وهم الثقة... حين يكشف الذكاء الاصطناعي حدوده في الطب

وقائع توضِّح أنه ليس معصوماً من الخطأ

وهم الثقة... حين يكشف الذكاء الاصطناعي حدوده في الطب
TT

وهم الثقة... حين يكشف الذكاء الاصطناعي حدوده في الطب

وهم الثقة... حين يكشف الذكاء الاصطناعي حدوده في الطب

في زمن تُسارع فيه دول العالم لتسخير الذكاء الاصطناعي في كل شؤون الحياة، من خطوط الإنتاج في المصانع إلى منصات التداول في الأسواق، يبقى الطب الميدان الأكثر حساسية وامتحاناً حقيقياً لحدود هذه التقنية. وهنا لا تُقاس النتائج بالأرباح أو الخسائر؛ بل بحياة إنسان قد تُنقَذ أو تُفقَد بخطأ واحد في التنبؤ.

ومن بين التحديات الكبرى التي تواجه هذه الثورة الطبية الرقمية، تبرز إشكاليتان جوهريتان: «الإفراط في التعلُّم» حين تُبالغ الخوارزمية في الثقة بنفسها فتتيه في التفاصيل، و«التقصير في التعلُّم» حين تعجز عن إدراك الأنماط فتقدِّم أداءً ناقصاً. وما بين ثقة مفرطة قد تُضلِّل الطبيب، وضعف في الأداء قد يحجب الحقيقة، يكمن الخطر الذي لا بد من وعيه.

إن إدراك هذه المزالق ليس ترفاً نظرياً ولا جدلاً أكاديمياً مغلقاً؛ بل ضرورة سريرية يومية. فالمريض الذي يجلس على كرسي الطبيب لا يعنيه مصطلح «الإفراط» أو «التقصير»، ولكنه ينتظر تشخيصاً صحيحاً وعلاجاً يُعيد له عافيته. وهنا يُصبح فهم هذه التحديات شرطاً أساسياً لجعل الذكاء الاصطناعي أداة داعمة، لا عبئاً إضافياً.

مرجع عالمي في الذكاء الاصطناعي الطبي

تأتي هذه القضية في قلب النقاشات التي احتواها كتاب «التعلُّم الآلي والذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية» (Machine Learning and AI in Healthcare)، الصادر عن دار «Springer» عام 2023، بتحرير الباحثين: كونستانتين أليفريس (Constantin Aliferis) وغيورغي سيمون (Gyorgy Simon). ويُعدُّ هذا الكتاب واحداً من المراجع الأكاديمية والتطبيقية البارزة في مجاله؛ إذ جمع تحت غلافه خبرات نخبة من العلماء العالميين الذين كرَّسوا بحوثهم لفهم التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي.

تكمن قيمة هذا المرجع في أنه لا يكتفي بعرض النجاحات أو النماذج الواعدة؛ بل يذهب أبعد من ذلك ليكشف المزالق والأخطاء المحتملة، من الإفراط في التعلُّم إلى الثقة المفرطة بالنماذج. وهنا يقدِّم الكتاب رؤية متوازنة تجمع بين الأمل الكبير الذي يحمله الذكاء الاصطناعي للطب، وبين الحذر الواجب عند التعامل مع خوارزميات قد تتحوّل –إن أسيء استخدامها– من أداة إنقاذ إلى مصدر خطر.

من الحفظ الأعمى إلى الفهم الحقيقي

يشبِّه العلماء ظاهرة «الإفراط في التعلُّم» (Overfitting) بالطالب الذي يحفظ الأسئلة المتوقعة للامتحان عن ظهر قلب، فينجح ببراعة إذا طُرحت كما هي، ولكنه يتعثر عند مواجهة سؤال جديد. والأمر نفسه يحدث مع بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي؛ فهي تتقن التعامل مع بيانات محدودة بدقة مذهلة، ولكنها تنهار عندما تُختبر في ظروف مختلفة عن تلك التي تدربت عليها.

ولعل المثال الأشهر قصة نظام طوَّرته جامعة أميركية لاكتشاف سرطان الرئة من صور الأشعة. ففي التجارب الأولى، سجَّل نتائج مبهرة بدقة قاربت 97 في المائة. ولكن المفاجأة جاءت عند تطبيقه على صور من مستشفى آخر؛ إذ تراجعت الدقة إلى أقل من 60 في المائة. والسبب لم يكن في ضعف الخوارزمية بقدر ما كان في «ذكائها المفرط»؛ فقد تعلَّمت على نحو غير مقصود التعرُّف إلى شعارات الأجهزة الطبية التي ظهرت في الصور، لا ملامح المرض ذاته. وهكذا، التبس على النظام الفرق بين العلامة التجارية والورم السرطاني!

هذا المثال يوضح أن النجاح في بيئة ضيقة لا يعني بالضرورة الكفاءة في الواقع الأوسع، وأن الفهم الحقيقي لا يتحقق إلا عندما تتجاوز الخوارزميات حدود «الحفظ الأعمى» إلى استيعاب الأنماط الجوهرية للمرض.

الوجه الآخر: السذاجة القاتلة

في الجهة المقابلة من الإفراط، تقف مشكلة «التقصير في التعلُّم» (Underfitting)؛ حيث تكون النماذج أبسط من أن تلتقط الأنماط الجوهرية في البيانات. النتيجة أشبه بتخمين أعمى: أداء ضعيف لا يختلف كثيراً عن الحظ.

تخيَّل طبيباً افتراضياً يُعرَض عليه تخطيط قلب لمريض يعاني ذبحة صدرية (Acute Myocardial Infarction)؛ أي انسداد مفاجئ في أحد شرايين القلب يؤدي إلى توقف تدفق الدم إلى جزء من عضلة القلب، وهو ما يُعرف بالنوبة القلبية. ومع ذلك، لا يرى هذا «الطبيب» الفارق بين التخطيط للمريض والتخطيط الطبيعي... ببساطة لأن نظامه لم يتعلَّم بما يكفي.

هذا ليس سيناريو افتراضياً فحسب؛ بل واقع تكرر في بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي التي طُوِّرت للكشف عن أمراض القلب عبر إشارات التخطيط الكهربائي. وحين جرى اختبارها في بيئة مختلفة عن بيانات التدريب، لم تتجاوز دقتها 50 في المائة؛ أي أنها عملياً لم تكن أفضل من رمي قطعة نقدية في الهواء.

والمشهد ذاته يتكرر في طب الأسنان؛ فقد أظهرت بعض الخوارزميات ضعفاً في التمييز بين التسوُّس المبكر وبين بقع التصبغات والتلونات الطبيعية على سطح السن. والنتيجة أن بعض المرضى تلقُّوا إنذارات خاطئة، أو أُهملوا في مراحل حرجة كان يمكن فيها التدخل المبكر.

هذه الإخفاقات تذكِّرنا بأن الذكاء الاصطناعي، مهما بدا لامعاً، يمكن أن يتحوَّل إلى أداة عديمة الجدوى إن لم يُبْنَ على بيانات كافية ومتنوعة، تُعلِّمه كيف يفرِّق بين الخطأ والحقيقة.

حين تتحول الثقة إلى وهم

لا تكمن المشكلة في الإفراط أو التقصير في التعلُّم فحسب؛ بل في ظاهرة أخطر تُعرف بـ«الثقة المفرطة»، (Overconfidence) وهي أن يقدِّم النموذج تنبؤاته بلهجة قاطعة، توحي باليقين، بينما تكون الحقيقة أبعد ما تكون عن الصحة. هنا يصبح الخطر مضاعفاً: ليس فقط نتيجة خاطئة؛ بل نتيجة مغلَّفة بطمأنينة زائفة قد تُضلِّل الأطباء، وتؤثر مباشرة في حياة المرضى.

في عام 2020، نشرت مجلة «Nature Medicine» دراسة بارزة كشفت إخفاق نموذج طوَّرته إحدى الشركات التقنية الكبرى، وكان يُسوَّق له كأداة رائدة لتشخيص سرطان الثدي. في التجارب الأولية، أظهر النموذج أداءً واعداً، ولكن عند اختباره في بيئات مختلفة عن بيانات تدريبه، تراجعت دقته بشكل صادم. الأخطر أنه واصل إصدار تنبؤات ممهورة بدرجة ثقة عالية، الأمر الذي جعل الأطباء يظنون أن النتيجة حاسمة، بينما كانت في الواقع مضللة.

ولم يكن هذا المثال وحيداً. ففي مجال علم الأمراض الباثولوجي، طُوِّرت أنظمة ذكاء اصطناعي لتحليل شرائح الأنسجة المجهرية، بهدف التعرُّف على الأورام. ورغم دقتها العالية في بيئة التدريب، فإنها أظهرت ثقة مفرطة عند مواجهة عينات جديدة ذات اختلافات طفيفة في الصبغات أو جودة الشرائح. في بعض الحالات، أعطت هذه الأنظمة تشخيصاً جازماً بوجود ورم خبيث، بينما كانت العينة سليمة تماماً. هذا التضليل كاد أن يقود إلى قرارات علاجية جراحية غير ضرورية، لولا تدخُّل الخبرة البشرية التي أعادت التقييم.

هذه النماذج تكشف عن حقيقة صادمة: الخوارزمية قد تخطئ، ولكن الكارثة تبدأ حين تُخفي خطأها تحت قناع الثقة المطلقة.

دروس من أرض الواقع

وإليكم بعض الدروس حول أخطاء الذكاء الاصطناعي:

1. سرطان الجلد: أظهرت أنظمة الذكاء الاصطناعي للكشف عن الميلانوما نتائج مبهرة في مختبرات البحث، ولكنها أخفقت عند اختبارها على مرضى من أعراق مختلفة؛ لأن معظم بيانات التدريب جاءت من ذوي البشرة البيضاء. النتيجة: أداء ضعيف عند مواجهة البشرة السمراء أو الداكنة، وهو ما كشف تحيزاً خطيراً في بناء البيانات.

2. «كورونا»: خلال جائحة «كوفيد-19»، تسابقت مراكز البحوث لتطوير نماذج للتشخيص السريع من صور الأشعة الصدرية. ولكن مراجعة شاملة نُشرت عام 2021 في مجلة «BMJ» أكدت أن غالبية هذه النماذج لم تكن صالحة للتطبيق السريري، إما بسبب ضعف التعميم وإما بسبب تحيزات في بيانات التدريب، ما جعلها غير موثوقة في إنقاذ الأرواح في لحظة الأزمة.

3. قسم الطوارئ: في الولايات المتحدة، اعتمد أحد المستشفيات على نظام آلي لفرز المرضى (Triage) وتحديد أولوياتهم في قسم الطوارئ. ولكن التجربة انتهت بكارثة أخلاقية: النظام كان يقلل من خطورة بعض حالات النساء والأقليات مقارنة بالرجال البيض! والسبب هو تحيُّز خفي في البيانات التاريخية التي بُني عليها، عكس تمييزاً متوارثاً في النظام الصحي نفسه.

هذه الأمثلة الثلاثة تكشف بوضوح أن الذكاء الاصطناعي ليس «معصوماً». خطورته لا تكمن فقط في وقوعه في الخطأ؛ بل في إقناعنا -بدرجة ثقة عالية- بأنه على صواب. وهنا تكمن الحاجة إلى عين بشرية ناقدة تضع حدوداً لثقة الخوارزميات، قبل أن تتحول هذه الثقة إلى وهم يهدد حياة الإنسان.

الطريق إلى أفضل الممارسات

يبقى السؤال: كيف يمكننا أن نتفادى هذه المزالق، ونحوِّل الذكاء الاصطناعي إلى شريك موثوق فعلاً في الطب؟ الحل ليس في هدم التقنية أو الخوف منها؛ بل في تبنِّي الممارسات الفضلى التي تجعل الخوارزميات أكثر عدلاً وموثوقية:

- تنويع مصادر البيانات: بحيث تشمل مرضى من أعراق وخلفيات بيئية مختلفة، فلا تبقى النماذج حبيسة فئة واحدة.

- التقييم الصارم: عبر أساليب مثل التحقق المتقاطع أو المتبادل (Cross- Validation)، للتأكد من أن النموذج لا ينجح فقط في بيئة ضيقة؛ بل يثبت نفسه أمام بيانات جديدة.

- الشفافية: وذلك بنشر النتائج كاملة، مع توضيح نقاط القوة والقصور، بدل الاكتفاء بالأرقام اللامعة.

- عادة الاختبار المستقل: على يد فرق بحثية مختلفة، وقبل أي تطبيق سريري واسع، لتجنُّب تكرار أخطاء الماضي.

بهذه الخطوات، يتحوَّل الذكاء الاصطناعي من مصدر قلق إلى أداة أكثر أماناً، تفتح الطريق أمام ثقة مدروسة وليست عمياء.

لماذا تهمنا هذه الدروس في العالم العربي؟

الأمر بالسبة لنا لا يقتصر على متابعة سباق عالمي؛ بل يرتبط مباشرة بصحة مجتمعاتنا ومستقبل أنظمتنا الطبية. فنحن نسعى اليوم لبناء مستشفيات ذكية في الرياض ودبي والقاهرة ونيوم، تحمل وعوداً بتغيير جذري في الرعاية الصحية. ولكن هذه الوعود قد تتحول إلى سراب إذا استوردنا أنظمة لامعة في المؤتمرات، ثم اكتشفنا أنها عاجزة في أقسام الطوارئ عند مواجهة مرضانا ببيئتهم وخصائصهم المختلفة.

لقد أثبتت التجارب أن النظام الذي يحقق نتائج مذهلة في بوسطن أو لندن قد يفشل في جدة أو الرباط، إذا لم تُؤخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الجينية والبيئية والغذائية لشعوبنا. فأنماط الأمراض، والبصمات الجينية، وحتى العادات الغذائية في منطقتنا تختلف جذرياً عن الغرب، ما يجعل نقل الخوارزميات كما هي مخاطرة لا يمكن تجاهلها.

وهنا يكمن دور الباحثين والأطباء العرب: ليس فقط في تطوير نماذج محلية تستند إلى بياناتنا؛ بل أيضاً في تدقيق النماذج المستوردة، والتأكد من صلاحيتها عبر تجارب مستقلة داخل بيئتنا السريرية. إن الاستثمار في قواعد بيانات عربية موسّعة -تشمل أطفالنا وشبابنا وكبار السن- لن يكون رفاهية؛ بل سيكون شرطاً أساسياً لضمان أن تكون «المستشفيات الذكية» ذكية فعلاً، معنا ولأجلنا.

بكلمة أخرى: نجاح الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية العربية لن يُقاس بعدد الأجهزة المستوردة؛ بل بقدرتنا على تحويله إلى أداة تُعالج مريضاً في مكة كما تعالج مريضاً في مانشستر، دون تحيُّز أو قصور. وهنا تتجسد الأهمية الحقيقية لهذه الدروس: أن نكون صانعين للتقنية؛ لا مجرد مستخدمين لها.

إن الذكاء الاصطناعي في الطب أداة عظيمة تحمل وعوداً واسعة، ولكنها ليست بديلاً عن العقل النقدي ولا عن الطبيب البشري. فالإفراط في الثقة قد يكون خطراً بقدر ضعف الأداء، وبين هذين الحدَّين يكمن الطريق الآمن: علم رصين، وبيانات كافية، وتصميم صارم يجعل الخوارزميات جديرة بثقة المريض العربي تماماً، كما هي جديرة بثقة المريض الغربي.

إنَّ السؤال الحقيقي ليس: هل الذكاء الاصطناعي قادر على إنقاذ الأرواح؟ بل: هل نحن قادرون على استخدامه بوعي وحذر، لنضمن أن يبقى في خدمة الإنسان لا على حسابه؟

ولعل ما قاله ويليام شكسبير يصلح أن يكون مرآة لمرحلتنا: «الثقة المفرطة تُقرِّبنا من الخطر، كما يقرِّبنا الخوف المفرط منه». وبين هذين النقيضين، علينا أن نصوغ معادلة متوازنة تجعل الذكاء الاصطناعي سنداً للطب؛ لا عبئاً عليه.


مقالات ذات صلة

دراسة تفتح الباب لإمكانية عكس مسار ألزهايمر

صحتك الدراسة أجراها المركز الطبي التابع لمستشفيات جامعة كليفلاند الأميركية (بيكسباي)

دراسة تفتح الباب لإمكانية عكس مسار ألزهايمر

أشارت دراسة علمية حديثة إلى إمكانية عكس مسار مرض ألزهايمر عبر استعادة التوازن الطاقي داخل الدماغ.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك أهم الإنجازات الطبية في عام 2025

أهم الإنجازات الطبية في عام 2025

نهاية كل عام، نستعرض أهم الإنجازات والأحداث الطبية التي يُتوقع أن تنعكس بالإيجاب على صحة ملايين من المرضى حول العالم؛ خصوصاً مع التقدم الكبير في التكنولوجيا،

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك الحب بين الزوجين... تأثير قوي على صحة القلب وتعافيه

الحب بين الزوجين... تأثير قوي على صحة القلب وتعافيه

الزواج السعيد يُساهم في تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية «تلعب العلاقات الأسرية، ولا سيما جودة العلاقة الزوجية الحميمة،

د. حسن محمد صندقجي (الرياض)
صحتك ذكاء اصطناعي يتنبأ بالنوبة القلبية قبل ظهور الأعراض

5 قفزات في الذكاء الاصطناعي الطبي

في الشهر الأخير من عام 2025، لم يعد الذكاء الاصطناعي الطبي فكرة تُناقَش في المؤتمرات، ولا وعداً تُسوّقه الشركات الناشئة، فقد أصبح شريكاً صامتاً في العيادة،

د. عميد خالد عبد الحميد ( لندن)
علوم الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ…

د. عميد خالد عبد الحميد (لندن)

جدال علمي حول مشروعات حجب الشمس

مشروعات هندسية لحجب الشمس... احتمالات غير آمنة
مشروعات هندسية لحجب الشمس... احتمالات غير آمنة
TT

جدال علمي حول مشروعات حجب الشمس

مشروعات هندسية لحجب الشمس... احتمالات غير آمنة
مشروعات هندسية لحجب الشمس... احتمالات غير آمنة

على مدار عقود، ظلت هندسة المناخ - ويقصد بها التلاعب التكنولوجي المتعمد بمناخ الأرض لمواجهة الاحتباس الحراري - مفتقرة إلى مشاعر الاحترام والتقدير داخل المجتمع العلمي. وقد تعامل معها معظم الخبراء بشك عميق، الأمر الذي يرجع إلى حد كبير إلى عدم التيقن من فعاليتها، واحتمالية إطلاقها العنان لعواقب وخيمة غير مقصودة.

ومع أن مجموعة صغيرة من الباحثين طالبت بدراسة هندسة المناخ على الأقل، جاءت ردود الأفعال العامة في الجزء الأكبر منها، انتقادية.

تحذيرات ومجادلات علمية

وأخيراً، وتحديداً في سبتمبر (أيلول) الماضي، تعزز هذا الموقف لدى نشر أكثر من 40 مختصاً في علوم المناخ والأنظمة القطبية وعمليات المحيطات، ورقة بحثية رئيسة في دورية Frontiers in Science.

* مخاطر هندسة المناخ الشمسية. وكانت النتيجة التي خلص إليها العلماء واضحة دون مواربة: ثمة احتمال ضئيل للغاية أن تعمل هندسة المناخ الشمسية بأمان. وحذر القائمون على الدراسة من أن رش الهباء الجوي العاكس، في طبقة الستراتوسفير، قد يغير الدورة الجوية، مما قد يؤدي بدوره إلى ارتفاع درجة حرارة فصول الشتاء في شمال أوراسيا (أوروبا-آسيا)، علاوة على اضطرابات مناخية إضافية.

الحقيقة أنه لطالما جرى تجسيد هذه المخاوف في الأفلام، مثل «مثقب الثلج» (Snowpiercer) الذي دار حول قصة حدوث انخفاض كارثي في درجة الحرارة، بعد تجربة هندسة مناخية فاشلة. كما يتخيل كيم ستانلي روبنسون في روايته «وزارة المستقبل» (The Ministry for the Future) حكوماتٍ تلجأ إلى هندسة المناخ، مدفوعة بشعورها باليأس، بعد وقوع وفيات جماعية ناجمة عن التغيرات المناخية.

واللافت أن رواية روبنسون لا تصور هندسة المناخ باعتبارها كارثية بطبيعتها، وإنما تحذر من أن استخدام تكنولوجيا غير مفهومة جيداً على نطاق واسع، قد يسفر عن نتائج كارثية يتعذر التنبؤ بطبيعتها.

* ضرورة أبحاث التدخل المناخي.ومع ذلك، فقد تدهورت توقعات المناخ على أرض الواقع بدرجة هائلة، لدرجة أن الكثير من العلماء، اليوم، بات لديهم اعتقاد بأن أبحاث هندسة المناخ أمر لا مفر منه. ورداً على الورقة البحثية المنشورة المذكورة آنفاً، أصدر أكثر من 120 عالماً بياناً مضاداً أكدوا خلاله أن البحث في مجال التدخل المناخي، أصبح «ضرورياً للغاية».

وكان فيليب دافي، كبير المستشارين العلميين السابق في إدارة بايدن، قد أوجز هذا التحول على النحو الآتي: مع تسارع وتيرة التغييرات المناخية، فإنه حتى التخفيف الصارم للانبعاثات المسببة لها، لا يمكنه الحيلولة دون الارتفاع الشديد في درجات الحرارة. وعلى نحو متزايد يتضح أمامنا أن بعض التدخلات المناخية قد تكون ضرورية باعتبارها تدابير تكميلية، وليست مجرد تكهنات نظرية.

وقد عززت سياسات المناخ العالمية هذه الحاجة الملحة. وفي الوقت الذي يُكافح العالم لإجراء تحولات منهجية سريعة في قطاعي الطاقة والزراعة، يواجه الباحثون وصانعو السياسات تساؤلاً ملحاً: إذا لم يكن في الإمكان تقليص الانبعاثات الكربونية بالسرعة الكافية لتجنب نقاط التحول الكارثية، فما البدائل المتبقية؟

التصاميم التدخلية لحماية الأرض من تغيرات المناخ... قد تصبح ضرورية

تصاميم تدخلية

* مقترحات متعددة. من جهتها، تشمل هندسة المناخ طيفاً واسعاً من التدخلات المُحتملة. وتدور بعض المقترحات حول تعزيز سطوع السحب فوق المحيطات، أو زيادة انعكاسية المناطق القطبية. كما حظيت تكنولوجيا إزالة الكربون، التي تُدرج أحياناً تحت مظلة هندسة المناخ، بقبول واسع باعتبارها عناصر ضرورية في استراتيجيات التخفيف من آثار التغييرات المناخية. ومع ذلك، تبقى الفئة الأكثر إثارة للجدل إدارة الإشعاع الشمسي - حقن جزيئات الهباء الجوي العاكسة في طبقة الستراتوسفير لحجب أشعة الشمس الواردة.

اللافت أن هذه الأفكار، التي لطالما كانت هامشية من قبل، تحظى اليوم بدعم مؤسسي وتجاري وخيري. وقد أبدى مليارديرات مثل بيتر ثيل وإيلون ماسك اهتمامهم بها. كما أطلقت شركات ناشئة، مثل «ميك صن سيتس»، تجارب صغيرة وغير مُصرح بها.

كما يعتقد بعض النشطاء الذين لطالما شككوا في هندسة المناخ، الآن أن التدخل المناخي وسيلة لمعالجة التفاوتات العالمية، الناجمة عن استخدام الوقود الأحفوري. وتعكف مختبرات وطنية أميركية على إجراء أبحاث حول آثار إطلاق ثاني أكسيد الكبريت في القطب الشمالي. وجمعت شركة «ستارداست سولوشنز»، وهو مشروع خاص يسعى إلى تسويق تعديل المناخ باستخدام الهباء الجوي، 60 مليون دولار حديثاً، بينما تؤكد قياداتها أن الحكومات بحاجة إلى بيانات دقيقة لاتخاذ قرارات مدروسة.

وفي وقت قريب، أشار بيل غيتس، الذي لطالما موّل مبادرات التكيف مع المناخ، إلى أن هندسة المناخ قد تكون أداةً قيّمةً في مستقبلٍ سيكون حتماً أشد حرارة.

* وقف انبعاثات الكربون. ومع ذلك، نجد انه حتى هذا الموقف الحذر والمركّز على البحث، يصطدم ببيئة سياسية أميركية مستقطبة. في هذا الصدد، أشار كريغ سيغال، خبير السياسات والمحامي السابق لدى «مجلس شؤون موارد الهواء، في كاليفورنيا، إلى أن ردود الفعل السياسية متباينة بشدة».

في داخل صفوف النقاد أصحاب الفكر التقدمي، تقوم المعارضة على اعتقاد مفاده أن المجتمع يجب أن يركز حصراً على وقف الانبعاثات الكربونية وتقليل استهلاك الطاقة، رافضاً الحلول التكنولوجية باعتبارها مجرد مُشتتات للانتباه.

أما على اليمين السياسي، فقد تحول الرفض إلى عداء مدفوع بنظريات المؤامرة. وجرى ربط هندسة المناخ بنظرية مؤامرة «الخطوط الكيميائية»، التي تزعم - دون دليل - أن الخطوط التي تخلفها الطائرات تحتوي على مواد كيميائية تطلقها حكومات للتحكم في العقول. والمثير أن هذه الادعاءات، التي لطالما رُفضت باعتبارها محض خرافات منشورة على الإنترنت، تتردد اليوم على ألسنة شخصيات بارزة.

وبالمثل، نجد أنه بعد أن أودت فيضانات شديدة بحياة أكثر من 130 شخصاً في تكساس، سألت قناة «فوكس نيوز» ممثلي شركةً لتلقيح السحب حول ما إذا كانت جهودها في تعديل الطقس قد تسببت في الكارثة - ادعاء قابله العلماء بالرفض على نطاق واسع.

واليوم، تتحوّل المقاومة اليمينية إلى سياسة رسمية، مع تقديم أكثر من عشرين ولاية أميركية مشروعات قوانين - أغلبها من جمهوريين - تهدف إلى حظر أبحاث هندسة المناخ أو نشرها. وبالفعل، أقرت ولايتا تينيسي وفلوريدا بالفعل تشريعات من هذا القبيل. وقد يعيق هذا التزايد في الحظر في ولايات دون أخرى، إجراء أبحاث مناخ منسقة على المستوى «الفيدرالي».

إدارة الإشعاع الشمسي في الدول النامية

* إدارة الإشعاع الشمسي. في المقابل، نجد أن البيئة السياسية، عالمياً، تبدي انفتاحاً أكبر؛ فالدول النامية، المعرضة بشكل أكبر بكثير عن غيرها للتضرر من التأثيرات المناخية، تبدي استعداداً متزايداً لاستكشاف خيارات هندسة المناخ. مثلاً، في منتدى باريس للسلام، سلَّط وزير خارجية غانا الضوء على أبحاث إدارة الإشعاع الشمسي الجارية في ماليزيا والمكسيك وجنوب أفريقيا وغانا، واصفاً إياها بأنها ضرورية لضمان قدرة هذه البلاد على إدارة مستقبلها المناخي.

في الصين، لا تزال الأبحاث في مراحلها الأولى، لكن الخبراء يشيرون إلى أنه إذا أعطت بكين الأولوية للهندسة المناخية، فإنها تمتلك القدرة على متابعتها بسرعة وعلى نطاق واسع. وتعكس هذه الديناميكيات تصورات مستقبلية افتراضية، تُعيد في إطارها التدخلات الوطنية أحادية الجانب تشكيل أنماط المناخ العالمية.

وغالباً ما يجادل العلماء الرافضين للهندسة المناخية بأنها تُعطي «أملاً زائفاً»، وقد تُضعف الإرادة السياسية لخفض الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

* السلامة والفاعلية. وهم مُحقون في القول بأنه لم تثبت أية تكنولوجيا من تكنولوجيات هندسة المناخ سلامتها أو فعاليتها على نطاق واسع، وأن المخاطر - بما في ذلك الاضطرابات الجوية، والصراعات الجيوسياسية، والتأثيرات الإقليمية غير المتكافئة - ضخمة.

وتظل المعضلة الجوهرية قائمة: فالبشرية ينفد وقتها، ومع ذلك تفتقر إلى المعرفة الكافية لتحديد ما إذا كانت هندسة المناخ جزءاً من استراتيجية مناخية مسؤولة. والمؤكد أن حظر الأبحاث يهدر الخيارات، بينما المضي قدماً دون تفكير يعرضنا لكارثة.

في هذا السياق، نرى أن السبيل العقلاني الوحيد السماح بإجراء تحقيق منهجي وشفاف في متطلبات جدوى هندسة المناخ وسلامتها وحوكمتها. من دون هذه الأبحاث، قد يقف العالم في مواجهة أزمات مناخية، مسلحاً بأدوات أقل وفهم أقل - بالضبط السيناريو الذي يأمل العلماء في تجنبه.

* «أتلانتك أونلاين»، خدمات «تريبيون ميديا».


بحوث التوحُّد تؤكِّد الجذور الجينية القوية وتنفي أي علاقة باللقاحات

بحوث التوحُّد تؤكِّد الجذور الجينية القوية وتنفي أي علاقة باللقاحات
TT

بحوث التوحُّد تؤكِّد الجذور الجينية القوية وتنفي أي علاقة باللقاحات

بحوث التوحُّد تؤكِّد الجذور الجينية القوية وتنفي أي علاقة باللقاحات

يُعدُّ اضطراب طيف التوحُّد من الاضطرابات النمائية العصبية التي تؤثر في التواصل والسلوك والتفاعل الاجتماعي.

الوراثة عامل الخطر الأهم

ومع ازدياد معدلات تشخيص التوحُّد حول العالم، تصاعد الجدل العام حول احتمال وجود صلة بين لقاحات الطفولة والإصابة بهذا الاضطراب. غير أنَّ عقوداً من البحوث العلمية الصارمة قدَّمت إجابة واضحة وحاسمة، هي أن اللقاحات لا تسبب التوحُّد. وتشير الأدلة إلى أنَّ التوحُّد يعود أساساً إلى عوامل وراثية تتفاعل مع مؤثرات نمائية مبكرة قبل الولادة.

* دراسات عائلية وجينية: توفر الدراسات العائلية والجينية بعضاً من أقوى الأدلة على أسباب التوحُّد. فقد أظهرت دراسة واسعة نُشرت في الأول من أغسطس (آب) عام 2024 في مجلة «Pediatrics» بقيادة سالي أوزونوف من قسم الطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة كاليفورنيا، أنَّ نسبة انتشار التوحُّد تبلغ نحو 2.8 في المائة بين الأطفال في عموم الولايات المتحدة، إلا أنَّ هذه النسبة ترتفع إلى أكثر من 20 في المائة لدى الأطفال الذين لديهم شقيق مصاب بالتوحُّد.

* انتشار عائلي: وتتوافق هذه النتائج مع دراسات سابقة أكدت أنَّ التوحُّد ينتشر داخل العائلات، فإخوة الطفل المصاب بالتوحُّد أكثر عرضة للتشخيص بنحو 15 ضعفاً مقارنة بغيرهم، في حين يزداد خطر الإصابة لدى أبناء الإخوة والأخوات بنحو 3 أضعاف. كما أظهرت دراسات التوائم أنَّ التوائم المتطابقة تسجِّل معدلات توافق أعلى بكثير من التوائم غير المتطابقة، ما يعزِّز الدور المحوري للعوامل الوراثية.

* متغير جيني: ويقدِّر العلماء أنَّ 15 إلى 20 في المائة من حالات التوحُّد يمكن تفسيرها بمتغيِّر جيني واحد واضح، في حين تنتج غالبية الحالات عن تفاعل معقَّد بين عدد كبير من الجينات، يؤثر كثير منها في كيفية نمو خلايا الدماغ وتواصلها وتشكيل الشبكات العصبية.

العوامل البيئية وتأثيرها قبل الولادة

ورغم الدور الأساسي للجينات، تشير البحوث إلى أنَّ بعض العوامل البيئية قد تؤثر في خطر الإصابة بالتوحُّد، ولا سيما خلال فترة الحمل والمراحل المبكرة من نمو الدماغ. ويؤكد الباحثون أنَّ هذه العوامل لا تعمل بمعزل عن الوراثة؛ بل غالباً ما تتفاعل معها.

وتشمل العوامل المرتبطة بزيادة الخطر: الولادة المبكرة، وانخفاض الوزن الشديد للمولود عند الولادة، ونقص الأكسجين في أثناء الولادة. كما تبيَّن أنّ التقدُّم في سن الوالدين عند الإنجاب يرتبط بزيادة احتمال التشخيص. وتؤدي بعض الحالات الصحية لدى الأم -مثل سكري الحمل- دوراً إضافياً في هذا السياق.

كما ارتبط التعرُّض لبعض أدوية الصرع ومستويات مرتفعة من تلوث الهواء في أثناء الحمل بزيادة خطر الإصابة بالتوحُّد لدى الأطفال. ومن المهم الإشارة إلى أنَّ كثيراً من الأمراض المعدية خلال الحمل، مثل الحصبة الألمانية، والإنفلونزا، و«كوفيد-19»، والسعال الديكيـ يمكن الوقاية منها بالتطعيم، ما يبرز الدور الوقائي للقاحات بدلاً من كونها عامل خطر.

اللقاحات والتوحُّد: حسم علمي قاطع

رغم استمرار المخاوف لدى بعض فئات المجتمع، فإن الأدلة العلمية تُجمع على عدم وجود أي علاقة بين اللقاحات والتوحُّد. ففي 12 ديسمبر (كانون الأول) عام 2025 نشرت منظمة الصحة العالمية (WHO) مراجعة منهجية شاملة، حلَّلت أكثر من 30 دراسة واسعة النطاق، شملت تجارب سريرية ودراسات سكانية ومقارنات بين أطفال ملقَّحين وغير ملقَّحين.

وكان الاستنتاج واضحاً: لا توجد علاقة سببية بين لقاحات الطفولة والتوحُّد.

كما درست البحوث مادة «الثيميروسال» (thimerosal) وهي مادة حافظة تحتوي على الزئبق كانت تُستخدم سابقاً في بعض اللقاحات. وأظهرت النتائج عدم وجود أي ارتباط بينها وبين التوحُّد. والأهم أنَّ معدلات التوحُّد واصلت الارتفاع حتى بعد تقليل استخدام هذه المادة أو إيقافها، ما يدحض هذه الفرضية تماماً.

وأكَّدت الدراسات كذلك أنَّ التطعيم في أثناء الحمل لا يزيد من خطر إصابة الطفل بالتوحُّد؛ بل إن العدوى الطبيعية في أثناء الحمل تمثِّل تهديداً أكبر لنمو الجنين من اللقاحات.

لماذا ترتفع معدلات التشخيص؟

أسهم ارتفاع معدلات تشخيص التوحُّد في تعزيز التصورات الخاطئة حول أسبابه؛ غير أنَّ الخبراء يقدِّمون تفسيرات علمية واضحة. فقد جرى توسيع معايير التشخيص عام 2013 لتشمل طيفاً أوسع من الأعراض ومستويات الأداء. كما تحسَّنت أدوات الفحص المبكر، وازداد الوعي المجتمعي، وتوسَّعت فرص الوصول إلى خدمات التشخيص والدعم.

إضافة إلى ذلك، أدَّت الزيادة في أعمار الوالدين، وتحسُّن معدلات بقاء الأطفال الخدَّج على قيد الحياة، إلى ارتفاع عدد الحالات المشخَّصة مع العلم بأنَّ معدلات التوحُّد الشديد ظلت مستقرة نسبياً.

العلم بدل الشائعات

يُعدُّ فهم الأسباب الحقيقية للتوحُّد خطوة أساسية لتطوير التدخل المبكر، وتحسين جودة حياة المصابين وأسرهم. وتؤكد الأدلة العلمية أنَّ التوحُّد ناتج عن تفاعل معقَّد بين الوراثة والعوامل النمائية المبكرة، وليس بسبب اللقاحات.

ويحذِّر خبراء الصحة العامة من أنَّ المعلومات المضلِّلة حول التطعيم قد تؤدي إلى عودة أمراض خطيرة يمكن الوقاية منها.

ويظل الإجماع العلمي واضحاً، وهو أن تطعيم الأطفال يحمي صحتهم ولا يسبب التوحُّد.

حقائق

2.8 %

نسبة الأطفال الأميركيين المصابين بالتوحُّد

حقائق

20 %

وأكثر، هي نسبة احتمالية إصابة أطفال بالتوحد من الذين لديهم شقيق مصاب به.


تساؤلات حول دور الذكاء الاصطناعي في الإصابة بحالات الذهان

مريضٌ أمام معالجٍ رقمي
مريضٌ أمام معالجٍ رقمي
TT

تساؤلات حول دور الذكاء الاصطناعي في الإصابة بحالات الذهان

مريضٌ أمام معالجٍ رقمي
مريضٌ أمام معالجٍ رقمي

نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» في 28 ديسمبر (كانون الأول) 2025، تقريراً حذّرت فيه من ارتباطٍ محتمل بين الاستخدام المطوّل لروبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وظهور حالات ذهانية لدى بعض المستخدمين.

«الذهان» والذكاء الاصطناعي

* تعريف الذهان. في التعريف الطبي، اضطراب نفسي يفقد فيه الإنسان جزئياً صلته بالواقع، فتختلط لديه الأفكار بالهلاوس أو المعتقدات الوهمية.

وقد أعاد التقرير، الذي استند إلى شهادات أطباء نفسيين في الولايات المتحدة، طرح سؤالٍ حساس: هل يمكن للخوارزميات أن تُنتج المرض النفسي، أم أنها تُضخّم هشاشة كانت موجودة أصلاً؟

* ماذا رصد الأطباء سريرياً؟ حسب التقرير، لاحظ أطباء نفسيون خلال الأشهر التسعة الماضية عشرات الحالات لمرضى طوّروا أعراض ذهان بعد محادثات طويلة مع روبوتات دردشة اتسمت بمحتوى وهمي متصاعد ومتراكم.

وأشار الطبيب النفسي كيث ساكاتا من جامعة كاليفورنيا – سان فرانسيسكو، إلى معالجته اثني عشر مريضاً أُدخلوا المستشفى بسبب نوبات من الذهان ارتبطت مباشرة بالاستخدام المكثّف للذكاء الاصطناعي، إضافة إلى حالات أُديرت في العيادات الخارجية. وقد اتخذت الأوهام في معظمها، طابعاً تعاظمياً واضحاً: ادّعاء اكتشافات علمية كبرى، الإحساس بالتواصل مع «آلة واعية»، أو شعور طاغٍ بالاختيار الإلهي والرسالة الخاصة.

حين يواجه العقل انعكاسه

العلم يدعو للتريث

* أين يقف العلم من هذه الملاحظات؟ يدعو العلم عند هذه النقطة إلى قدرٍ عالٍ من التريّث والحذر. فحتى اليوم، لا يوجد تشخيص طبي رسمي معتمد لما يُسمّى «ذهان الذكاء الاصطناعي»، ولا دراسة سريرية محكّمة تُثبت علاقة سببية مباشرة بين استخدام روبوتات الدردشة وظهور الذهان لدى أشخاص يتمتعون بصحة نفسية مستقرة.

وما هو متوافر حالياً يقتصر على ملاحظات سريرية وتقارير حالات فردية، وهي أدوات إنذار مبكر ذات قيمة، لكنها لا ترقى بعد إلى مستوى الدليل العلمي القاطع.

* الذكاء الاصطناعي... عامل مُسبِّب أم مُضاعِف؟ تشير المراجعات العلمية الحديثة إلى أن هذه الحالات تُفَسَّر، في الغالب، ضمن مفهوم «تعزيز الأوهام» لدى أشخاص يملكون استعداداً نفسياً مسبقاً، وهي ظاهرة معروفة في الطب النفسي منذ عقود، سبق رصدها مع وسائط مختلفة مثل العزلة، أو التديّن المتطرّف، أو رؤية بعض المواد الرقمية. والجديد هنا ليس المرض بحدّ ذاته، بل الأداة القادرة على تغذية الوهم بلا حدود زمنية أو تصحيح بشري مباشر.

مرآة لغوية وليس عقلاً واعياً

* «التملق الخوارزمي». الذكاء الاصطناعي لا يعمل كفاعلٍ واعٍ أو كذاتٍ مفكِّرة، بل كنظام لغوي إحصائي يعكس أنماط اللغة والمعاني التي يُغذّى بها. وهو ما يُعرف علمياً بظاهرة «التملّق الخوارزمي»، حيث تميل النماذج اللغوية إلى مجاراة المستخدم وتأكيد مسارات حديثه بدل مناقضتها أو كبحها نقدياً. في هذا السياق، لا «يخلق» روبوت الدردشة الوهم من العدم، لكنه قد يضخّمه ويمنحه تماسكاً لغوياً يوهم بالمعنى والشرعية، خصوصاً إذا تُرك التفاعل طويلاً بلا ضوابط أخلاقية، أو إشراف طبي، أو آليات تصحيح تعيد ربط الحوار بمرجعية الواقع.

* الوجه الآخر للصورة: ماذا تقول الأبحاث؟ في المقابل، تُظهر الأبحاث العلمية الحديثة أن روبوتات الدردشة حين تُصمَّم ضمن أطر أخلاقية واضحة وتُستخدم تحت إشراف مهني، قد تؤدي دوراً داعماً للصحة النفسية. فقد بيّنت دراسة سريرية نُشرت عام 2024 في مجلة «الصحة النفسية – نيتشر» (Nature Mental Health) أن استخدام نماذج محادثة نفسية مُنضبطة أسهم في تقليل أعراض القلق والاكتئاب الخفيف، وتخفيف الشعور بالوحدة لدى بالغين في بيئات محدودة الوصول إلى الخدمات المتخصصة. وتخلص الدراسة إلى أن الذكاء الاصطناعي يكون نافعاً حين يُستخدم أداةَ دعم مكمّلة، وليس بديلاً عن التقييم والعلاج النفسي؛ ما يؤكد أن الإشكالية لا تكمن في التقنية ذاتها، بل في طريقة تصميمها وحدود استخدامها.

تحديات حقيقية

* الخطر الحقيقي: الاستخدام بلا بوصلة. يتّضح أن الخطر لا يكمن في الخوارزمية ذاتها، بل في غياب الإطار الأخلاقي والطبي المنظِّم لاستخدامها. فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدرته الحسابية، لا ينبغي أن يُقدَّم بوصفه بديلاً عن الطبيب أو المعالج النفسي، بل أداةً مساندة تُستخدم بحكمة، وتحت إشراف مهني واضح، وضمن حدود تضمن سلامة المستخدم وتحفظ جوهر العلاقة العلاجية الإنسانية.

ما يحدث اليوم ليس صراعاً بين الإنسان والآلة، بل اختبار لقدرتنا على استخدام أدوات قوية بعقلٍ أكثر قوة.

* حين تصبح الخوارزمية مرآة صامتة. قال ابن رشد إن العقل لا يُضلّ صاحبه، بل يضلّ حين يُترك بلا ميزان. وفي زمن الذكاء الاصطناعي، تتخذ هذه الحكمة بُعداً جديداً؛ فالخوارزمية لا تُنتج الذهان من تلقاء ذاتها، لكنها قد تُحسن الإصغاء إليه، وتمنحه لغةً متماسكة، إذا تُركت بلا توجيه أو ضوابط.

وبين تحذير الصحافة وطمأنينة العلم، تتكشف حقيقة أكثر اتزاناً: الذكاء الاصطناعي ليس خصم العقل ولا وريثه، بل مرآته الصامتة. وما ينعكس فيها، في النهاية، هو الإنسان ذاته - بهشاشته، ووعيه، ومسؤوليته عن ألا يترك التقنية تقوده حين يفترض أن يقودها.