هل تعب التكرلي من الكتابة وتعبت معه شخصيات روايته؟

قراءة متأخرة في «المسرّات والأوجاع»

فؤاد التكرلي
فؤاد التكرلي
TT

هل تعب التكرلي من الكتابة وتعبت معه شخصيات روايته؟

فؤاد التكرلي
فؤاد التكرلي

لم أكن قرأت شيئا للقصاص العراقي فؤاد التكرلي (1927 - 2008)، ما ظل يؤرقني إلى أن قررت تصحيح الوضع بقراءة واحدة من رواياته المتأخرة والتي كَثُر الاحتفاء بها بين النقاد، باعتبار أن ذلك سيكون خير وسيلة لولوج عالم الكاتب. أعني روايته ذائعة الصيت «المسرات والأوجاع» (1998) التي أقامت في أرفف مكتبتي سنوات من دون أن تحين الفرصة لمطالعتها. كنت أنظر إليها ويشوقني عنوانها الجميل الواعد بمسرة القراءة ووجع المعرفة. الحقيقة أن الرواية أمتعتني في البداية، غير أن علاقتي بها ما لبثت أن تدهورت تدهوراً سريعاً. للكاتب مقدرة حكائية غير منكورة، وأسلوب حديث سلس، ومهارة في الوصف، كما أنه بارع في التجسيد الحي للشخصيات، لكنه يفسد ذلك بعجزه عن تزويد شخصياته بدوافع مقنعة للسلوك. ينقصه كذلك من المهارات التقليدية للفن الروائي القدرة على تركيز الحدث ولمّ خطوط الحبكة وتجنب الحشو وتكرار المواقف بما لا يساهم في كشف الشخصية أو الدفع بالحدث، وإنما يبقى حشوا، واسترسالاً مُخلّاً بجماليات العمل.

نحن أمام رواية تقع فيما يقارب الخمسمائة صفحة (467 بالضبط) والتي بشيء من المراجعة والتنقيح كان يمكن أن تتجنب الترهل وتتخلى عن شحومها غير الصحية بما لا يقل عن مائة صفحة دون أن يلاحظ أحد. غير أن هذا على خطورته ليس أكبر مشاكلي مع الرواية. فالحقيقة أني قاربتها بشيء كبير من الرجاء فهي رواية كبيرة لكاتب ذي مكانة كنت ألوم نفسي أني لم أتعرف إلى كتابته بعد. شرعت في قراءتها بشغف وتسليت بها منتظراً أن تأتي اللحظة التي تكشف لي فيها عن سبيلها. إلى أين هي متجهة؟ ما فلسفتها؟ ما الفكر الاجتماعي أو السياسي أو الوجودي المتخفي وراء أحداثها وشخصياتها؟ غير أني وصلت إلى منتصفها دون أن أتلقى أي إشارة بأن أياً من هذه الأسئلة ستلقى جواباً، أو أن الكاتب يعلم إلى أين هو قائدنا، بل بدا الأمر وكأنه قد أسلم قياده إلى الحدث والشخصيات تقوده كيفما اتفق إلى حيثما اتفق في غير خطة، وقد أصبح السرد غرضاً في حد ذاته، المهم ألا ينقطع الخيط ولا يتوقف السرد وتبقى المواقف تؤدي إلى مواقف شبيهة بها حتى تنتهي الرواية من فرط التعب. يتعب الروائي من الكتابة، وتتعب الشخصيات من التخبط على غير هدى بين يدي كاتب لا يعرف ماذا يصنع بها.

المدهش في الأمر أن هذه رواية مسرحها بغداد العراق في فترة تمتد من أربعينات القرن العشرين وحتى ثمانيناته. أي أنها تتزامن بلا مبالغة مع تشكل العراق الحديث وتناميه من الملكية والاحتلال إلى الجمهورية والانقلابات المتتالية وصولاً إلى البعث والفترة الصدّامية وحتى بداية الانهيار والتفكك مع بدء الحرب مع إيران في سبتمبر (أيلول) 1980، ناهيك عما كان يحدث في المنطقة العربية المحيطة بالعراق في الفترة نفسها من تحولات وزلازل وحروب وهزائم. لا أستقي هذه المعلومات من الرواية فهي تمر بهذا كله مرور الكرام أو لا تمر به إطلاقاً، وكأن العراق بلد آخر في كوكب آخر.

بينما كل هذا يحدث أو نفترض أنه يحدث فإن الرواية لا شاغل لها إلا الشبق الجنسي للشخصية الرئيسية، المحامي والموظف الحكومي توفيق لام، وللنساء اللاتي من حوله في محيط الأسرة وزوجات الأقارب والأصدقاء والمعارف. يمكننا أن نعتبر الرواية «أوديسة» البحث عن الارتواء الجنسي بأي شكل وبأي وسيلة ومع أي امرأة متاحة أو غير متاحة، وتوفيق هو «البطل الملحمي» لهذه الرحلة الأوديسيوسية بين المخادع والبارات والمقاهي والفنادق يتنقل من غلمة إلى غلمة ومن ارتواء إلى البحث عن الارتواء التالي. بطل مفلس مُسْتجدٍ محتقَر هيّن على نفسه وعلى الناس من حوله، مستغِل لكل امرأة يجد إليها منفذاً.

لا اعتراض لي على شيء من ذلك ولا حكم أخلاقي. المشكلة ألا أجد إطاراً فلسفياً أو اجتماعياً أو سياسياً أفهم فيه سلوك هذه الشخصية التي يكرس لها الكاتب مئات الصفحات. لا ينجح الكاتب في تصويره كشخصية وجودية عابثة رافضة لكل شيء. يفقد وظيفته بسبب اعتدائه على موظف الأمن في المصلحة الحكومية التي يعمل فيها. ومن تلك اللحظة يبدأ انحداره السريع، لكنه لم يكن ذا موقف أو رأي أو فكر من أي نوع قبل ذلك.

ولهذا يصعب أن نقول «يبدأ انحداره» فهو لم يكن في مرتفع أو أي موقع من أي لون قبل ذلك. فقدانه وظيفته لم يكن إلا مناسبة لمفاقمة عدميته غير المبررة والموجودة من السابق. هو حدث عابر يُنسى بعد ذلك، ولا محاولة إطلاقاً للبناء عليه بفرضية أن هذا ما يحدث للفرد في الدولة الشمولية. الحدث الوحيد في الرواية الذي يذكرنا بأنها تدور في بلد تحدث فيه أشياء خلاف المطاردات الجنسية لتوفيق هو إشعارنا في الصفحات الأخيرة بأن الحرب اندلعت بين العراق وإيران ووصف بعض القصف والغارات الجوية على بغداد. نفيق فجأة بعد أكثر من أربعمائة صفحة على الإدراك أننا نتابع رواية في بلد تقع فيه أحداث عامة من قبيل الحروب والغارات. المدهش أنه لا تصوير من أي نوع لاستجابة الشخصيات لهذه الحرب، فيما عدا الخوف من الغارات والانفجارات. ومما يتسق مع عدمية الرواية و«بطلها» أنه يستغل هلع (فتحية) خطيبة صديقه الشاب ولجوئها إليه في إحدى الغارات لكي يغتصبها إشباعاً لغلمته.

كما قلت في السابق تتداعى الأحداث في الرواية من تلقاء ذاتها بلا هدف ولا غاية وتتخبط الشخصيات على أسلوب «محلك سِرْ» فهي لا تلقى توجيهاً من مؤلفها لا يعرف ماذا يفعل بها، حتى تُقحم الحربُ في آخر لحظة في رواية أنفقت أربعمائة صفحة وكأن أشخاصها يعيشون في فراغ سياسي واجتماعي شامل. أربعمائة صفحة في تغييب كامل للعامّ. فجأة يستبد التعب بالروائي السارد، الدائر معصوب العينين في ساقية التكرار إلى ما غير نهاية. تعاني الشخصيات أيضاً من الإرهاق الشديد، خاصة توفيق الذي تركه المؤلف يجوب الشوارع جائعاً مفلساً متشرداً باحثاً عن الدفء واللقمة والفرْج إلى ما لا نهاية.

فجأة يأتي الخلاص للمؤلف وشخصياته معاً من الدوران الأبدي كالأفلاك المسيَّرة. يحدث ذلك حين يكتشف المؤلف فائدة العامّ وأنه ممكن أن يحلّ المواقف في القصّ ويغير مجرى الأحداث ميسِّراً النهايات والبدايات، تماماً مثلما يفعل في الواقع المعاش منذ بدء التاريخ. في تلك اللحظة وحيث أننا وصلنا إلى سنة 1980 يستدعي المؤلف بداية الحرب العراقية الإيرانية - هو الذي تجاهل في السرد كل ما سبق وقوعه من أحداث كبرى في العراق في الأربعين سنة السابقة. لكن الحرب الآن يمكن أن تكون مفيدة (في الرواية إن لم يكن في الواقع)، فليُقتل على الجبهة الشاب الثري، جاسم، خطيب فتحية التي حملت منه قبل أن تتوفر له عطلة لعقد القران! وليَتركْ هذا الجاسم أيضاً ثروة كبيرة للمفلس الضائع الأبدي، توفيق لام، الذي كان الشاب يُعجب به من قديم! بهذه الثروة الهابطة من السماء (أو من العامّ في حياة الخاصّ) يستطيع توفيق أن يرتفع من حياة الفقر والإملاق والتشرد. يستطيع أيضاً أن يتزوج من الشابة الجميلة فتحية فيوفر أباً لجنينها ويقيها من الفضيحة، ولكنه أيضاً يضمن إشباعاً جنسياً حتى الممات مع امرأة في نصف عمره.

هكذا تنتهي هذه الأوديسة غير البطولية بعودة البطل الدنيء منتصراً من رحلة التشرد والجوع. وهي النتيجة الإيجابية الوحيدة التي نراها للحرب التي زُجَّ بها في الرواية زجّاً لكي تيسر هذه النهاية. يا لأيادي العام على الخاص! ترى كيف كانت تكون هذه الرواية لو أن الكاتب اكتشف الصلة بين العام والخاص في وقت مبكر عن ذلك. نعلم طبعاً خطورة الكتابة عن العام وأثره في الخاص في ظل النظم الشمولية، لكن المبدعين كانوا دائماً ما يجدون الوسائل الفنية للالتفاف حول ذلك، وهو ما لم أجده في «المسرات والأوجاع». ليس حتماً أن يكون الكاتب ملتزماً سياسياً واجتماعياً. أعني أن هذا ليس شرطاً لكتابة رواية جيدة من الناحية الفنية، تماماً كما أن الالتزام كمبدأ عقيدي لا ينتج عنه بالضرورة أدب جيد. غير أني أرى أن هذه الرواية على شهرتها ومكانة كاتبها تخسر معركتها على الجبهتين. كان لدى التكرلي موهبة قص راوغته واستعصت على التطويع والتوجيه، فنتجت عنها رواية تسلية تطمح لأن تكون رواية أدبية.


مقالات ذات صلة

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.