وودي ألن ما زال في العناوين العامّة رغم غيابه عن الإخراج منذ سنوات. آخر ما قدمه من أفلام كان Coup de Chance («ضربة حظ» 2023)، الذي لم يحفل به النقاد ولا الجمهور، باستثناء أولئك المدمنين على أعماله. تكلّف الفيلم نحو 8 ملايين دولار، وحسب الأرقام المودعة على المنصات لم يستردها.
في عام 2020 وضع سيرة حياته في كتاب بعنوان Apropos of Nothing («بالنسبة للاشيء») الذي لم تشأ دار Hachette المعروفة نشره، وانتهى إلى دار أصغر (اسمها Arcade). مع تراجع الاهتمام الجماهيري بأفلامه، ومع تلك الفضائح الأخلاقية التي وُصم بها (لن أقترح رأياً فيها هنا)، لم يكن غريباً أن ينجز الكتاب نجاحاً تجارياً محدوداً عاد معظمه لفضول القراء أكثر مما كان إعجاباً وتقديراً.
نقاد الكتب في الولايات المتحدة لم يرحموا تاريخ المخرج ولا كتابه. صحيفة «واشنطن بوست» اقترحت، بلا خجل، أن يُستخدم الكتاب كورق «تواليت» ووصفته بأنه «مناف للعقل». وانتقدت صحيفة «نيويورك تايمز» من بين أشياء أخرى، طريقة تعامل ألن مع المرأة، بينما اقترح ناقد مجلة «رولينغ ستون» أن يتم حرق الكتاب في المدفأة.
حتى تلك المراجعات النقدية المعتدلة (التي ظهرت في الصحف والمجلات البريطانية مثل «التايمز» و«سبكاتور» و«الغارديان») لم تكن إيجابية، بل وفرت بدورها ما اعتبره البعض «هجوماً وحشياً».
كتاب له وكتاب عنه
رغم ذلك، ما زال وودي ألن حاضراً.
في الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول) المقبل ستشهد سوق الكتب مؤلفاً جديداً له بعنوان «ماذا يحدث لبوم؟» What’s With Baum؟؛ الذي يدور عن روائي يهودي ناجح وضع مؤلفات وكتب مسرحيات، لكنه وصل إلى النقطة الفاصلة التي بدأ فيها يشعر بأنه فقد عقله.
الكتاب هو أول رواية من تأليف هذا الكوميدي الشهير. لكنه ليس الكتاب الأول الذي يحمل اسم ألن على الغلاف هذا العام؛ لأن هناك كتاباً نقدياً عنه ظهر قبل أشهر قليلة بعنوان «مهزلة السخرية من خدعة» (Travesty of a Mockery of a Sham) لباتريك ماكيليغن، وصدر عن دار «هاربر» المعروفة.

هذا كتاب فريد يرمي إلى وجهة نظر مزوّدة بحقائق... يصح كذلك القول إن الحقائق الواردة في الكتاب مزوّدة بوجهة نظر المؤلف في شخصية وأفلام وودي ألن.
ماكيليغن ليس جديداً في «كار» كتابة السير لمخرجي السينما وممثليها الكبار. وضع مؤلفات عديدة تناولت حياة وأفلام كلينت إيستوود وألفرد هيتشكوك ونيكولاس راي وأورسن وَلز وجاك نيكولسن وروبرت ألتمن وجيمس كاغني من بين آخرين. ودائماً، حسب ما قرأه الناقد منها، دائم الشمولية والرغبة في اكتشاف عناصر جديدة.
لا يهادن ماكيليغن ويعتمد منظوراً نقدياً هادفاً بصرف النظر عن نتائجه. يتطرق في بعض فصول كتابه الجديد إلى ألن المُنهك بسبب مداولات التهم التي وجّهت إليه في عام 2013 من قِبل صديقته آنذاك الممثلة ميا فارو عندما وجدت لديه صوراً إباحية لابنتها بالتبني. يلحظ الكاتب أن الاتهامات قبل ثماني سنوات لم تتسبب في الضرر ذاته الذي وقع عندما جددت ميا فارو اتهاماتها في عام 2020 أو نحوها. السبب هو صعود تأثير الصوت النسائي في القضايا المتعلقة بحقوق المرأة وحقوقها الاجتماعية والمهنية. محاكمة المنتج هارڤي وينستِن التي أودت به إلى السجن لنحو 30 سنة ما زالت ماثلة في هذا الشأن.
شخصيّتان متلازمتان
بالتالي، سقط ألن في شق الفترة المعاصرة، حيث الأحداث لم تعد مجرد فضائح تنشرها الصحف، بل لها نتائج أكثر ضرراً.
لا يدافع المؤلف عن ألن لأنه لا يقصد محاكمته بل عرض قضيته فقط. هذا لا يعني اعتماده دبلوماسية النقد مركزاً على حياة ممثل ومخرج ارتفع شأنه إلى القمة قبل أن يهبط في السنوات الأخيرة.
يلحظ بصراحة أن ألن «قصد دوماً الحديث عن يهوديّته في أفلامه حتى عندما أكد في بعضها أنه ملحد»، و«هو سليل الكوميديين اليهود أمثال (الإخوة ماركس) الذين عمدوا إلى إخفاء يهوديّتهم طمعاً للوصول إلى الغالبية المسيحية من المشاهدين».

ألن، بالنسبة للمؤلف، أعاد الكوميديا اليهودية إلى العلن. وهناك أفلام تؤكد ذلك بطبيعة الحال بدأت منذ فيلمه الثالث «موز» (1971)، لاعباً شخصية تائه بين التيارات السياسية اسمه فيلدينغ ميليش وشخصية ألڤي سينجر في «آني هول» (1977) مع دايان كيتون في البطولة، وكلاينمان في Shadows and Fog سنة 1983 (فيلم جيد نال أقل مما استحق من تقدير)، ثم - ومن بعد نماذج أخرى - «جرائم وجنح» (Crimes and Misdemeanors) في 1989.
في الوقت ذاته لا يقدم ألن نفسه في أفلامه على أساس متديّن. نرى ذلك في Zelig لاعباً دور يهودي يبحث عن دين آخر يعتنقه (1983). في «تفكيك هاري» (Deconstructing Harry) (سنة 1997) يقول لشقيقته التي تطلب منه الاقتداء بزوجها المتديّن: «لو أن والديك اختارا الدين المسيحي قبل نصف ساعة من ولادتك لكنت ولدت مسيحية»؛ بهذا ينفي التماثل الديني ويتبنى مبدأ للقدرية.
على ذلك يشكو لصديقه توني روبرتس في «آني هول» (1977) من أن الجميع ضده لأنه يهودي. هناك ذلك المشهد الذي يتخيل أن جدّة صديقته دايان كيتون تتخيله كحاخام.
هذا التوجه صوب ربط شخصيته الخاصة بشخصية أبطاله خفّ كثيراً عندما توقف عن التمثيل. عالج موضوعات عاطفية إما على نحو كوميدي أو كدراميات جادّة.
كتاب ماكيليغن نيّر وجديد من نوعه ويكشف، في 800 صفحة، عن أكثر مما ورد في هذا الحيز المحدود. يستند في جداله على وودي ألن باعتباره فناناً، وعلى شخصيته التي ارتداها في معظم أفلامه، مؤكداً في كل فصل منه أن هناك حقائق بديلة لما يمتثل على الشاشة أو في الحياة الخاصة للمشاهير.






