عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، صدر أخيراً كتاب «معول لبناء العالم: جدل البنية والدلالة في شعر السبعينيات» للناقد والشاعر المصري أحمد لطفي رشوان، وفيه يركز على ما أحدثه شعراء السبعينات من ثورة جمالية على تقاليد المؤسسة الشعرية الراسخة، مركزاً على الجناحين اللذين حلقت بهما حركة شعراء السبعينات. الأول والأكبر جماعة «إضاءة 77»، التي كانت الركيزة الأهم في تدشين هذا المشروع الشعري المغاير بإصدارات مجلتهم، وبياناتهم التأسيسية الفارقة في التعريف بأفكارهم ورؤاهم وتصوراتهم الجديدة عن الشعر ومفهومه، ورؤيتهم له. أما الجناح الثاني فكان جماعة «أصوات» التي كان لها دور في تشكل هذا التيار الشعري، وإن بدرجة أقل من سابقتها، كما لم يهمل الكتاب الشعراء الآخرين الذين لم ينضموا لأي من هاتين الجماعتين.

منذ العنوان ذي الصيغة اللافتة، لم يغفل «معول لبناء العالم» المفارقة التي اكتنفت المشروع الشعري كله لشعراء السبعينات، وهي مفارقة تتصل بجدلية الهدم والبناء، فالمعول عادة يستخدم في الهدم، لكن أصحاب المدرسة الشعرية المتمردة على القوالب القديمة، استخدموا المعول في بناء منزل شعري يخصهم، عبر هدم الأفكار القديمة عن مفهوم الشعر ودوره، ودور الشاعر، وكذا العلاقة باللغة، التي تنتهك العلاقات التقليدية المألوفة بين الدال والمدلول، وكيفية صوغ الصورة الشعرية، وإقامة علاقة جديدة بالموسيقى، لا تتوقف عند حدود البحور الخليلية، وتأسيس تعاقد جديد مع المتلقي، بحيث لا يكون سلبياً ينتظر مدلولاً معطى سلفاً، بل أصبحت القصيدة شفرات وطبقات من الدوال الكثيفة، تحتاج إلى متلقٍ قادر على فك شفراتها والنفاذ إلى تشكيلاتها المركبة، التي كثيراً ما اتهمها الكثيرون بالغموض، لكنه كان تعقيداً مقصوداً، حتى لا تتحول القصيدة إلى خطاب إعلامي ودعائي، وأنها في الأخير تشكيل جمالي في اللغة وبها.

يتكون الكتاب من مقدمة تناقش ما أحدثته هذه الثورة الشعرية من جدل ونقاش احتدم طوال سنوات طوال، وتراوح الموقف منها ومن رموزها بين الرفض والقبول، لكن كلاً من الرافضين والمرحبين أقروا بتأثيرها الباذخ، ليس في مصر فقط، بل في المشهد الشعري العربي كله. وتلت المقدمة ثلاثة فصول رئيسة، ناقش كل منها جانباً من جوانب هذه القصيدة الإشكالية، مركزاً على عدد كبير من شعرائها في دواوينهم المختلفة، الذين أصبحوا من أعلام المشهد الشعري بعد ذلك، رغم ما كل ما تعرضوا له من هجوم ورفض في أثناء حقبة السبعينات، حينما كانوا حركة جديدة تحاول شق طريقها للنور. ومن الشعراء الذين تناول الكتاب دواوينهم: حلمي سالم، جمال القصاص، رفعت سلام، حسن طلب، شعبان يوسف، علاء عبد الهادي، محمد آدم، محمد سليمان، محمد فريد أبو سعدة، وليد منير.
جاء الفصل الأول بعنوان «بناء اللغة في شعر السبعينيات»، ويناقش فيه المؤلف كيف استطاع شعراء السبعينات تقديم رؤى وجودية متعددة، وأنماط مختلفة من الوعي بذواتهم وبالعالم، على الرغم من انطلاقهم من موقف تجريبي، واستخدامهم تقنيات شكلية وممارسات جمالية متشابهة في بعض الأحيان. لكن التفاصيل التقنية الخاصة بكل شاعر، وكذلك الخلفية الفكرية والثقافية والجمالية التي شكلت شخصية كل منهم ووجدانه، كانت تلعب دوراً في طرح الدلالات وتشكيل الرؤى، مما يجعل كلاً منهم مختلفاً عن الآخر، رغم التوافق على الانطلاق من موقف تجريبي.
ويرى لطفي في هذا الفصل أن كل نص سبعيني كان بمثابة مغامرة مع اللغة، يحاول من خلالها الشاعر فهم العالم وتشكيل وعيه الخاص به، وتفتيت كل المقولات التي كانت ترى في الشاعر نبياً يمتلك الحقيقة المطلقة، ويمنحها عبر قصائده للجماهير التي تنتظر منه الكثير، موضحاً أن المعجم الشعري السبعيني لم يقتصر على مستوى واحد، إذ خاضوا المغامرة على مستويات لغوية متعددة، بل إن اللغة الشعرية لشاعر واحد قد تختلف من ديوان لآخر، أو من قصيدة لأخرى، بناء على طبيعة التجربة التي يعبر عنها في كل ديوان من دواوينه.
الفصل الثاني «تطور البناء الموسيقي في القصيدة السبعينية»، يناقش كيف استخدم شعراء هذا الجيل التفعيلات بشكل مغاير، إذ بدأ معظمهم بكتابة شعر التفعيلة، وأحدثوا فيها تحولاً لافتاً، مركزاً على استخدام كل منهم للتفعيلات بشكل مختلف يتوافق مع منطلقاتهم التجريبية، ثم سرعان ما تحول كثير منهم إلى قصيدة النثر بعد تجاربهم التفعيلية الأولى، و«منهم من زاوج بين الشكل التفعيلي والشكل النثري، منطلقاً من فكرة أن القصيدة هي التي تختار الشكل أو القالب الذي توضع فيه، وأن الأشكال الشعرية المختلفة قادرة على إنتاج شعريتها الخاصة، والتعايش مع الأشكال الأخرى». ويشير إلى أن اختيارهم التحول إلى قصيدة النثر بوصفها شكلاً معبراً عن تجاربهم، بسبب كون هذا الشكل يمثل انفلاتاً تاماً من أسر القوالب الإيقاعية السابقة التجهيز. وبسبب وعيهم بانتقال الشعر من مرحلة الإنشاد إلى مرحلة الكتابة، حاولوا «استغلال التأثير البصري للشكل الطباعي على عين القارئ في إنتاج تأثيرات موسيقية وتصويرية جديدة، تضاف إلى الدور الذي تمارسه اللغة في هذا الصدد».
في الفصل الثالث «الصورة الشعرية وأثرها في إنتاج الدلالة»، يشير الباحث إلى أن تجارب شعراء السبعينات تحمل الملامح الفنية التي ميزت حقبة الحداثة الشعرية، وعلى رأسها الصورة المتجاوزة للمفهوم التقليدي، فدور الصورة الشعرية لدى شعراء السبعينات تعمل على إدخال القارئ معهم في حالة التيه، ليعاني مع الشاعر، ويسهم معه في البحث عن إجابات عن الأسئلة التي تطرحها القصيدة، ومن ثم لجأوا للصور الشعرية المركبة، والمجاز الذي سقطت جسوره الوسطى، كما حرصوا على تحقيق قدر من الغموض الفني، لتجنب الوقوع في شرك السطحية والمباشرة، حيث رأوا أن بعض التوجهات والحركات الشعرية السابقة عليهم قد سقطت فيه.
