«الشكر» (La Grazia) هو فيلم افتتاح «مهرجان فينيسيا» في دورته الـ82 مساء الأربعاء الماضي.
وهو أيضاً فيلم جديد للمخرج الإيطالي باولو سورنتينو، الذي يعرضه على الشاشة نفسها التي قدّم عليها معظم أفلامه الأخيرة مثل «الجمال العظيم» (The Great Beauty) عام 2013. وأنجز بعده «شباب» (Youth) سنة 2015، ومن ثم «يد الله» (The Hand of God) عام 2021.
نجاح أفلامه في إطار المهرجان الإيطالي أتاح له فرصة إنجاز أفلامه كما يريد، لا كما يتمنّى سواه. لم يحاول التنازل لإرضاء أحد. وخلال الاحتفاء به في «مهرجان ساراييفو» قبل أيام، ذكر أنه يكره أن يضع أهدافاً أو يحدّد أزمنة. لا يودّ أن يسجن نفسه في أهداف محدّدة: «أبقى في منزلي من دون أن أفعل شيئاً، ثم فجأة تردني فكرة تثيرني فأنجزها».

الماضي كما لو كان حاضراً
برز سورنتينو بوصفه واحداً من أبرز الموهوبين في هذا القرن منذ أن قدّم فيلمه «الجمال العظيم». وعلى خلاف بعض مخرجي جيله المعاصرين، مثل اليوناني يورغوس لانثيموس، صاحب «قتل غزال مقدّس»، لا يبحث سورنتينو عن الصدمة أو الإثارة المباغتة، بل يركّز على جماليات الصورة وتوازنها البصري. لذلك تميل أفلامه إلى معالجات هادئة، وتأطير مدروس للمشاهد، وتفادي طرح الأفكار ضمن متاهات.
مثل كثيرين، يعيش سورنتينو الحاضر عبر شخصيات وأحداث اليوم، لكنّه يتسلّل من خلالها إلى الأمس بحنان. هذا يفسّر تقارب أعماله من معالجات الراحل فيديريكو فيلليني في بعض أفلامه. كلاهما يتناول الفيلم من زاوية مقارنة مع الأمس. وعلى ذلك، لا ننسى أن العديد من أفلام العملاق فيلليني دارت في الأمس البعيد «ساتيريكون» أو القريب، و«أماركورد»، وحوت عنصري الاحتفاء والنقد معاً.
سورنتينو يُلقي تحيّة على أمس إيطاليا وأفلامها الأهم عبر شخصياته وأسلوب كتابته وإدارته للممثلين أثناء التصوير. ومن يشاهد أساليب مخرجي إيطاليا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (أعمال مايكل أنجلو أنطونيوني، ولوكينو فيسكونتي، وماريو مونيشيلي وسواهم) يدرك موقعه بينهم واختياره الارتباط بطريقتهم في صناعة الأفلام على النحو الكلاسيكي الذي ميّز أعمالهم.

مرثاة شباب مضى
يظهر هذا الانتماء في فيلمه «الجمال العظيم». قبله كان حقق فيلماً في الولايات المتحدة لحساب شبكة «HBO»، لكنه إذ عاد إلى إيطاليا قرّر شقّ طريقه محلياً. في «الجمال العظيم» تدور الفكرة حول الصحافي اللامع (يؤديه توني سيرفيللو) الذي لا يزال يسعى، وقد تجاوز الستين من العمر، إلى العيش برخاء قريباً من أثرياء روما وأجوائهم. يقيم الحفلات ويوزّع الابتسامات، لكن قلبه يضمر حنيناً للأمس. هذا الحنين يتجلّى في مشاهد الفلاشباك قبل أن يقرّر الاكتفاء من حياة البذخ.
الفكرة ليست بعيدة عن فيلم فيلليني «لا دولتشي فيتا» (1960) الذي لعب بطولته مارشيللو ماستروياني. فيلليني صوّر المجتمع بنظرة ساخرة، وسورنتينو يطرحه بنظرة ناقدة. لكن الفيلمين يلتقيان، إلى جانب تشابه الفكرة العامة، في أنّ بطليهما يحلمان بالماضي وحده.
في «شباب» (2015) هناك ذلك المشهد الذي تنصح فيه ممرضة مايكل كَين بالالتزام بتعليمات الطبيب إن أراد استعادة شبابه. فيجيبها: «في مثل عمري، العودة إلى الشباب هي إضاعة وقت كامل».
عبارة حاسمة وضعها المخرج في غمار فيلمه الممتاز، الذي يدور حول رجلين (كَيْن وهارفي كايتل) يمضيان عطلة في فندق سويسري عند جبال الألب. كَين هو موسيقي يرفض العودة إلى العمل رغم طلب الملكة، وكايتل كاتب سيناريو يريد المضي إلى الأمام وتأليف عمل جديد قد يكون الأهم في مسيرته. هناك شخصيات أخرى، بينها ابنة الموسيقي وممثل شاب يطلب النصيحة، لكن الفيلم مخصّص لمنح بطليه المساحة الكافية للتعبير عن حالهما اليوم مقارنةً بما كانا عليه سابقاً.
سيرة حياة
في مشهد ذي دلالات مهمّة، يتمثّل جمال الشباب الفائت بالنسبة إليهما في فتاة حسناء عارية تمرّ أمامهما عند مسبح الفندق. ينظران إليها باهتمام، ويتحسّران في صمت.
بعد هذين الفيلمين أنجز سورنتينو فيلماً من جزأين هو«Loro» عن حياة وسياسة رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني. من ثَم جمعهما في فيلم واحد لإتاحة عروضه عالمياً، لكن الفيلم لم يبلغ المدى المرجوّ، واكتفى بالمشاركة في «مهرجان بوسان» بكوريا الجنوبية عام 2018.
في «يد الله» (2021) يعود سورنتينو إلى الماضي في زيارة مزدوجة: فيلم عن الحياة في نابولي، حيث وُلد المخرج، وسيرة ذاتية عبر تصوير حياة شاب في منتصف الثمانينات. ليست هناك حاجة لفابييتو (فيليبو سكوتي) أن ينظر إلى الأمس، لأنه بالنسبة إلى سورنتينو يعيشه فعلاً. فالشاب ليس سوى صورة عن المخرج نفسه، يريد الإفصاح عن حياته في تلك الفترة وكيف هام حبّاً بالسينما، وهو في السابعة عشرة من عمره. اهتمامه الآخر كان كرة القدم، في الوقت الذي وصل فيه دييغو مارادونا إلى ملاعب نابولي ليقود الفريق إلى البطولات.
الفيلم رومانسي لكنه بعيد عن السذاجة أو التعاطفية السطحية مع شخصياته ومع الحياة التي يستعرضها. لا يذهب إلى تحليل المدينة (كما فعل ألفونسو كوارون في «روما» الفائز بذهبية «فينيسيا» عام 2018)، بل يعالج حياة بطله وعائلته كرحلة شخصية.
نظرة متعمّقة إلى أفلام سورنتينو تمنحنا صورة مخرج يستنشق رحيق الأمس كلما حقق فيلماً جديداً.






