عاد المخرج التونسي مهدي هميلي إلى شاشة مهرجان «لوكارنو السينمائي الدولي» بسويسرا، في دورته الثامنة والسبعين، بفيلمه الجديد «اغتراب»، بعد أن سبق له المشاركة في المسابقة الرسمية للدورة الـ74 بفيلمه الروائي الطويل الأول «أطياف».
يقول هميلي لـ«الشرق الأوسط» إن فكرة الفيلم كانت تراوده منذ زمن، تحديداً مع تركيزه على عالم العمال في المصانع، وما يحمله من تناقضات بين الصخب الخارجي والوحدة الداخلية، موضحاً أنه لم يكن يخطط لإنجاز «اغتراب» في هذا التوقيت، إذ كان يعمل على مشروع مختلف، لكن الفكرة القديمة ظلت تراوده حتى قرر التخلي عن خطته والدخول في مغامرة إنتاجية وفنية رغم محدودية الإمكانات، ولرغبته في التعبير عن حالة الاغتراب التي قد يعيشها الفرد وسط بيئة مهنية صلبة، مع إحساس دائم بأن مكانه الحقيقي في موقع آخر.
تدور أحداث «اغتراب» في تونس، حيث يلقى عامل مصرعه إثر حادث مأساوي داخل مصنع صلب، بينما زميله محمد، الذي يشهد المأساة، يدخل في رحلة للبحث عن الحقيقة والعدالة، غير أن الحادث يترك أثراً مادياً وجسدياً مباشراً عليه، مع استقرار قطعة من المعدن في رأسه وتبدأ بالصدأ تدريجياً، وهو من تأليف وإخراج مهدي هميلي وبطولة غانم زرلي، ومرام بن عزيزة، وسليم بكار، ومحمد قلصي، ويونس فارحي، ومراد غرسلي.

يوضح هميلي أن «اغتراب» خرج بميزانية محدودة لا تقارن بفيلمه السابق «أطياف» الذي كلّف ثلاثة أضعاف من الناحية المالية، ومع ذلك، يشعر بأن الجهد الذي بذله في الفيلم الجديد كان أكبر، لأن ظروف التصوير فرضت عليه العمل في مواقع حقيقية قاسية، منها مصانع الحديد النشطة، وسط أصوات الآلات، ورائحة المعدن، وحرارة الأفران، مشيراً إلى أن هذه المغامرة الإنسانية والفنية أوجدت ديناميكية خاصة بين أفراد الفريق، الذين تعاملوا مع الصعوبات بوصفها محفزاً على الإبداع.
اختار هميلي أن يعمل على أساس فكرة ومعالجة فقط، من دون الالتزام بسيناريو محكم الحوارات منذ البداية، مستفيداً من تجربة «أطياف» التي بيّنت له أن الحفظ المسبق للحوار قد يقتل التلقائية في الأداء، لذلك، اكتفى بمناقشات مع الممثلين عن الأجواء والمشاهد قبل التصوير، تاركاً مساحة للارتجال واللحظة الحاضرة.
وأشار إلى أن تصوير فيلم بميزانية محدودة في مواقع حقيقية ينطوي على تحديات كبيرة، خصوصاً في مصانع نشطة حيث لا يمكن تعطيل العمل القائم، واحتاج الأمر إلى ترتيبات معقدة للحفاظ على سلامة الممثلين، إلى جانب التعامل مع لوجيستيات الإضاءة والصوت في بيئة مليئة بالضجيج والخطر. كما تضمن الفيلم مشاهد معقدة، منها إطلاق نار.
ورغم أن الفيلم صور بميزانية محدودة، فإن التكلفة الكبرى، حسب حديث المخرج التونسي، تركزت على مرحلة ما بعد الإنتاج، التي حصل فيها على دعم من جهات عدة من بينها مؤسسة «البحر الأحمر» الذي يشير لدور تمويلها في توفير الوقت الكافي لتصميم الصوت والموسيقى، وتطوير الصورة بما يتناسب مع طبيعة الفيلم.
وقد ساعده هذا التعاون على الوصول إلى النتيجة البصرية والسمعية التي تخدم رؤيته، مشيراً إلى أن «الدعم لم يكن مقتصراً على الأموال ولكن على فهم ما يتطلبه الفيلم لتنفيذ رؤيته، الأمر الذي استغرق وقتاً أطول من المعتاد».

يعتبر هميلي أن عرض فيلم له في مهرجان «لوكارنو» للمرة الثانية مصدر فخر، لكنه يرفض حصر عمله في «سينما المهرجانات»، مؤكداً أنه لا يفكر كثيراً في مكان عرض الفيلم أثناء صناعته، بل يركز على الصدق مع نفسه ومع القصة التي يرويها، رغم قناعته بأن المهرجانات تمنح الأفلام فرصة للوصول إلى جمهور أوسع ومساحة للنقاد لرؤيتها، لكنها ليست الهدف في حد ذاتها.
رؤية يراها تستند إلى رفض حصر الإبداع في قوالب مسبقة ترضي الموزعين أو تتماشى مع أذواق المنصات، معتبراً أن الحرية الحقيقية للمخرج تكمن في أن يصنع الفيلم الذي يريده، ثم يترك الطريق سواء بالمشاركة في المهرجانات أو عرضه بالصالات أو حتى عبر المنصات.
يصف هميلي «اغتراب» بأنه يحمل جانباً من تجربته الشخصية بصفته مخرجاً ومنتجاً، وقرر أن «يغترب» عن السينما التي قدمها سابقاً في بعض الأعمال، فالاغتراب ليس فقط موضوع القصة، بل حالة عاشها أثناء صناعة الفيلم، إذ اختار الخروج من منطقة الأمان وتجريب طرق جديدة في الكتابة والتصوير والإنتاج.

إلى جانب «اغتراب»، يخطط هميلي لفيلمه الجديد «مواسم جنات»، الذي حصل على دعم من سوق البحر الأحمر عام 2021. الفيلم الجديد يتناول قصة عاملة في مصنع نسيج بجنوب تونس يقرر المستثمرون إغلاقه ونقل الإنتاج إلى بنغلاديش. تجد البطلة نفسها في مواجهة معركة للحفاظ على حياتها الشخصية وزواجها ومستقبل ابنها، في سياق يسلط الضوء على أزمة إغلاق المصانع في تونس وانتقالها إلى دول أخرى بتكلفة أقل، تجربة يصفها بأنها تنقل واقعاً قاسياً لكنها امتداد لاهتمامه بالمواضيع الاجتماعية والاقتصادية التي تمس حياة الناس اليومية.






