قالت المخرجة اللبنانية لانا ضاهر إنّ مشاركتها بفيلمها الوثائقي الطويل الأول «دو يو لوف مي» في الدورة الـ82 من مهرجان «البندقية السينمائي»، ضمن قسم «أيام البندقية»، تمثّل محطة استثنائية في مسيرتها، موضحة أنّ هذا العمل جاء حصيلة سنوات من البحث في الذاكرة السمعية والبصرية للبنان، ومحاولة فَهْم كيفية تشكُّلها عبر 7 عقود من الصور والأصوات والوثائق.
وأضافت ضاهر، في حوارها مع «الشرق الأوسط»، أنّ الفيلم لم يكن مجرّد مشروع فنّي عابر، بل رحلة شخصية تحمل أبعاداً إنسانية عميقة، وتهدف إلى التقاط المزاج الجماعي للبنانيين الذي يتأرجح بين الفرح والحزن، وبين الحنين والإحباط، مشيرة إلى أنها حين بدأت التفكير في المشروع كانت تشعر بأنّ هناك فجوة كبيرة في السرد التاريخي لبلدها.

وأكدت أنّ المناهج التعليمية تتوقّف تاريخياً عند حدود عام 1946 مع الاستقلال عن فرنسا، ولا تُواصل رواية ما جرى بعد ذلك من حروب وتحوّلات، وهو ما دفعها إلى البحث عن إجابات لأسئلة مُعلّقة في ذهنها منذ سنوات.
وأشارت إلى أنها كانت تتساءل كيف وصل المجتمع اللبناني إلى واقعه الحالي، ولماذا تبدو بيئته مشبعة بكلّ هذا التعقيد والالتباس، مؤكدة أنّ السينما المستقلّة في لبنان غالباً ما تُثير الأسئلة ذاتها، وتسعى مثلها إلى مُساءلة الذاكرة من منظور إنساني وفنّي.
وأضافت أنّها شرعت في العمل عام 2018، لكنها اصطدمت منذ البداية بصعوبات تتعلَّق بغياب أرشيف وطني شامل، وبعثرة المواد بين الجامعات والمكتبات الخاصة والأُسر، مشيرة إلى أنّ ما جعل مهمّتها أكثر تعقيداً هو تدهور حالة كثير من الوثائق، وغياب النسخ الرقمية، بالإضافة إلى نقص التمويل المخصَّص لأعمال الترميم والحفظ.

وقالت إنها على الرغم من ذلك تمكّنت من جمع أرشيف ضخم ضمّ أكثر من 20 مصدراً متنوّعاً بين صور وأصوات وجرائد وتسجيلات، غير أنها لم تستخدم في الفيلم سوى 5 في المائة فقط بعد غربلة طويلة استغرقت وقتاً وجهداً كبيرَيْن.
ولفتت إلى أنّ كثيرين لم يفهموا طبيعة مشروعها منذ البداية، مما جعلها تُواجه صعوبات في إقناعهم بالتعاون، مؤكدة أنّ الفيلم لم يكن ليخرج إلى النور لولا دعم المؤسّسات الثقافية والأفراد الذين فتحوا أمامها أرشيفاتهم الخاصة.
وأضافت أنها أنشأت موقعاً إلكترونياً باسم الفيلم لوضع المصادر التي استعانت بها، موضحة أنّ هذا العمل بالنسبة إليها ليس مجرّد فيلم، بل مبادرة مفتوحة تُسهم في صون الذاكرة البصرية والسمعية اللبنانية، وتمنح الباحثين والمهتمّين فرصة الاطلاع على ما جُمع من مواد.
وأوضحت أنها منذ البداية كانت حريصة على الابتعاد عن الصور النمطية المرتبطة بالسياسيين وزعاماتهم، مشيرة إلى أنها لم ترغب في أن يتضمَّن الفيلم أي مَشاهد لهم، بل اعتمدت على أصوات الناس العاديين وتجاربهم، لأنهم صُنّاع الذاكرة الحقيقية، مؤكدة أنّ هدفها كان تقديم فيلم يُعبّر عن المجتمع من الداخل، بعيداً عن هيمنة السرد السياسي التقليدي الذي يختزل التاريخ في شخصيات وأحداث كبرى.
وقالت إنّ المشروع في بداياته كان مختلفاً عمّا انتهى إليه، لافتة إلى أنها فكّرت أولاً في أن يكون العمل عن عائلة موسيقية لبنانية، هي عائلة البندلي، لكنها اكتشفت مع الوقت أنّ ما تبحث عنه أوسع من سيرة عائلة واحدة، موضحة أنّ العمل أخذ مساراً آخر، وصار رحلة في طبقات الذاكرة اللبنانية، وكيف نتذكر طفولتنا وأحداثنا الجماعية، مع إرادتها أن يكون الفيلم مُعبّراً عنها وعن جيلها وإحساس اللبنانيين عموماً بماضيهم.

وأضافت أنّ المونتاج استمر عامَيْن، منها 6 أشهر متواصلة من العمل المكثّف، مشيرة إلى أنها كانت تعود إلى البحث وجمع مواد جديدة خلال تلك المدّة، مؤكدة أنّ هذه التجربة علّمتها أنّ إتاحة الوقت الكافي للعمل يمنح المخرج فرصة لإنتاج فيلم مختلف وأكثر عمقاً.
وأشارت إلى أنّ المحاور الثلاثة للفكرة التي ظلَّت حاضرة في ذهنها طوال الوقت هي الذاكرة والطفولة والتروما الجماعية، موضحة أنها اختارت عمداً ألا يكون هناك تعليق صوتي في الفيلم.
ولفتت إلى أنها فكّرت في البداية بتسجيل صوتها، لكنها شعرت بعدم الراحة، ففضَّلت أن تترك للصور والأصوات حرّية البوح، وهذا القرار جعل العمل أكثر صدقاً، وأتاح للمشاهد أن يكون شريكاً في عملية التأويل والاكتشاف بدل أن يُفرض عليه معنى محدّد.

وشدَّدت المخرجة اللبنانية على أنّ انفجار مرفأ بيروت كان نقطة تحوّل في علاقتها بالمشروع، موضحة أنّ تلك الكارثة جعلتها تعطي للفيلم وقتاً أطول للتأمل والاشتغال، فما حدث زاد من إلحاح سؤال الذاكرة وضرورة توثيق الصدمات الجماعية، مؤكدة أنّ الأوضاع السياسية والاقتصادية التي مرَّ بها لبنان خلال السنوات الأخيرة كانت جزءاً من السياق الذي خرج فيه الفيلم، بل أحد أسباب تأخُّر إنجازه أكثر من 3 أعوام.
وقالت إنها شعرت بسعادة غامرة عندما تلقَّت خبر اختيار فيلمها لمهرجان «البندقية»، مشيرة إلى أنّ هذا المهرجان يُعد من أبرز المحافل السينمائية في العالم، وأنّ حماسة لجنة الاختيار للعمل منحتها ثقة ودافعاً كبيرَيْن للاستمرار، لافتة إلى أنّ العرض الأول عربياً سيكون في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وأنّ الفيلم سيخوض جولة من المهرجانات الدولية تمنحه فرصة للوصول إلى جمهور واسع ومتنوّع.






