في دار «كريستيز» بحي سانت جيمس الراقي بلندن، يُقام معرض يحتفي بأحد أهم الفنانين العرب في القرن العشرين، وهو مروان قصاب باشي، المعروف باسم مروان. المعرض يحتل كل صالات الدار، وحتى في الممرات تجد لوحات للفنان السوري الراحل، تسرد رحلته مع الفن التشكيلي، وتعرض عبر اللوحات الزيتية والإسكتشات والرسومات عالماً عاش فيه مروان في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الـ21. يحمل المعرض عنوان «مروان: روح في المنفى»، وربما العنوان وحده يكفي لنقل المعاني والأحاسيس التي يعكسها كل عمل أمامنا؛ حيث يندمج الوطن والمنفى.

في عالم مروان الوجوه هي المرايات التي يطلع منها الزائر على عوالم ثرية ومشاعر عميقة، بعضها يعكس الضياع والحزن والجروح المتتالية في الروح. يتجاوز مروان في تصويره الوجوه فن البورتريه التقليدي، بعض الوجوه أمامنا تبدو مثل خريطة تضاريس بشرية تطل منها عيون، قد نتبين عبر التضاريس ملامح شكلية للشخص صاحب الوجه، ولكن ذلك لا يبدو مهمّاً هنا، فكل وجه يحمل ما هو أكثر من الملامح المعتادة، وربما الوصف الأقرب هنا هو تعبير الفنان نفسه إذا قال إنه «يرسم الأرواح»، وعبر بيان المعرض عن الوجوه بوصفها «بوابات ميتافيزيقية للجوانب الكونية للحالة الإنسانية».
ما يلفت أيضاً في وجوه مروان طبقات الألوان المختلفة والتضاريس المتموجة، حتى قد يبدو أن اللوحة تعرض تضاريس أرضية ينبغي للناظر أن ينقب داخلها عن المعاني الدفينة.
يعرض المزاد 150 عملاً لمروان، تشمل لوحات ورسومات وأعمالاً على الورق وإصدارات، من متاحف ومؤسسات رائدة ومجموعات خاصة في أوروبا والشرق الأوسط، ليقدم بذلك مسحاً شاملاً لمسيرة الفنان الفنية التي امتدت لستة عقود.

ينجح المعرض في تقديم سيرة كاملة لأعمال الفنان من «التشكيلية» المبكرة إلى المناظر الطبيعية وسلسلة الوجوه التي تتحول على يد الفنان لتصبح «مرآةً وأرضاً في آنٍ واحد»، وصولاً إلى سلسلة الدمى المتحركة. ومن ناحيته، وصف الدكتور رضا مومني، رئيس مجلس إدارة «كريستيز الشرق الأوسط وأفريقيا» المعرض بأنه «لحظة فارقة في تقدير إرث مروان».
مسيرة الفنان الراحل انطلقت من سوريا؛ حيث ولد عام 1934، ثم انتقل للحياة في ألمانيا في خمسينات القرن الماضي، ما جعل أعماله مرتعاً لعالمين، سوري وألماني، تركا أثرهما في فنه، وفي حياته.
وفي ندوة أقامتها الدار للحديث عن مروان وأعماله تحدّث كل من شيرين أتاسي مديرة مؤسسة «أتاسي» ومايكل هازنكلفر مؤسس «غاليري مايكل هازنكلفر» مع منسق المعرض الدكتور رضا مومني عن الفنان وعالميه السوري والألماني، وكان لكل من الضيفين إضاءات على جوانب شخصية وفنية للفنان الراحل.

خلال الحوار وجّه د. مومني سؤالاً لشيرين أتاسي عن موقع مروان في التراث الفني السوري، وأجابت بقولها: «أعتقد أن النظر إلى الفنان ورحلة حياته أمر بالغ الأهمية لفهم موقعه، بالنسبة لمروان، فهو كان سورياً، ولكنه كان ألمانياً أيضاً».
وتُشير إلى أنه لفهم مروان بصفته فناناً يجب العودة لبداياته: «إذا أردنا النظر إليه بصفته سورياً، أعتقد أننا بحاجة إلى العودة إلى طفولته ومصدر ذكرياته، فهو ينحدر من عائلة برجوازية أرادت له أن يكون مهندساً، ثم طبيباً، لكنه رفض ذلك».
وتشير شيرين أتاسي إلى نقطة مهمة لفهم الفنان مروان، وهي المكان الذي نشأ فيه، «عاشت عائلته في الجزء القديم من دمشق، في منزل تقليدي جداً، مع فناء ونافورة وكروم عنب وما إلى ذلك. كان يتجوّل في شوارع دمشق التي ترتبط في ذكرياته بالنور. عندما انتهى به المطاف في برلين، كتب إلى أحد أصدقائه المقربين رسالة قال فيها: (لم أجد حماساً بعد تجاه أي شيء أنجزته. ألا توافقني الرأي بأن سنتين أو ثلاث سنوات ليست طويلة، وبصعوبة تكفي ليجد المرء ما يريده حقّاً؟ هنا، لا نوافذ، كتلك التي في زقاقنا في الوطن. لا عشب ينمو بين حجارة الشوارع. فهل عليّ حقّاً أن أستمر في رسم أحلامي على نوافذ سوريا؟ ومتاجرها وأزهارها؟)»، وتضيف شيرين أتاسي: «أعتقد أن أزْمة الوجود بين عالمين كانت معه منذ البداية».

وتعرضت الندوة لعلاقات مروان مع الحركة الثقافية في العالم العربي، وصداقاته مع كبار المؤلفين والمفكرين الذين جمعتهم حوارات حول الأرض والهوية، وحوّل مروان تلك الصداقات إلى بورتريهات شخصية نجد عدداً منها في المعرض.
معرض «مروان: روح في المنفى» من 16 يوليو (تموز) إلى 22 أغسطس (آب).


