رغم أن كتاب «فن الحياة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، ترجمة يوسف مظهر، يتناول موضوعات متنوعة مثل الحب والصداقة والزواج، فإن مؤلفه الأديب الفرنسي أندريه موروا يتوقف طويلاً عند الشيخوخة ويتناولها في المساحة الأكبر من الكتاب، وفق منظور مدهش يرتكز على تجارب مشاهير الأدباء في الغرب.
يقول موروا (1885 - 1967) الذي اشتهر بأعمال مثل «الغريمتان»، «أزهار سبتمبر»، «ورد الخريف»، إن الشيخوخة شيء غريب إلى درجة أنه يصعب علينا في أغلب الأحيان أن نصدق أنها قد تدركنا كما أدركت غيرنا. وهو ما يتجلى عندما أبدع مارسيل بروست في روايته «البحث عن الزمن المفقود»، حيث وصف ما نشعر به من فزع عندما تجمعنا المصادفة بغتة بعد ثلاثين أو أربعين عاماً بطائفة من الرجال والنساء الذين عرفناهم في المراهقة.
نظل لفترة طويلة نعتقد أننا نفلت من الشيخوخة لأن العقل يظل نشيطاً، ولأن قوانا تبدو سليمة، وقد يبدو لنا أن نختبر الأمر فنتساءل: «هل أستطيع أن أصعد هذا المنحدر بالسرعة نفسها التي كنت أصعد بها طوال أيام شبابي»؟ لافتا إلى أنه تحدث بين المراهقة والشيخوخة تحولات بطيئة لا يدركها الشخص الذي يتحول، وهذا ما يحدث حينما يعقب الخريف الصيف، وعندما يعقب الشتاء الخريف، يتم ذلك التعاقب بتحولات تدريجية لا تدركها الملاحقة اليومية، ففي ذات صباح من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) يهب إعصار فينتزع القناع الذهبي وإذا بهيكل الشتاء الهزيل يبدو منكمشاً من تحته، فأوراق الشجر التي كنا نحسب أنها ما زالت في غضاضتها كانت قد جفت ولم يكن يمسكها على أغصانها سوى بعض ألياف رفيعة فكشفت العاصفة عن الداء ولكنها لم تتسبب به. ويشبه موروا الأمراض بأنها عواصف الغابات الآدمية، يبدو لنا أن فلاناً أو فلانة ما زال في دور الشباب على الرغم من سنه فنقول: «إنها مدهشة حقا أو إنه إحدى المعجزات»، ونحن نتعجب من نشاطهما وحدة ذكائهما وعنفوان أحاديثهما. وفي صبيحة يوم ارتكبا فيه نوعاً من الإفراط لا يكلف الشاب أكثر من صداع خفيف أو زكام بسيط، إذا بهما قد اختُطفا من بيننا بعاصفة من الاحتقان أو الالتهاب الرئوي، وفي أيام قلائل تذبل القسمات ويتقوس الظهر وتخمد النظرة، لحظة واحدة تكفي كي تصنع منا شيوخاً، ذلك أننا كنا في طريق الهِرم منذ مدة طويلة دون أن نشعر أو نعرف.
وكلما اقتربت الكائنات الحية من حالة الفطرة، قست في معاملة الشيوخ، فالذئب المسن تبقى له مكانته بين الذئاب ما بقيت له القدرة على إدراك الفريسة وقتلها، أما إذا خانته قواه، فقد ضاعت هيبته. وصف الكاتب الإنجليزي روديار كبلنج في كتاب «الأدغال» كيف اهتاج الغضب صغار الذئاب، لأن ذئباً تقدمت به السن، وفقد قواه بعد أن كان يقودها إلى القتال ثم قال بعد ذلك: «والويل لهذا الذئب الهرم يوم يخطئ فريسته فإن واحداً من الشباب سوف يتقدم نحوه ويجهز عليه».
ويذكر موروا أن الشعوب البدائية تسلك المسلك نفسه حيال الشيوخ وقد وصف أحد رواد القارة الأفريقية حالة شيخ هرم ملكه الرعب فأقبل يرجوه في توسل ويقول: «هبني شيئاً من الصبغة لشعري فإنهم سيقتلونني إذا رأوا شيبي». وقد جرت عادة بعض أمم البحار الجنوبية أن يرفع أفراد الأسرة شيوخها إلى قمم شجر «جوز الهند» ثم يهزون الشجرة فإذا بقي الشيخ متشبثاً بالشجرة رغم هزها بعنف كان من حقه أن يعيش وإذا سقط كان سقوطه حكماً عليه بالإعدام على أن يتم تنفيذ الحكم في الحال.
تبدو لنا هذه الطريقة وحشية، ولكننا نحن أيضاً نحكم بها على شيوخنا، فالخطابة والتدريس والتمثيل هي اختبارات لمن يقومون بها فقد يقول الجمهور بعد سماع خطبة أو محاضرة أو مشهد تمثيلي عن الرجل السياسي أو الأستاذ أو الممثل «لقد انتهى». وفي كثير من الأحيان يكون هذا القول بمثابة حكم عليه بالموت، إما لأن الانسحاب من الميدان يتبعه البؤس وإما لأن اليأس يتبعه المرض.
ويوضح موروا قائلاً، إنه إذا استثنينا بضع كائنات استطعنا أن نقول إن الجسم الآخذ في الشيخوخة يشبه محركاً متعباً ولو أننا عنينا به وتفقدناه وأصلحناه في الوقت المناسب لاستطاع أن يعاود عمله ويؤدي لنا بعض الخدمات، لكنه لن يعود كما كان فلا ينبغي أن نطالبه بمجهودات عنيفة، إذ إنه ابتداء من سن معينة يصبح العمل أشق والشغل اليدوي أحياناً مستحيلاً. ومن الفنانين من يبقى إلى النهاية مسيطراً على مواهبه، فقد كتب فولتير رائعته «كانديد» وهو في الخامسة والستين من العمر ونظم فيكتور هوغو في شيخوخته شعراً في غاية الإبداع وأكمل يوهان غوته الجزء الثاني من «فاوست»، وأتم فاجنر «بارسيفال» في التاسعة والستين، بينما أنجز بول كلوديل في الحادية والسبعين كتابه «إعلان البشرى لمريم» الذي وضع بذرته في سن الخامسة والعشرين.
