السخرية في الشعر العربي

موقف من الذات والمجتمع والوجود

صلاح عبد الصبور
صلاح عبد الصبور
TT

السخرية في الشعر العربي

صلاح عبد الصبور
صلاح عبد الصبور

رافقت السخرية الشعر العربي في كل مراحله وعصوره، وتحولت من نزعة للتهكم والدعابة والمرح إلى موقف ورؤية للعالم والواقع والأشياء، كما ترسخّت في بنية النص الشعري وأثرَتْ لغته، ووسعت من أفقه التخييلي والتأويلي بالاشتباك مع حقول المفارقة والدلالة والرمز، ليس كعناصر لفظية محضة في سياق معنى مستعار من الخارج، وإنما كمقومات فنية وجمالية نابعة من نسيج القصيدة، تمنحها خصوصية وتمايزاً على مستويي المعنى واللفظ. كما ارتبطت السخرية بقضايا الوجود والتساؤل عن ماهيته وجوهره، بل الحيرة إلى درجة الشك، وذلك في سياق التعبير عن قلق الذات الشاعرة وهمومها الخاصة.

يمكننا أن ننظر هنا إلى صرخة المصير الداخلية المكتومة في معلقة طرفة بن العبد، وهي تنساب بغضب مشوب بالسخرية، يصل إلى حد التلويح بالانتحار والتخلص من الحياة، مؤكداً أن الزمن لا يخطئ في حساب الأيام والسنين، إنما هي إشاراته الرخوة إلى البشر، ربما يدركون طوق النجاة وقوسي البداية والنهاية، فلا شيء مُخَلَّد، ولا أحد يستطيع أن يهب الخلد لأحد، في حياة مبنية على شره الأضداد وصراعاتها المقيتة المحفوفة دوماً بالعبث والسخرية... يقول طرفة في معلقته:

ألا أَيُّهذا اللائِمي أَشهَـدُ الوَغَـى

َوأَنْ أَنْهَل اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِـدِي

ستُبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً

ويأتِيكَ بالأخبارِ مَن لم تُزَوّدِ

فإن كنتَ لا تسْطِيعُ دفعَ منيَّتي

فدعني أبادِرهَا بمَا ملَكَتْ يَدي

حافظ إبراهيم

كذلك صرخة بشار بن برد وهو الشاعر الأموي المخضرم، بعدما أعجب بامرأة جارية، أشجاه صوتها وهي تشدو في مجلسه ذات يوم وسط رهط من النساء، محاولاً إيجاد الوجود البديل للعمى الذي أصيب به:

يا قومُ أذني لبعض الحيِّ عاشقةٌ

والأذنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا

يستهل بشار قصيدته باستهلال إنساني، يبدو بمثابة مرثية شديدة التبجيل للأذن، وفكرة السمع ورهافته في التقاط دبيب خطى البشر والطبيعة، لافتاً إلى أن الإحساس بالأشياء لا يتعلق فقط بعنصر الرؤية، بل الجسم البشري بما لديه من تكوين متداخل ومتراكب، يستطيع أن يعوِّض افتقاد عضو منه، وكما يقول:

قالوا بمَن لا تَرى تهذي فقلتُ لهم

الأذنُ كالعين توفي القلبَ ما كانا

ما كنتُ أوّلَ مشغوفٍ بجاريةٍ

يلقى بلقيانها روحاً وريحانا

ومن باب الفرح بالشعر ورهافة تعويض الفقد، كلف بشار صبيه بتتبع المرأة، وأن يبلغها بمحبته لها، وينشد لها هذه الأبيات السابقة، ففرحت المرأة وهشّت لها، وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها، ولا طمع في نفسه، وفي نفسها غير ذلك.

معروف الرصافي

لم تقتصر السخرية والتهكم المضمر في شعر بشار بن برد على رثاء الذات، وواقع الحال، وإنما امتدت إلى مظاهر الطبيعة، صانعاً نوعاً من الموازاة بين جرحه الخاص وتجليات هذه المظاهر. فهو الأعمى الذي لا يرى الشمس، لكنه يحسها، متجاوزاً حالته ككفيف، وما يفور في نفسه من لواعج الأسى والحيرة والحزن، لكنه مع ذلك يستطيع أن يرصد المشهد من زاوية خاصة جداً، وعلى سبيل التصريح لا التلميح، كأنه في لحظة مكاشفة مع ذاته والعالم والأشياء من حوله، بل دفعت هذه المكاشفة إلى أن يتأمل حكمة دورة النهار والليل، وتحولاتهما في فلك الوجود، فيصف الشمس التي يحسها، ويراها بعين قلبه، ونوره الداخلي قائلاً:

والشمسُ في كبد السماء كأنها

أعمى تحيَّر ما لديه قائدُ

ومن سمات السخرية في الشعر العربي أنها كثيراً ما تحولت إلى طقس له أعرافه وتقاليده ولغته وأسراره. ومن اللافت في ذلك الطقس، أن السخرية أصبحت بمثابة حوارية على مسرح مفتوح، تدافع بها الذات عن فردانيتها وتفردها، بل تفتخر بلحظات ضعفها وهشاشتها، وترى فيها مصدر قوة، وشكلاً من أشكال التميز اجتماعياً، خاصة في كنف المجموع سواء كان قبيلة أو عشيرة، أو صحبة من الأصدقاء.

أحمد شوقي

ينهض هذا الطقس ويشتعل شعرياً، في أثناء المشدات والمكائد والحروب الصغيرة بخاصة بين الشعراء، ومن منطلق أن صوت الشاعر هو صوت القبيلة، ولسان حالها، حتى إن كتب التراث تحفظ لنا مشاهد من المعارك بين القبائل، كانت تفتتح بمبارزات شعرية بين الشعراء، قبل أن تبدأ عجلة الكر والفر والقتال بالسيوف والنبال.

ولعل من أشهر المعارك الشعرية في تراث الشعر العربي المعركة التي جرت بين الشاعرين الشهيرين جرير والفرزدق، واستمرت على مدار 40 عاماً، فشلت خلالها كل مساعي الصلح بينهما. كان من دواعي المفارقة في تلك المعركة أن الشاعرين ينتميان لقبيلة تميم، إحدى قبائل العرب البارزة آنذاك، فلماذا العداء والحرب إذن، حتى أصبح لكل شاعر منهما «جيتو» يضم فريقاً من الشعراء، يدافع عنه ويناصره، وفي المقابل يسخر من الفريق الآخر ويهجوه بشكل مقذع أحياناً. الطريف في الأمر أن معظم مناصري الشاعرين سقطوا من ذاكرة التاريخ، وقليل منهم من تبقى، وكان من أبرزهم الشاعر الأخطل الذي ناصر الفرزدق ضد جرير، وكتب فيه أبشع أبيات السخرية والتهكم في سجل الشعر العربي ومنها قوله في الحط من شأن جرير:

قومٌ إذا استنبحَ الأضياف كلبَهُمُ

قالوا لأمهم بولي على النَّارِ

فتمسكُ البولَ بخلاً أن تجودَ به

وما تبولُ لهم إلا بمقدار

وتذكر أدبيات التراث أن الخليفة سليمان بن عبد الملك حاول الصلح بينما، لكن دون جدوى، حيث سأل جرير: «ما لكَ والفرزدق؟ فأجاب: إنه يظلمني، بينما قال الفرزدق: رأيت آبائي يظلمون آباءه، فسرت فيه بسيرتهم». كان الفرزدق يتباهى بأهله المباشرين من بني مجاشع ودارم في حين كان جرير يهاجم الفرزدق في عروبته ويعده هجيناً، وقد قال فيهما أحد الشعراء المعاصرين لهما:

ذهب الفرزدقُ بالفخـــار وإنمـــا ... حلو الكــــلام ومُرُّهِ لجرير

وتصادف أن اجتمع الثلاثة (الأخطل والفرزدق وجرير) في مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان، فأحضر بين يديه كيساً فيه خمسمائة دينار، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيكم غلب فله الكيس وبدأ الفرزدق... فقال:

أنا القطرانُ والشعــــراء جَربَى ... وفى القطــــرانِ للجَربَى شِفاءُ

وبعده قال الأخطل:

فـــإن تــكُ زِقَّ زاملةٍ فإني ... أنا الطاعــــونُ ليس لــــه دواءُ

وبعدهما قال جرير:

أنا المــوتُ الذي آتي عليكم ... فليس لهـــــاربٍ مني نجــــاءُ

فقال عبد الملك لجرير: خذ الكيس، فلعمري إن الموت يأتي على كل شيء.

امتدت حبال السخرية إلى الشعر في أطواره الحديثة وأصبحت فضاء للمسامرة والترويح عن النفس خاصة في مجالس الشعراء. فها هو حافظ إبراهيم شاعر النيل، يداعب رفيق دربة أمير الشعراء أحمد شوقي، بلطشات شعرية خاطفة، وهما يجلسان في شرفة بيت شوقي قائلاً له، بابتسامة مرحة ساخرة:

يقولون إن الشوقَ نارٌ ولوعةٌ ... فما بالُ شوقي اليومَ أصبح باردا

وببديهة أكثر دعابة ومرحاً يرد شوقي على صاحبه قائلاً:

وأودعتُ إنساناً وكلباً أمانةً ... فضيعها الإنسانُ والكلبُ حافظُ

وتبلغ السخرية ذروتها في مرآة المجتمع عاكسة ظروفه المضطربة وتعقيداته السياسية والاجتماعية والثقافية، فنراها صدى صرخة موجعة، تتكسر في ظلال هذه المرآة، من المجتمع والحياة يطلقها الشاعر العراقي معروف الرصافي، فيقول في مفارقة تصويرية مركبة، يكشف من خلالها فداحة واقعه المعيش:

يا قوم لا تتكلموا ... إن الكلام محرمُ

ناموا ولا تستيقظوا ... ما فاز إلا النُّوم

وتأخروا عن كل ما ... يقضي بأن تتقدموا

ودعوا التفهم جانباً ... فالخير ألا تفهموا

وتثبتوا في جهلكم ... فالشرُّ أن تتعلموا

وكان الشاعر صلاح عبد الصبور «ابن نكتة» يحب السخرية، وصفه أحد النقاد قائلاً: «كان ابن نكتة ويعشق الدعابة والسخرية في جلساته الخاصة ولو تم تسجيل قفشاته الساخرة في كتاب، لصُنِّف كأحد أهم الساخرين في مصر، حيث كان يستخدم السخرية كوسيلة لمحاربة الواقع السيئ الذي يعيشه، فكانت دائماً رؤيته وأحلامه تختلف تماماً عن الواقع الذي يعيشه، ما كان يصيبه بنوبات اكتئاب عديدة ظهرت في أشعاره، حيث طغت لمحات الحزن على شعره»... هذا الوصف تجسد على نحوٍ لافت في ديوان عبد الصبور «الناس في بلادي» حيث يقول:

الناس في بلادي جارحون كالصقور

خطاهمو تريد أن تسوخ في التراب

ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون

لكنهم بشر

وطيبون حين يملكون قبضتي نقود

ومؤمنون بالقدر

ارتبطت السخرية بقضايا الوجود والتساؤل عن ماهيته وجوهره

لا يصف صلاح عبد الصبور حياة الناس فحسب، وإنما يتوغل في دواخلهم بروح شعرية، تمتزج فيها التلقائية بالسخرية بالفانتازيا أحياناً، فتحت قشرة الوضوح يكمن العمق، وشوق الإنسان إلى الحرية، والأمل في أن يلمس ذاته بدفء وحنان. حتى ولو تشرّب هذا الأمل بنبرة من المفارقة والسخرية، وهو ما نراه مجسداً بشكل مكثف ومتعدد التأويل في قصيدته من «مذكرات الصوفي بشر الحافي»، وفيها يقول:

يا شيخي الطيّب

هل تدري في أي الأيام نعيش؟

هذا اليومُ الموبوءُ هو اليوم الثامن

من أيام الأسبوع الخامس

في الشهر الثالث عَشَرْ

الإنسان الإنسان عَبَرْ

من أعوامٍ

ومضى لم يعرفه بشرْ

فهكذا، في هذه الإطلالة على روح السخرية في شعرنا العربي، نجد أنها لم تكن فعل هدم، أو مجرد سخرية للسخرية، إنما فعل بناء، يضيف إلى القصيدة، ويفيض عنها، من دون ترهل أو افتعال، وهو فعل ابن الحياة، ابن مصادقتها ومعايشتها، لا يكف عن نشدانه الدائم للمحبة والحرية والجمال.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».