يضخّ المخرج اللبناني شريف ترحيني في كليباته المصوّرة نفحة فنية تنبض بروحه الإبداعية. فلديه قناعة تامة بأن من يريد الإبداع فعليه التواصل مع روحه وأحاسيسه. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «علينا أن نعطي الفن أكثر فأكثر من شغفنا وحبنا. وهو متصّل مباشرة بروحنا ومفهومنا للعطاء. فإذا وجد الفن من دون هذا التواصل يغيب عنه الإبداع المطلوب. فالفن هو خبرة وليس خلطة».
في كل مرة ينفّذ فيها ترحيني عملاً مصوراً يفاجئك بمدى غوصه بحكاية الفنان بطل الأغنية. فكاميرته تحلّق بدل أن تتحرّك بشكل عادي. وتفاصيل لوحاته تأخذ العين إلى رحلات عبر شخصية الفنان، وكأنه يقرأ مشاعر هذا الأخير، فيترجمها في قالب إبداعي بحيث إن الفنان نفسه يصعب عليه التعرف إلى نفسه.

ويعلّق لـ«الشرق الأوسط»: «برأيي الكليب الغنائي هو بمثابة علاج بحد ذاته. وجلساته بالنسبة لي أمارسها على الفنان قبل وبعد عملية التصوير. البداية تكون المرحلة الأصعب. فهناك من يخاف من الفكرة ومن يتردد في القيام بها. ولكن عندما أتمكن من إحراز هذا التواصل الروحي بيني وبينه تسهل الأمور. وعندما يخرج الغناء من أعماقه أدرك أن جلسة العلاج نجحت. فلو أن الفنان لم يشعر بالراحة معي لما استطاع أن يبرع في تمثيل الفكرة. وهو ما حصل مع الفنان وائل كفوري».
وقّع ترحيني تصوير أغنيتي كفوري الجديدتين «بدّي غيّر فيك العالم» و«تك تك». وفي العملين طبع ترحيني وائل بملامح وصورة تختلف تماماً عما سبقها في أعماله المصوّرة. فكسر أي حواجز بينه وبين مشاهده. وشعر هذا الأخير لأول مرة بأن وائل إنسان عادي يشبهه في التعبير عن مشاعره، وكذلك في يومياته.

ويوضح ترحيني: «تكمن قوة أي مخرج بقدرته على تفسير فكرته للفنان. وبالتالي على التعاطي الإيجابي من قبل المغني. فبعض الفنانين يرفضون الامتثال لرأي المخرج، فيتصرّفون وكأنهم المخرج بحد ذاته. ولذلك يختارون عادة مخرجين يكونون مجرّد أداة يحرّكونها فقط. ووائل كفوري وثق بقدراتي وتبادلنا هذا التواصل الروحي بيننا. وهو ما أسفر عن نتيجة رائعة».
يعدّ ترحيني الكليب بمثابة فيلم سينمائي قصير، يمكن أن يحمل أحياناً طابعاً ترويجياً. ولكنه أيضاً في إمكانه أن يدعم الفن ويطلق أسلوباً إبداعياً مختلفاً.
وعن الساحة الفنية اليوم يقول: «لست راضياً عنها، لأن الفن صار متصلاً اتصالاً مباشراً بـ(السوشيال ميديا). وما عدنا نرى الأصالة كما في الماضي. فزمن نادين لبكي والراحل يحيى سعادة غاب. لم يكن يومها الفن يقدّر بعدد الـ(لايكات) ونسبة المشاهدة». ويتابع: «أنا شخصياً لا تهمّني هذه الأمور. تفكيري يتمحور أكثر حول حاجات المجتمع. فأحاكيه من خلال كليبات تعكس قصصه الحقيقية. كل شيء تبدّل وصار (دمرني لأدمّرك) هو شعار التواصل بين الناس».

لا ينكر ترحيني أن جمهوراً واسعاً يلحق بفن التفاهة اليوم. ولكن في المقابل لا يجب أن نستسلم أمامه، فنتأخّر عن تقديم الأفضل. «الساحة واسعة وتتّسع للجميع. ولكن لا بأس في أن نترك مساحة للارتقاء».
يرى ترحيني أن أغنية الفنان وائل كفوري الأخيرة «بدّي غيّر فيك العالم» جذبته منذ اللحظة الأولى. «منذ أن سمعتها شعرت بأنها مليئة بالفن والإحساس. لقد مضى زمن طويل لم نسمع هذا النوع من الأغاني». ويصف وائل بالفنان بكل ما للكلمة من معنى. وأنه لم يتوقّع أن تكون شخصيته جميلة بهذا الشكل.
ولكنك تجرّأت وقدمته في قالب مختلف تماماً لم يسبق أن رأيناه فيه لا سيما في أغنية «تك تك»؟... يردّ: «لقد أعجب بالفكرة وهو ما دفعه لتقديمها كما هي. والأهم هو أنه خلال تصويرها لحق بمشاعره. والأسماء الكبيرة من الفنانين تعرف سلفاً ماذا تريد».
اجتهد ترحيني للوصول إلى ما هو عليه اليوم. فبدأ كأي عامل عادي في فريق مخرجين كبار. «كنت أحمل الضوء، وأشارك في صنع الديكورات. وأختار أزياء الفنانين. كل ذلك زوّدني بخبرة كبيرة. وبعدها بنيت لمساحة خاصة بي وانطلقت. لا أقوم بتنفيذ الكثير من الكليبات. أنتقي ما أريد. وأفضّل تلك الخاصة بالجيل الصاعد والفنانين الجدد على الساحة. هذا الأمر نابع عن قرار شخصي لأن هؤلاء يحتاجون إلى الدعم. وإذا ما اقتنعت بأغنية لأحدهم أنفذّها من دون تردد».
يقول إنه من المستحيل على المخرج الحقيقي عدم امتلاك علاقة وطيدة مع الفنان الذي يصوّر له أغنيته. فالتواصل بينهما يغذّي هذه العلاقة وينجحها.
وعن الفنان الذي يلمس تطوراً عنده اليوم، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «ليس هناك من تطور ملحوظ يلفتني. ولكن هناك من لا يزال يحافظ على موقعه مع إجراء بعض التجديد كنجوى كرم وإليسا وهيفاء وهبي. أصالة لديها أغنيات حلوة، ولكنها لا تلفتني كونها فنانة. وائل كفوري تطور أخيراً بشكل ملحوظ. وبرز ذلك من خلال كليباته معي. أما نوال الزغبي فهي عالقة في زمن آخر. وبالنسبة لنانسي عجرم فأراها تراجعت في ألبومها الأخير (نانسي 11). كنت أتوقع منها الأفضل وخيارات سليمة لأنها دقيقة في عملها. ولكن عملها الجديد لم يشكّل أي إضافة لها».
وعما يعنيه في وصفه بعض الفنانين عالقين في زمن آخر يوضح: «أقصد بأنهم لا يقبلون التطوّر، فيعلقون في نمطية فنية معينة. ميريام فارس مثلاً مؤدية ممتازة على موقع تصوير الكليب. ولديها طاقة رهيبة ولا تستخف بعملها أبداً. ولكن وقف بها الزمن في مكان ما، رغم تمتعها بقوة العطاء».
«أنتقي ما أريد تنفيذه من أعمال وأُفضّل تلك الخاصة بالجيل الصاعد والفنانين الجدد على الساحة»
شريف ترحيني
يبدي ترحيني إعجابه بصناعة الكليبات الغنائية اليوم. ويعلّق: «في الماضي شهدت هذه الصناعة تراجعاً ملحوظاً لأنهم صرفوا عليها أكثر مما تستأهل. فكانت انطلاقة لولادة عصر التفاهة. اليوم تطورت مشهدية الكليبات وأتوقع لها مستقبلاً مضيئاً. وقد دخلها العنصر النسائي فزاد من تألّقها. فاليوم هناك مديرة إضاءة مثلاً وهذا أمر رائع. وهو اختلاف كان مطلوباً».
ولكن إلى أين يريد ترحيني الوصول وما هو هدفه؟ «لا زلت أبحث عن المكان الذي أرغب في الوصول إليه. استقراري في برلين بدّل في وجهات نظري ورؤيتي الفنية. هناك شاهدت قصص حياة علّمتني الكثير. قد أتوجه نحو الـ(دوكو فيكشن)، فهذا النوع من الوثائقي يجذبني. وأحب العنصر غير المتوقّع في العمل. وفي المقابل أكره النهايات السعيدة. أحب عند مشاهدتي كليباً ما أن يحرّك تفكيري. فالتغيير مطلوب بالفن الذي نقدمه. لا أريد أن أمرّ في الحياة مرور الكرام. وأرغب في ترك أثر ورائي يفيد غيري. الكون واسع والأهم هو تبادل الثقافات فيه. وهو ما يشكّل رسالتي الأساسية في الحياة».









