من الحالات.

وأحدث تطبيقات شركة «اوبن ايه آي» هو «سورا» Sora، وهي منصة لمشاركة الفيديوهات تُنشأ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي - باستثناء واحد. يقوم التطبيق بمسح وجهك وإدراجك أنت وأشخاص حقيقيين آخرين في المشاهد المزيفة التي يُنشئها. وقد سخر سام ألتمان، مؤسس الشركة، من تبعات ذلك بالسماح للناس بإنشاء فيديوهات يظهر فيها المستخدم وهو يسرق وحدات معالجة الرسومات ويغني في الحمام.

• تقليل الإنتاجية. لكن ماذا عن قدرة الذكاء الاصطناعي المزعومة على جعلنا نعمل بشكل أسرع وأكثر ذكاءً؟ وفقاً لإحدى الدراسات، عندما يُدخل الذكاء الاصطناعي إلى مكان العمل، فإنه يُقلل الإنتاجية، حيث أفادت 95 في المائة من المؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي بأنها لا تحصل على أي عائد ملحوظ على استثماراتها.

مذنب "سوان" الى يمين تجمّع من النجوم

تدمير الأرواح والوظائف

إن الفساد يُدمر الأرواح والوظائف، ويُدمر تاريخنا أيضاً. أنا أكتب كتباً عن علم الآثار، ويقلقني أن ينظر المؤرخون إلى وسائل الإعلام من تلك الحقبة ويكتشفوا زيف محتوانا، المليء بالخداع والتضليل.

إن أحد أهم أسباب تدويننا الأمور أو توثيقها بالفيديو هو ترك سجل لما كنا نفعله في فترة زمنية محددة. وعندما أكتب، آمل أن أسهم في إنشاء سجلات للمستقبل؛ حتى يتمكن الناس اللاحقون من إلقاء نظرة على حقيقتنا، بكل ما فيها من فوضى.

إن برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تُردد كلماتٍ بلا معنى؛ فهي تُنتج محتوًى لا ذكريات. ومن منظور تاريخي، يُعدّ هذا، من بعض النواحي، أسوأ من الدعاية. على الأقل، إن الدعاية من صنع البشر، ولها هدف محدد، وهي تكشف عن الكثير من سياساتنا ومشاكلنا. أما الزيف فيمحونا من سجلنا التاريخي؛ إذ يصعب استشفاف الغاية منه.

ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ ماذا سيفعل الذكاء الاصطناعي بالفن؟ كيف سنتعامل مع عالمٍ تندر فيه الوظائف، ويتصاعد فيه العنف، ويتم فيه تجاهل علوم المناخ بشكل ممنهج؟

الحفاظ على صحة الدماغ

كيف تعلمتُ الحفاظ على صحة دماغي؟ تتحدث هيلين تومسون، كاتبة عمود في علم الأعصاب، عن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً في صحتها هذا العام.

• غذاء صحي: لقد تعلمت أن أعيش بنمط حياة صحي. كل صباح، أضيف ملعقة من الكرياتين إلى الماء، وأشربه مع الفيتامينات المتعددة، ثم أتناول بعض الزبادي العادي الغني بالبكتيريا. ويتناول أطفالي حبوب الإفطار المنزلية، ويشربون الكفير، ويحاولون التحدث بالإسبانية باستخدام تطبيق «دولينغو». وبعد توصيلهم إلى المدرسة، أغطس في بركة ماء باردة، ثم أستريح في الساونا قبل العمل. لاحقاً، أضيف دائماً ملعقة من مخلل الملفوف إلى غدائي، ولا أفوّت فرصة للمشي قليلاً في الحديقة.

حياتي الجديدة المفعمة بالرضا هي نتيجة مباشرة لقضاء عام كامل في البحث عن طرق مثبتة علمياً للحفاظ على صحة الدماغ - من تعزيز الاحتياطي المعرفي إلى تنمية ميكروبيوم صحي. الآن، وأنا أُقيّم الوضع، أرى أن تغييرات بسيطة أحدثت فرقاً كبيراً.

• تجربة طبية. جاء أحد أبسط الدروس من جو آن مانسون في مستشفى بريغهام والنساء في ماساتشوستس، التي أرسلت إلي تفاصيل تجربة واسعة النطاق على كبار السن تُظهر أن تناول الفيتامينات المتعددة يومياً يُبطئ التدهور المعرفي بأكثر من 50 في المائة. وعندما سألت خبراء آخرين عن المكملات الغذائية، إن وُجدت، التي قد تُعزّز صحة الدماغ، برز الكرياتين في ذهني - فهو يُزود الدماغ بمصدر طاقة عندما يكون في أمس الحاجة إليه. لكن التغيير حدث في سلة مشترياتنا الأسبوعية؛ إذ أقنعتني محادثاتي مع علماء الأعصاب وخبراء التغذية بأهمية العناية المستمرة بميكروبيوم الأمعاء. لذا؛ بدأت عائلتي بتطبيق ذلك: تناول ثلاثة أنواع من الأطعمة المخمرة يومياً بناءً على نصيحة عالم الأوبئة تيم سبيكتور، والامتناع عن تناول الأطعمة فائقة المعالجة في وجبة الإفطار، والحرص على إدخال مزيج متنوع من الأطعمة الكاملة في نظامنا الغذائي.

• التواصل مع البيئة. كما أن التعرّض للبرد والحرارة يُمكن أن يُقلل من الالتهابات والتوتر، ويُعزز التواصل بين الشبكات الدماغية المسؤولة عن التحكم في العواطف واتخاذ القرارات والانتباه؛ ما قد يُفسر ارتباطها بتحسين الصحة النفسية. كما أصبح الخروج إلى الطبيعة أولويةً عائلية. فقد تعلمتُ أن البستنة تُعزز تنوع بكتيريا الأمعاء المفيدة، بينما قد يُفيد المشي في الغابات الذاكرة والإدراك، ويُساعد على الوقاية من الاكتئاب.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو سرعة ظهور النتائج. فبينما تُعدّ بعض العادات استثماراً طويل الأمد في الصحة الإدراكية، إلا أنني مقتنعة بأن عادات أخرى كان لها تأثير فوري: أطفال أكثر هدوءاً، وتحسن في التركيز، وطاقة أكبر. ربما يكون تأثيراً وهمياً، لكن هناك ما يُجدي نفعاً.

مذنبات كونية متألقة

أما شاندا بريسكود - وينشتاين، كاتبة عمود في مجلة «سبيس - تايم»، فقد قدمت ملاحظات ميدانية حول كيفية تصدّر المذنبات عناوين الأخبار في عام 2025.

• المذنب «ليمون» لقد كان عام 2025 حافلاً بالمذنبات. فقد اكتُشف المذنب ليمون Lemmon في يناير (كانون الثاني) الماضي، وظلّ حديث الساعة لمدة تسعة أشهر. كانت صور ذيل ليمون الطويل والجميل، الناتج من تسخين الشمس للمذنب، تخطف أنفاسي في كل مرة.

• المذنب «سوان». ثم كان هناك اكتشاف المذنب C/2025 R2 (سوان) في سبتمبر (أيلول)، وهو مذنب شديد السطوع لدرجة أنه حتى عندما كان قريباً من القمر في عيد «الهالوين»، كان لا يزال مرئياً بوضوح للمراقبين. وكان هناك أيضاً المذنب 3I/أطلس، الذي اشتهر بعد أن أعلن عالم فلك في جامعة هارفارد، متخصص في علم الكونيات، أنه مسبار فضائي.

إن رحلتنا مع المذنبات هذا العام ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة طويلة من ردود فعل البشر تجاه الأجرام السماوية الغامضة التي تظهر في السماء. وبينما نستذكر العام الماضي، شهدنا أحداثاً كثيرة مخيفة ومُحبطة؛ ما قد يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المذنبات ربما نذرت بنهاية العالم كما نعرفه.

«إنسان دينيسوفان»

«إنسان دينيسوفان» قلب مفاهيمنا عن الإنسان القديم رأساً على عقب. وهنا يستعرض مايكل مارشال، كاتب عمود «قصة الإنسان»، أهم اكتشافات «إنسان دينيسوفان» لهذا العام.

يصادف هذا العام مرور 15 عاماً على اكتشافنا «إنسان دينيسوفان»، وهي إنسان من مجموعة من البشر القدماء الذين عاشوا في ما يُعرف اليوم بشرق آسيا قبل عشرات آلاف السنين. وقد أثار هذا الإنسان فضولي منذ ذلك الحين؛ لذا سررتُ هذا العام برؤية سلسلة من الاكتشافات المثيرة التي وسّعت فهمنا لمكان عيشهم وهويتهم.

• أدلة من جزيئات إصبع. كان «إنسان دينيسوفان» أول أشباه البشر الذين تم اكتشافهم بشكل أساسي من خلال الأدلة الجزيئية. وكانت أول أحفورة معروفة عبارة عن عظمة إصبع من كهف دينيسوفا في سيبيريا، التي كانت صغيرة جداً بحيث لا يمكن التعرف عليها من خلال شكلها، ولكنها أسفرت عن تحليل الحمض النووي في عام 2010. وأشارت النتائج الجينية إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان مجموعة شقيقة لـ«إنسان نياندرتال»، الذي عاش في أوروبا وآسيا. كما أظهرت النتائج أيضاً أنهم تزاوجوا مع الإنسان الحديث.

واليوم، يمتلك سكان بعض مناطق جنوب شرقي آسيا، مثل بابوا غينيا الجديدة والفلبين، أعلى نسب الحمض النووي لـ«إنسان دينيسوفان» في جينوماتهم.

ومنذ ذلك الحين، سعى الباحثون جاهدين للعثور على المزيد من الأمثلة على «إنسان دينيسوفان»، لكنّ هذه الجهود كانت بطيئة. ولم يظهر مثال ثانٍ إلا في عام 2019: عظم فك من كهف بايشيا كارست في شياخه على هضبة التبت.

• اكتشافات جديدة. ثم جاء عام 2025 وتدفقت الاكتشافات الجديدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، تأكد وجود «إنسان دينيسوفان» في تايوان. وأكد الباحثون هذا الاكتشاف الآن باستخدام البروتينات المحفوظة داخل الأحفورة. ثم في يونيو (حزيران) الماضي عُثر على أول وجه لإنسان، حيث وُصفت جمجمة من مدينة هاربين شمال الصين عام 2021، وسُميت نوعاً جديداً.

حتى الآن، تبدو هذه النتائج منطقية للغاية. كما أنها رسمت صورة متكاملة لـ«إنسان دينيسوفان» كإنسان ضخم البنية.

وكان الاكتشافان الآخران في عام 2025 مفاجأتين كبيرتين. ففي سبتمبر، أُعيد بناء جمجمة مهشمة من يونشيان في الصين. ويبدو أن جمجمة يونشيان 2 تعود إلى «إنسان دينيسوفان» مبكر، وهو اكتشاف مثير للاهتمام؛ نظراً لقدمها التي تبلغ نحو مليون عام. ويشير هذا إلى أن «إنسان دينيسوفان» كان موجوداً مجموعةً منفصلة منذ مليون عام على الأقل، أي قبل مئات آلاف السنين مما كان يُعتقد سابقاً. كما يدل هذا على أن السلف المشترك بيننا وبين «إنسان نياندرتال»، والمعروف باسم السلف العاشر، قد عاش قبل أكثر من مليون عام.

• استخلاص جينوم من سن وحيدة. بعد شهر واحد فقط، أعلن علماء الوراثة عن ثاني جينوم عالي الجودة لـ«إنسان دينيسوفان»، والذي استُخرج من سنّ عمرها 200 ألف عام في كهف دينيسوفا. الأهم من ذلك، أن هذا الجينوم كان مختلفاً تماماً عن الجينوم الأول المُبلغ عنه، والذي كان أحدث عهداً، كما أنه كان مختلفاً عن الحمض النووي للـ«دينيسوفان» لدى البشر المعاصرين.

ويُشير هذا إلى وجود ثلاث مجموعات على الأقل من الـ«دينيسوفان»: مجموعة مبكرة، ومجموعة لاحقة، ومجموعة تزاوجت مع جنسنا البشري. هذه المجموعة الثالثة، من الناحية الأثرية، تظل لغزاً محيراً.

* مجلة «نيو ساينتست» - خدمات «تريبيون ميديا»


حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
TT

حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة

فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد
فحص شامل بالذكاء الاصطناعي — الجينات، الميكروبيوم، الدم، والأشعة في مشهد تشخيصي واحد

لم يعرف الطبّ، في أغلب تاريخه، كيف يرى الإنسان كاملاً، إذ كان يرى أجزاءً متناثرة من الحكاية: صورة أشعة معزولة، تحليل دم بلا سياق، تقريراً سريرياً يُقرأ سريعاً ثم يُطوى. وهكذا تفرّق الجسد إلى ملفات، وتحوّل المريض إلى أرشيف بيانات، وغابت الصورة الكاملة خلف زحمة التفاصيل.

كان ابن رشد سيصف هذا المشهد بلا تردّد: حيثما غاب الربط، تكسّرت الحقيقة. فالعِلّة لا تُفهم دون معلولها، والمرض لا يُقرأ دون سياقه، والإنسان لا يُختزل في رقم أو صورة.

الذكاء الاصطناعي التعددي

اليوم، ومع صعود ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي التعدّدي (Multimodal AI)، يقف الطبّ أمام لحظة استثنائية تُعيد للإنسان وحدته المفقودة. لم تعد الخوارزمية تكتفي بقراءة صورة أو تحليل أو نصّ منفرد، بل باتت قادرة على دمج الإشارات الحيوية، والصور الشعاعية، والسجلات السريرية، وحتى اللغة التي يصف بها المريض ألمه... لتصوغ فهماً أقرب إلى ما كان يفعله الطبيب الحكيم بالفطرة: رؤية المريض ككائن واحد، لا كمجموعة بيانات مبعثرة.

ولا ينتمي هذا التحوّل إلى الخيال العلمي، بل إلى مختبرات البحث المتقدّمة. ففي دراسة حديثة صادرة عن جامعة بنسلفانيا، نُشرت في فبراير (شباط) 2025 في مجلة «npj Digital Medicine» (الطبّ الرقمي – إحدى مجلات مجموعة «نيتشر» العلمية)، قدّم الباحثون إطاراً جديداً يسمح بدمج الصور الطبية، والسجلات السريرية، والبيانات الحيوية، والنصوص الطبية، لقراءة المريض بوصفه وحدة متكاملة لا ملفات منفصلة محفوظة في ذاكرة الحاسوب.

هنا يبدأ التحوّل الحقيقي: من طبّ يقرأ البيانات... إلى طبّ يفهم الإنسان.

• العلم الذي جمّع ما فرّقته السجلات.

تستقبل الخوارزمية الحديثة، في اللحظة نفسها، صور الأشعة، ونتائج التحاليل المخبرية، والإشارات الحيوية، والنصوص الطبية، وحتى البيانات القادمة من الساعات الذكية والأجهزة القابلة للارتداء. ثم لا تكتفي بقراءتها، بل تُعيد نسجها في صورة واحدة متكاملة، أشبه بخريطة حيّة للجسد والزمن معاً.

لم يعد التشخيص تفسيراً لصورة ثابتة، بل هو فهم لمسار حياة كاملة.

وهنا تكمن القفزة: فالنظام الصحي التقليدي اعتاد العمل بمنطق «الوسيط الواحد»؛ طبيب الأشعة يرى الصورة، طبيب القلب يقرأ التخطيط، وطبيب المختبر يلاحق المؤشرات. غير أن المرض لا يحترم هذه الحدود، إذ لا يولد في عضو واحد، ولا يتقدّم في مسار منفصل، بل يعلن عن نفسه من خلال تفاعل خفي بين الإشارات.

بهذا المعنى، لا يجمع الذكاء الاصطناعي التعدّدي البيانات فحسب، بل يعيد للطب لغته الأصلية: لغة الترابط.

• من رؤية اللحظة إلى رؤية الزمن. في إحدى التجارب السريرية المتقدّمة، استطاع نموذج ذكاء اصطناعي توقّع احتمالية ظهور مرض قلبي قبل نحو ثماني سنوات من تشخيصه السريري. ولم يلتقط علامة واحدة حاسمة فقط، بل التقط شبكة دقيقة من التغيّرات الصغيرة التي تبدو — كلٌّ على حدة — بلا معنى، لكنها حين تُقرأ معاً ترسم بداية الخلل الصامت.

هنا يتغيّر جوهر الذكاء نفسه. فالخوارزمية لا تقرأ صورة آنية، ولا تحاكم رقماً معزولاً، بل تُنصت إلى الزمن وهو يعمل داخل الجسد. إنها ترى المرض بوصفه مساراً لا حادثة، وتفهم العلّة بعدّها عملية تراكم لا لحظة انفجار. وبهذا التحوّل، يتبدّل دور الطبيب: من «باحث عن المرض» إلى «قارئ للزمن».

تغير عيادة المستقبل

• إنقاذ المريض وإنقاذ الطبيب.

تشير تقارير صادرة عن «Harvard Medical School» في ديسمبر ( كانون الأول) 2025 إلى أن الطبيب يقضي أكثر من ثلاث ساعات يومياً في كتابة الملاحظات وتوثيق السجلات، وقتاً يفوق أحياناً زمن الإصغاء للمريض نفسه. وهنا لا يكون الإرهاق مهنياً فقط، بل يكون إنسانياً أيضاً. أما حين تُدمج البيانات تلقائياً داخل نموذج ذكي واحد، فسوف يتحرّر الطبيب من عبء الورق والتكرار، ويستعيد جوهر مهنته: اللقاء، الإصغاء، والفهم. فالخوارزمية تحسب وتربط، لكنها لا تعرف القلق في عين المريض، ولا التردّد في صوته. الآلة تُحلّل والإنسان يُنصت.

• كيف ستتغيّر العيادة؟ لم تعد العيادة الحديثة مجرّد مكان للفحص، بل نقطة التقاء لأنواع متعددة من الذكاء؛ حيث يعمل الذكاء الاصطناعي التعدّدي في الخلفية على دمج الصور، والتحاليل، والسجلات، والسلوك الصحي اليومي في نموذج واحد، يرافق المريض والطبيب معاً، ويُعيد تشكيل القرار الطبي من جذوره. وهكذا نلاحظ:

- اختفاء «المريض المُجزّأ».

- التشخيص يصبح تفسيراً للعلاقات.

- العلاج يصبح شخصياً بأعلى درجاته.

- انخفاضاً كبيراً في الأخطاء الطبية.

• من ورق العيادة إلى خريطة الإنسان

لا يقدّم الذكاء الاصطناعي التعدّدي تقنية جديدة فحسب، بل فلسفة مختلفة في فهم الإنسان. فالمرض لا يظهر فجأة، بل يُكتب ببطء في النوم، وفي القلب، وفي القلق، وفي تفاصيل لا يلتفت إليها أحد... قبل أن يتجسّد يوماً في صورة أشعة أو نتيجة تحليل. هنا يتحوّل سجلّ العيادة من أوراق تُملأ بعد وقوع الحدث، إلى خريطة حيّة تُقرأ قبل اكتمال القصة.

فرصة عربية يجب ألا نفوّتها

هذا التحوّل ليس ترفاً غربياً، بل فرصة عربية حقيقية، تتزامن مع تسارع التحوّل الرقمي في السعودية والإمارات وقطر، وظهور السجلات الطبية الموحّدة، ورؤى واضحة للصحة الرقمية ضمن «رؤية السعودية 2030».

إذا نجحنا في بناء نموذج عربي للذكاء الاصطناعي التعدّدي، يمكن للطب أن يقفز من التشخيص المتأخّر إلى الوقاية الاستباقية، ومن علاج المرض إلى منعه قبل أن يولد. وكما كتب ابن سينا قبل ألف عام: (أفضلُ الطبّ ما منع العلّة قبل حدوثها).

إن العنوان «حين يرى الذكاء الاصطناعي المريض بكامله... لا بقايا صور متفرّقة» — ليس توصيفاً تقنياً لابتكار جديد، بل إعلان تحوّلٍ عميق في معنى الطبّ نفسه. تحوّل يعيد للإنسان وحدته بعد أن بعثرتها السجلات، ويعيد للجسد منطقه بعد أن اختُزل في أرقام وصور. فالمرض لا يولد في عضو واحد، بل يتشكّل داخل شبكة معقّدة من الزمن والحياة والسلوك. وحين يتعلّم الذكاء الاصطناعي قراءة هذه الشبكة — لا ليحلّ محل الطبيب بل ليحرّره — يصبح القرار الطبي أكثر دقة... وأكثر رحمة في آنٍ واحد.

هنا، يستعيد الطبّ توازنه المفقود: آلةٌ تُحلّل بلا إرهاق، وطبيبٌ يُنصت بلا استعجال.

وعند هذا الحدّ الفاصل بين الحساب والحكمة، يعود الطبّ إلى جوهره الأول: معرفة الإنسان قبل معالجة المرض، ورؤية الحياة كاملة... قبل مطاردة أعراضها المتفرّقة.