صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» في لندن كتاب «التنقيبات الأثريّة الإنقاذيّة في موقع قشلة دهوك» من تأليف الدكتور حسن أحمد قاسم البرواري، والدكتور محمّد عجاج جرجيس. ويمكن اعتبار هذا الكتاب سجلّاً ميدانياً ومرجعاً لنتائج واحدة من أبرز الحفريات الأثرية التي شهدتها مدينة دهوك في العقود الأخيرة.
والكتاب لا يقتصر على سرد مجريات التنقيب وأدواته العلمية، إنّما يحوّل التجربة إلى وثيقة حضارية تتجاوز حدود الزمان والمكان. فالقشلة، التي ارتبطت في الذاكرة الجمعية بأنها مبنى عثماني متأخر، تتكشف عبر هذا العمل على أنها موقع متعدّد الطبقات الحضارية؛ إذ تراكمت فيه آثار العصر الحوري - الميتاني، والآشوري، والهلنستي - الفرثي، وصولاً إلى العصر الإسلامي بمختلف مراحله.
ومن خلال اللُّقى الفخارية والبقايا العمرانية، يقدّم المؤلفان رؤية علمية تُثبت أنّ القشلة لم تكن معزولة عن السياق التاريخي لوادي الرافدين، بل كانت نقطة تفاعل حضاري دائم.
يحتوي الكتاب على فصول مترابطة تبدأ بالجانب التاريخي والتسمية والجغرافيا، بما فيها الشهادات الشفوية والروايات الشعبية التي ظلت تتداولها الأجيال عن القلعة القديمة. ثم ينتقل إلى تسجيل نتائج الحفريات الإنقاذية التي أُنجزت في ظروف صعبة بسبب التخريب العمراني الحديث وضغط التوسّع المديني، ليكشف عن وحدات بنائية بارزة مثل غرف الخزن المقبّاة وبقايا الجدار القديم. ويُتوّج البحث بفصل مخصص للمباني العامة المحيطة بالموقع من طواحين وخانات وحمامات، في محاولة لرسم صورة متكاملة للبنية العمرانية لدهوك في مراحلها المختلفة.
وتزداد أهمية الكتاب من خلال ثرائه البصري؛ إذ يضم عشرات الخرائط التفصيلية، والأشكال الهندسية، والصور الميدانية، والألواح التوضيحية، والوثائق الرسمية التي صدرت عن الجهات المحلية بشأن التنقيبات وحماية الأبنية التراثية. هذه المادة المصوّرة لا تكمّل النصوص فحسب، إنّما تعطي القارئ إحساساً بأنه يرافق الفريق الأثري في عمله لحظة بلحظة، من ضربة المعول الأولى حتى استخراج اللقى من تحت الركام.
من زاوية نقدية، يؤكد الكتاب أن علم الآثار في كردستان والعراق لا ينفصل عن قضايا الهوية والذاكرة. فالعمل يسلّط الضوء على كيفية محو المعالم العمرانية القديمة باسم التطوير، ويقدّم في ملاحقه وثائق تطالب بحماية أبنية تاريخية مثل قصر كمبلان وإعدادية كاوه في دهوك القديمة. وبهذا يصبح نداءً للحفاظ على التراث في مواجهة هجمة العمران الحديث، ورسالة بأنّ حماية الماضي ضرورة وجودية لضمان تواصل الأجيال مع هويتها.
ويمكن أن يكون هذا الكتاب مرجعاً للطلبة في أقسام الآثار والتاريخ، ودليلاً ميدانياً يوضّح كيف تتحول المواقع الأثرية من ركام مهدّد إلى فضاءات تعليمية حيّة. هذه القيمة التعليمية تعزّزها فكرة تحويل القشلة إلى متحف موقعي مفتوح للزوار والباحثين، بما يعكس مفهوم «المتحف الحي» الذي يجمع بين الأصالة التاريخية والتفسير المعاصر. على المستوى الأكاديمي، يكمّل الكتاب سلسلة من الدراسات الميدانية التي عكف عليها المؤلفان منذ عام 2010. ويكتسب قيمة مضاعفة لأنه يعتمد على نتائج التنقيب المباشرة لا على مصادر ثانوية، مما يجعله وثيقة أولية نادرة لمدينة لم تحظَ سابقاً بقدر كافٍ من الحفريات العلمية المنهجية.
ويثبت المؤلفان عبر هذا الكتاب أنّ دراسة الأنقاض ليست نشاطاً أكاديمياً معزولاً، إنّما هي عملية مقاومة للنسيان، واحتفاء بقدرة الإنسان على حماية ذاكرته. فالقشلة، التي تحوّلت من حصن عثماني إلى أنقاض مهدَّدة، ثم إلى موقع أثري يُعاد اكتشافه، تصبح رمزاً للمرونة الثقافية التي تتحدى عوامل الهدم والاندثار.
وبذلك تمثّل «التنقيبات الأثرية الإنقاذية في موقع قشلة دهوك» عملاً مرجعياً مزدوج الطابع: دراسة أثرية دقيقة ووثيقة تاريخية حيّة، تضع أمام الباحثين والقراء العاديين على السواء صورة متكاملة لماضٍ طويل ظلّ مطموساً تحت الركام. وهي أيضاً دعوة علمية وأخلاقية لحماية التراث العمراني لدهوك وكردستان والعراق، ولتحويل الذاكرة إلى مصدر وعي متجدد، لا إلى عبء منسيّ في زوايا التاريخ.
والدكتور حسن أحمد قاسم البرواري، عالم آثار كردي حاصل على شهادة الدكتوراه في الآثار القديمة من جامعة «صلاح الدين» في أربيل، بالإضافة إلى دراستين لما بعد الدكتوراه من جامعتي «توبنغن» الألمانية وشيكاغو الأميركية في مجالي الفنون القديمة وقواعد اللغة السومرية.
أما الدكتور محمد عجاج جرجيس فهو باحث ومؤرخ عراقي حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ، مع تركيز خاص على تاريخ العراق القديم، وكرّس مسيرته الأكاديمية لدراسة الموروث الثقافي والقَبليّ للمجتمعات العراقية.
