آثار هاربة... من الأرض إلى الذاكرة

عن معرض «غزة» بمعهد العالم العربي في باريس

آثار هاربة... من الأرض إلى الذاكرة
TT

آثار هاربة... من الأرض إلى الذاكرة

آثار هاربة... من الأرض إلى الذاكرة

لوحات فسيفساء بيزنطية تُطل منها هيئات وحش بري بملامح ناقصة، وجرار مدببة القعر بأحجام متفاوتة، حفظ فيها الفلاحون قبل آلاف السنين نبيذهم وزيتهم، وقناديل نحاسية بنقوش دقيقة، وصحون وأقداح خزفية، بعضها سليم وبعضها مرمم تنقصه شظايا ضائعة، وتماثيل رخامية، وصور فوتوغرافية لمواقع أثرية، وأحياء وساحات ومساجد... 132 قطعة معروضة بمعهد العالم العربي في باريس منذ 3 أبريل (نيسان) الماضي، ضمن معرض مؤقت سيستمر حتى 2 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل 2025، وكأنه صيغة أخرى للإحساس بالمأساة الفلسطينية، بعد معارض متعددة احتضنها المعهد بشكل منتظم في السنوات الماضية، لعل آخرها ذلك الذي حمل عنوان «ما تقدمه فلسطين إلى العالم»، صيف 2023، وقد اختتم بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) بأسابيع قليلة.

يحتوي المعرض الراهن على لقى أثرية أُنقذت من غزة عبر مشروع تنقيب وصيانة حمل وسم «انتقال»، جمع بين وزارة السياحة والآثار الفلسطينية والمدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس (EBAF)، الذي حظي بدعم منظمة اليونسكو ومتحف اللوفر وأطراف أخرى، أضيفت إلى تلك اللقى مجموعة رجل الأعمال الفلسطيني «جودت خضري» الخاصة، التي تم التبرع بها للسلطة الوطنية الفلسطينية. وشكّلت مجموع الأعمال اللبنة الأساس لما كان مفترضاً أن يكون عليه متحف غزة الأثري، بيد أن ظروف الحرب جعلتها تبقى في جنيف التي وصلتها سنة 2006، قبل أن تتحول باريس إلى مرفئ مؤقت بعد التدمير الإسرائيلي الممنهج للقطاع.

من المؤكد أن توقيت العرض كان حاسماً، بعد مشاهد الإبادة الجماعية ومحو العمران، والمجاعة الكبرى، ليس في لفت الانتباه للحضارات المتوالية على قطاع غزة على امتداد 5 آلاف سنة، منذ العصر البرونزي والحضارات الكنعانية والفرعونية والآشورية والبابلية والفارسية والهلنستية والبيزنطية والإسلامية، ولكن أيضاً لتقديم السردية المقابلة لما تقدمه الرواية الإسرائيلية – التوراتية، لذا قد لا تكون مفاجئة تلك الصفوف من الزوار التي تنتظر اقتناء التذاكر في عز شهر أغسطس (آب)، من الفرنسيين وبعض العرب، فالعنوان المقترح «كنوز أنقدت من غزة: خمسة آلاف سنة من التاريخ» يخترق الخراب والمحو المعممين، وكأنّ الأمر يتعلق بحصيلة عملية إنقاذ نوعية لتلك الآثار تم تنظيمها خلال الحرب الممتدة منذ سنتين على القطاع، والحال أن القدر وحده جعل تلك الآثار الزائرة لأوروبا تتأخر في الوصول إلى مرتعها، فيكتب لها البقاء.

ولعل هذا الإنقاذ، عبر الاستضافة، للوحات الفسيفساء والأواني والمنحوتات القديمة لم يكن مجرد تحصين للأغراض المادية التاريخية من التلف، وإنما بالأساس كان صوناً لدلالاتها الرمزية والتاريخية والسياسية، إذ لا يتعلق الأمر بحسب أطروحة المعرض بقطاع عمره يمتد إلى عام 1949، ومساحة تبلغ ما يناهز 365 كيلومتراً فحسب، وإنما بواحة عمّرت لآلاف السنين وأنتجت كياناً تميز «منذ البداية بانعزاله وكثافته القصوى سكانيّاً وعمرانيّاً... لقد جرفت الأحداث المأساوية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وصولاً إلى الحرب الحالية تاريخ هذه الواحة العريقة، مكان العبور والاتصال المفتوح على العالم. وبالفعل، من بتذكر أن غزة التي ولدت من التقاء الرمال والبحر تمتعت بماضٍ مرموق من دون انقطاع منذ العصر البرونزي؟» (كاتالوغ المعرض، ص 2).

يمكن القول إن السؤال الأخير لم يكن هو محرك المعرض، بيد أن التكوين البصري المقدم للمشاهد والزائر بات يتضمن إجابات عنه، أي أنه يقدم للعالم مساراً جغرافيّاً كباقي المسارات، لكنه انتهى إلى مصير مخالف للغالب الأعم من المآلات. في موضع من كتاب «ذكريات من القدس» ترد عبارة لسيرين الحسيني شهيد، في الصفحة الأولى، تختصر بعض دلالات المعرض، تقول فيها: «لا شيء كان يميزنا عن بقية سكان هذه المعمورة، لكن مصيرنا لم يكن مثل مصيرهم» (ص 9)، ذلك ما ينطبق أيضاً على غزة وعلى باقي المدن الفلسطينية تحت الاحتلال، التي تتحول فيها الآثار القديمة والصور الفوتوغرافية للعمائر الممحوة، والعائلات المهجرة أو المبادة، من علامات في مسار تاريخي طبعته الأحداث الراديكالية، إلى شهادة على انزياح استثنائي لواحة ورخاء نحو العدم. آثار ستدوم ظلالها أمداً طويلاً وتسهم في تعديل نظرة العالم.

تسمح الآثار المقدمة لزوار معهد العالم العربي في باريس، من الغرباء عن القضية، المصعوقين بأصداء المجاعة والخراب في المستطيل الضيق ضمن خريطة الشرق الأوسط الموسوم بـ«غزة»، بأن تصل الدوال بدلالاتها، خارج تضارب المرويات بين المستعمر والرازح تحت الاحتلال، ومن ثم التقاط ملامح هوية إنسانية تنتمي لذلك الفضاء، لها امتدادات في الزمن والتسميات والاستعمالات والتجمعات السكنية؛ من ميناء أنطون القديم، إلى الفسيفساء البيزنطية في مركز «مخيطيم» (جباليا)، مروراً بدير القديس هيلاريون (نصيرات)، وغيرها من أحياز الشريط الضيق على تخوم الصحراء في مواجهة البحر، الذي جعل «غزة» ما كانت عليه قبل قرون، رهاناً رئيسيّاً في التنافس بين قوى وادي النيل وقوى بلاد الرافدين، وميناء متوسطياً، يمثل نقطة التقاء طرق القوافل القادمة من أفريقيا والجزيرة العربية والهند، ما جعل منها «أكبر مدينة في سوريا القديمة» مثلما وصفها إسترابون، استثارت مطامع المصريين والآشوريين والبابليين والفرس واليونانيين والرومان والمماليك والعثمانيين... قبل أن تنتهي إلى الحصار والتدمير المنهج من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي.

في الصور الفوتوغرافية التي ترافق المعروضات الأثرية، وهي صور لم تنشر من قبل، تعود لمجموعة المقتنيات الخاصة بالمدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس (EBAF)، نكتشف عمائر لم يعد لها وجود في الغالب الأعم، أسواراً تاريخية وبوابات، مساجد ودوراً سكنية وساحات، ومناظر طبيعية، بعضها بقيت آثاره، وأخرى اندثرت. وتحكي النصوص المرافقة عن دمار مبكر في السنوات الأولى من القرن الماضي، حيث تسبب القصف البريطاني سنة 1917 في فقدان غزة كثيراً من تراثها المعماري، وأعقب وصول اللاجئين عام 1947 وقيام دولة إسرائيل تدفق أعداد كبيرة أخرى بعد النكبة، فانضم ما يقارب 200 ألف إلى سكان هذا الشريط الساحلي، الذي بدأ في فقدان ملامحه العمرانية من جراء الحروب منذ ذلك الوقت. والشيء الأكيد أن وجود تلك الصور يملأ ثغرات السردية التاريخية للآثار البرونزية والحديدية والخزفية، المقدمة لإعادة رسم ملامح الواحة التي امتلكت على امتداد آلاف السنين مقومات وجودها وازدهارها، وأسس هويتها المتوسطية والعربية ما بين سوريا الكبرى ومصر.

تتوقف النصوص المرافقة للنسق البصري المقدم للجمهور، عند اللحظات التاريخية العديدة التي تعرضت فيها غزة للتدمير منذ ما قبل الميلاد، حين احتلت مملكة «الحشمونيين» اليهودية غزة وخربتها، وما تلا غزوها من قبل الإسكندر المقدوني من أعمال النهب والمجازر، مروراً بالحروب الصليبية واحتلالها ما بين 1149 و1187، حتى الاحتلال البريطاني وقصفها سنوات الحرب العالمية الأولى. ويبدو منذ عنوان المعرض الذي لم يخلُ من إثارة «كنوز أنقذت من غزة»، أن القصة في مجملها مهددة بالزوال مثلما أزيلت المدن والمخيمات في الواقع، وأن الصدفة قد لا تتكفل دوماً ببقاء الآثار الهاربة من الأرض إلى المتحف، وبتعبير مرير ورد ضمن أحد النصوص المرافقة للصور والقطع الأثرية: «ثمة خطر كبير يهدد ثراء هذه الواحة... وتصورات مجنونة حول مستقبلها ستمحو لو تحققت خمسة آلاف سنة من وجودها، لذا فإن تاريخها بحاجة لأن يعرف اليوم أكثر من أي وقت مضى» (ص 2).


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».