علاقة البنت بوالدها، وكل ما يحيط بها من إشكالات ومشاعر الحنين والحنان، تطرحها فرح قاسم في فيلمها «نحن في الداخل». تستهل أول مشاهد الفيلم بالشعر ليشكّل العنوان العريض لشريط وثائقي غني بالعاطفة. وبفضل الشعر والسياسة والانتقادات المتبادلة بين جيلين، يدرك المشاهد بعمق أهمية الأب في حياتنا. فهو يبقى البطل في عيني ابنته حتى الرمق الأخير. وطوال حياتها تحاول تغييره، مع أنها نسخة طبق الأصل عنه، تناقشه وتجادله، وكذلك تعيش معه أجمل اللحظات. لكن في خريف العمر تنتبه إلى أن أوراقه باتت معدودة، فتلملمها بتأنٍّ وتوثّقها بكاميرا واقعية لتقول له كلمة وداع على طريقتها.
يستغرق العمل نحو 3 ساعات، يدخل في صميم تفاصيل حياة تدور بين الأب والابنة، فينسى المشاهد وطأة الوقت وهو مستمتع بمتابعة حياة تشبهه.
ومؤخراً فتحت سينما «متروبوليس» أبوابها لاستضافة عروض الفيلم، الذي حصد نحو 19 جائزة عربية وأجنبية، من بينها «نجمة الجونة الذهبية» و(«نتباك آوورد» NETPAC Award) بوصفه أفضل فيلم سينمائي آسيوي.
يطلّ الفيلم على طرابلس وشمال لبنان، حيث تسكن فرح مع والدها في منطقة المنية. ندخل شوارعها وأزقتها، نتعرّف إلى أهلها الطيبين، ونتوقف عند دكاكينها وحوانيتها وعماراتها الحديثة والقديمة. ومع الوالد مصطفى قاسم (أبو أحمد) نذهب في مشاوير دافئة عبر توجيهاته دليلاً سياحياً، فيشير إلى ابنته من أين تذهب، وكيف عليها أن تسلك هذه الوجهة بدلًا من أخرى.
وعندما نسمع قرمشة «ساندويتش الفلافل» الذي يأكله بشهية، وكأنها القضمة الأخيرة في حياته، يدرك المشاهد ماذا يعني الاعتناء بالأب وتقبّل ملاحظاته. فهو يصبح بمثابة أثر كما يذكر أبو أحمد في الفيلم. والآثار لا بدّ من احترامها.

وإلى جانب قصائد شعر رائعة يتلوها والد فرح من تأليفه، تجذبك حوارات عفوية بينه وبينها. وعندما تسأله عن الفراق الذي يحرق قلبها حين تفكّر فيه، يردّ الأب: «إنها حال الدنيا، لا شيء فيها يبقى إلى الأبد. ووطأة الفراق لا يكسرها سوى الذكريات».
تصوّر فرح بصورة غير مباشرة والدها بعين مليئة بالإحساس المرهف. وهذه المشاعر تنقلها إلى المشاهد، فيتبنّى فكرة أن «أبو أحمد» هو والده أيضاً، فينهل من كلامه العبر والنصائح. وعندما يتحدث في السياسة، لا سيّما أن الثورة تشكّل جزءاً كبيراً من أحداث الفيلم، ترنّ في أذنك عبارته: «إن التاريخ الحديث للبنان يُصنع الآن». يقولها بقناعة، وعندما تشكّ ابنته بكلامه يردّ عليها بعصبية: «أنا أكبر منك ومرّ عليّ الكثير، وعليك أن تصدقي من هم أكبر منك».
تحمل فرح كاميرتها معها حيثما تحرّكت مع أبيها، فتكون بمثابة ظلّه. تصوّره جالساً وحده، وعند الطبيب، وبين أصدقائه. ومن زوايا مختلفة تحرّك عدسة كاميرتها لتكون مرآة لأفكارها؛ تلوّح له من بعيد، تجلس بقربه توضّب له أدويته. فتغدو الكاميرا بطلة من أبطال الفيلم، ينتظر المشاهد حركتها ليتوقّع التكملة أو المشهد المنتظر.

تعرّج فرح على موضوعات مختلفة، جميعها تخوضها مع والدها، فتُبرز ثقافته ومستواه العلمي، كما تُظهر التقاليد والعادات التي تربّى عليها. وفي شريط ذكرياته عن منطقة المنية، يعيدنا إلى سينما «سكوب» ويسرد أسماء أفلام ما زالت عالقة في ذاكرته. فهو أب تحلم كل فتاة أن تحظى بمثله لأنه يشعرها بالأمان. وعندما تستفزّه بأفكارها الحديثة يردّ عليها: «ما عشته من سنوات يُوازي عمرك أضعافاً. اتركيني أصل النهاية بهدوء».
«نحن في الداخل» يمكن اعتباره تكريماً للأب عامة ولمصطفى قاسم خاصة. يصوّر خطوات رحلة حياة تستحق التقدير، ويتوقف عند الدور الأساسي لصاحبها في بناء شخصية الأبناء.
يتناول الفيلم محطات من تاريخ طرابلس الحديث، ويتوقف عند أحداث سياسية متعاقبة، ليشكّل بحبكته صورة يومية لحياة مواطنَين لبنانيَّين يراقبان مصيرهما المجهول، رغم اختلاف الأجيال التي تفصل بينهما. وفي خاتمته، تعود فرح إلى المربية السريلانكية التي عاشت في بيت والديها لأكثر من ربع قرن، لتسترجع معها ذكريات العائلة. فهي أيضاً تنتمي إلى دائرة «الداخل الأعمق».
تسدل فرح ستارة الفيلم على رحيل والدها، لكنها تصنع ملحقاً له من خلال وحدتها وذكرياتها معه. ويبقى شعر والدها بمثابة روحه التي ترفرف حولها، لتكتشف في النهاية أنها نسخة عنه. وتستخدم صورة جانبية تلتقطها لنفسها أمام صورة فوتوغرافية لوالدها للإشارة إلى ذلك، فتكون نقطة بداية من نهاية متوقعة.

